لا أعرف كيف إبتدأت علاقتي مع الليل ، في الطفولة كنت أخشاه ، كان منطقة غامضة محتشدة بالصور المرعبة عن الغيلان التي تفتك بالصغار ، أو الضباع التي قالوا لنا أنها تضبع الأنسان بأن تلقي عليه ببولها فينضبع !! ويسير خلفها - إلى حتفه - مسلوب الإرادة إلى كهفها لتلتهمه في النهاية ، وحتى نهرب من وحشة الليل و العتمة كنا نغطي رؤوسنا باللحاف و ننام ، تراودنا الأحلام المرعبة بعد سماعنا لقصص الجدة التي لم تكن تعرف وقع قصصها علينا .. لم يكن في بيوتنا كهرباء ، لمبة الكاز الوحيدة في البيت ما أن تطفئها أمي حتى يغرق المنزل الطيني في الظلمة و الأشباح الشريرة و الجان ، الليل كان بالنسبة لنا مساحة مشَرعة للرعب و فراغ أسود لا حدود له ، نكزُ فية على أسناننا و نغمض عيوننا بشدة إنتظاراً للصباح ، وكأننا نردد قول الشاعر : ألا أيها الليل الطويل فإنجلي ..
كبرتُ .. وتبدلت علاقتي مع الليل ..
في الحارة كنت شاباً خجولاً منزوياً إلى حدٍ ما ، لم أكن أحب مخالطة أولاد الحارة ، كنت منهمكاً في قرائآتي و رسوماتي .. فما أن أدخل البيت حتى أغلق عليَ غرفتي بعد أن أضع فوق ستارة النافذة بطانية داكنة لكي أحجب ضوء النهار ، و أضيء لمبة زرقاء خافتة و أستغرق في الظلمة الزرقاء ، في هذه الغرفة المعتمة كنت أستمع إلى موسيقى خاصة ، طبول و أصوات أفريقية بدائية أخذتني بعيداً .. في هذه المرحلة كنت آخر من ينام في الحارة المزدحمة بالمنازل المتلاصقة و أنفاس الفقراء و هذه العادة المرهقة أتعبتني زمناً وصرت أجاهد للصحو في الصباح للذهاب إلى المدرسة ، وبعد حين .. للعمل في وزارة التربية كرسام في المناهج المدرسية ، مما أدى إلى تراجع أدائي في المدرسة ( كنت ألأخير في الصف ) كنت أيامها أجلس قبالة نافذة بيتنا أتأمل الحارة الهادئة النائمة و أكتب في دفاتر ذكرياتي بعض النصوص بعنوان " من أوراق الليل " وهي نصوص مُغرقة في الوحشة تتناول بمجملها كائنات هامشية تتضوع ألماً و وحدةً آخر الليل ..
و فيما بعد إهتديت إلى موسيقى الجاز .. أنفاس عازف الساكسفون المحروقة إختلطت بأنفاسي و تماهيت في العتمة و الموسيقي و الأفكار المجنونة الغامضة التي توفرها مثل هذه الأجواء .. في الحارة أيام الصبا .. وفي الغربة -عندما تبدلت الأحوال و الجغرافيا - عندما عملت في إحدى دول الخليج و توفرت لي مساحة قسرية من الوحدة و مجموعة من الأشرطة الموسيقية الغرائبية ، و حتى عندما أتيت إلى " هنا " إحتفظت بنفس الأجواء ، ظل الليل صديقي .. ملاذي و مأواي .. رفيق وحدتي و أنيسي .. هذا الأسود العميق الداكن .. ما أن يأتيني حتى ألقي بنفسي إليه .. و أ صير منه وفيه جزءاً تائهاً مسحوراً..
