منذ أن تحدث آبل جونز سنة 1926 عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا، وقد أشار بعده الناقد والمحلل السيميائي رولان بارت(Roland Barthes) في مقالته المشهورة "بلاغة الصورة" في مجلة "تواصلات" عدد 4 سنة 1964 بأننا نعيش "حضارة الصورة"، بالرغم من التحفظات التي أبداها بارت بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه، حيث إن حضارة الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية، مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا(Système sémiotique) لا يمكن، كما يرى بارت، أن يدل أو يخلق تدلالا(sémiosis) تواصليا إلا من خلال التسنين اللساني،
فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في غياب العلامات(Signe linguistique) اللسانية، لأن معانيها عائمة متعددة، والتواصل لا يتم بتاتا من السديم، ومن العماء.
تعد الصورة بذلك من المفاهيم التي لا يمكن أن نجد لها تعريفا جامعا مانعا، لأنها موضوعة مرتبطة بجميع مجالات الحياة، بدءا من نواة المجتمع(الأسرة) مرورا بالمدرسة، وكل ما يرتبط بالتنشئة الاجتماعية(Socialisation) عموما؛ ولعل هذا ما جعل منها لا تستقر على حال.
ففي ثقافتنا العربية نجد الصورة يتجاذبها المقدس والمدنس، إلى حد أنها وصلت مستوى التحريم لارتباطها بإعادة الإنتاج استنادا إلى المخيلة والمصورة. وفي ذلك يرى ابن منظور أن الصورة ترتبط بالتخيل والتوهم، فتصورت الشيء توهمت صورته، والتصاوير التماثيل، ولعل هذا المعنى الأخير للصورة جعلها مزدراة لأنها متعلقة بالأوثان.
أما في الثقافة الغربية فتمتد كلمة صورة إلى الكلمة اليونانية (Icon) التي تشير إلى التشابه والتماثل، والتي ترجمت إلى (Imago) في اللغة اللاتينية و (Image) في اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية مع اختلاف في النطق. ويتفق معجما لاروس(Larousse) وروبير(Robert) في أن الصورة هي إعادة إنتاج شيء بواسطة الرسم أو النحت أو غيرهما، كما يشيرا إلى الصورة