تماديت في اللعبة الليلية و لم أعد أقوى على الإنسجام مع النهار ، صار يرهقني الضوء القوي بما يسبغه على الأشياء و الناس من وضوح ٍمرهق ٍللعين و المخيّلة .. التفاصيل الكثيرة شديدة الوضوح :
.. السمات القاسية في النهار لوجه إمرأة عابرة كنت أحببتها ذات ليلة ، ..العالم العادي حد الضجر .. تصاريف العيش .. العلاقات العادية بينك وبين الناس .. الأهل .. الوطن ! الضرائب ..الفواتير.. أبواق السيارات .. وجوه سائقي التاكسيات المتَعبة ..صراخ الباعة .. أصوات الأغاني الرخيصة المنبعثة من منزل الجارة في المنزل المقابل .. ضجيج السيارات و أبواقها المدوية طوال النهار بلا ضرورة و لا مغزى ..محصل فواتير الكهرباء الذي يعاملنا كمجرد عدادت تستهلك الكهرباء والهباء.. رائحة الدنيا و الطبيخ الدسم الذي يفوح من ثنايا الجدران المجاورة .. روائح صابون الإستحمام الصباحي ممتزجاً بروائح مواد تنظيف الناس و العالم ..الهايبكس ..الكلور .. السعال الصباحي للتخلص من البلغم بسبب التدخين الذي يسبب أمراض السرطان والرئة والقلب و الشرايين ( الضريبة مدفوعة ! ) .. الصبيان الذين يشبهون الجراثيم العالقة على الأرصفة أمام مدرسة البنات .. بائع اليانصيب بوجهه المستجدي الشاحب البائس المتمترس في ذات الزاوية منذ ربع قرن .. فوضى البيت بعد سهرة الأمس مع غرباء إحتلوا بيتك بالأمس لأنهم يعتقدون أنهم أقاربك أو أصدقائك .. مسحة من الخيبة والخواء العاطفي بعد ممارستك طقس جنسي باهت كان مخصصاً في الأصل لضرورة إستمرار النوع البشري إذعاناً لمقولة تناسلية ترى أننا يجب أن نتكاثر ..هكذا ..!! لكي نباهي بأعدادنا الأمم .. ( ماذا عن الصين ؟! والحرب الإلكترونية ؟! ) كل ما هو قبيح و قاسٍ ..كل ما يأخذني مني و يحولني إلى شيء ..عادي واضح سمج و ممل ..
أنا الكائن الليلي أعترف بما يلي :
أيها المخلوقات النهارية .. أنا لا أحبكم وفقدت القدرة على الإنسجام معكم .. لا تعنيني الآن أفكاركم عن ضرورة الإنتاج و أهمية الإنتظام في الوظيفة أو فكرة إعمار الكون ! أنا المتألق وحدي آخر الليل .. الوحيد حد الثمالة و البكاء .. لقد وجدت نفسي بالصدفة بينكم ذات نهارٍ ما .. حاولت جاهداً أن أعرفكم ولم أعرفكم ..
بحق السماء من أنتم ؟
أيتها المجاميع ( العادية ) من البشر .. أنا الموبوء بالوحدة .. المسكون بالريبة بالشك .. بالقلق.. بعدم اليقين الذي تمتلكونه بفخرٍ لايقوى عليه إلا من كان بمستوى حكمتكم و سذاجتكم .. يا أنتم ( أصدقائي !! مثلاً ) عليكم اللعنة جميعاً .. إلا من واحدٍ فقط .. أعلى منكم مكانةً ومني أيضاً ..
الله.. ما أجمل من هذا ؟.. أنك تستطيع بعد كل هذا الخراب العظيم أن تعترف أنك حصلت في النهاية من هذه الدنيا على صديق واحد فقط .. لا تلتقيه كثيراً ، يفهمك ، يحس بك ولو عن بعد ، تشعر أن ثمة خط روحي سرَي يجمعكما مهما إبتعدت إو إقتربت المسافات ، هو يشبه الصورة المثلى التى تكوَنها أو تتمناها لنفسك .. هو ذاتك ( الأنا ) العليا الأخرى البعيدة القريبة .
صار طقساً مقدساً عندي ، أنني كل ليلة أهيء نفسي للسهر منفرداً .. إلا من بعض العابرين .. الأشباح الذين يبحثون عن مكان ما يأتون إليه أو يأويهم لسويعات آخر الليل . . و يمضون .. يذهبون من المكان .. ومني . وأظل بعد جلائهم أنظف المكان مما تساقط من فضلات مبادئهم و ثرثراتهم و أعقاب سجائرهم التي ينثرونها حولهم على المقاعد والمنافض وعلى الأرض تحت الطاولة ، و أفتح النوافذ لإخراج طنين صدى أصواتهم من على الجدران و أذنيّ ، ثم أشعل الموسيقى لتطهير المكان ( أنا ..) ، كما صارحني صديق شاعر ذات يوم و قال لي أنني بالنسبة للكثيرين من أصدقائنا مجرد مكان !
في الليل وجدت لنفسي صديقاً حميماً ، هو أو هي ، الكحول بشتى أنواعها و ألوانها الأخاذة ، البيضاء ، الصفراء ، الحمراء ، الوردية ، الشفافة .. وما تفعله هذه الكيمياء العجيبة بالعقل المجّهد والنفس الخاوية و القلب العليل و الكبد و الأعصاب و الوجدان ، وقد غازلتها بنصٍٍ كان عنوانه " المجد لكل ما يؤجل موتي " وفي هذا الظرف تنتابني جرأة غير عادية فأبعث – على الهاتف الجوال – رسائل غزل جريئة إلى صديقات كثر لا ألبث في اليوم التالي أن أعتذر لهن ، بدعوى أنني كنت ثملاً .. أو أنني لم أكن أقصد هذه الصديقة بالذات ، و أن في الأمر خطأ ما ، مع أنني أعرف أن إحداهن كانت تتمنى علي أن أمتلك الجرأة – في النهار – و أصارحها بشيء كهذا ..ولكن ماذا أفعل إذا كنت و هذه المرأة كلانا يعيشان في توقيتين و مزاجين مختلفين ، هي في النهار .. و أنا في الليل ..
أجلس و حدي الآن قبيل الفجر بقليل وقد أعياني السكر و السهر .. رفيقتاي قارورة " فودكا " محلية في رمقها الأخير و بعوضة حقيرة تطن و تدور حول بدني وقرصتني اكثر من مرة في رقبتي و وجهي ويداي .
أنا - الآن - أراقب إنسحاب الليل عن سماء المدينة و أتأمل تغيّر الألوان ..الأسود الحالك بدأ يتحول إلى الزرقة الداكنة .. تدريجياً تنفتح هذه الزرقة إلى الأزرق الفضي .. ثمة ضوء شاحب بدأ يتسلل من البيوت و الجبال ، مسحة ضبابية تغشى سماء المدينة و بصري و روحي .. هي أجمل لحظة ما بين الليل و النهار ، .. أنتظرها كل يوم قبيل بزوغ الشمس بقليل ، هي اللحظات الحاسمة الدقيقة التي تفصل ما بين عالمين ..
لحظةٌ من الوجد جديرة بأن تعاش .
في السبعينيات كان التلفزيون الأردني يعرض برنامجاً أجنبياً اسمه "منطقة الشفق " كان المقدِم يقول في بداية البرنامج :
( ما بين النهار والليل ثمة منطقة تسمى منطقة الشفق ، هي منطقة تقع مابين الليل و النهار ، ولكنها ليست الليل أو النهار ، في الحياة ثمة منطقة مشابهة ما بين الواقع والخيال .. هنالك بعض البشر لا يزالون يعيشون في مثل هذه المنطقة !! . )
..ستصحو بعد قليل الكائنات النهارية لتمارس نفس اللعبة ، و سأهرب إلى النوم لأصحو في المساء و أمارس - مرةً أخرى - نفس اللعبة اللذيذة المضنية .. السهر.. وكتابة مثل هذا الأنين .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.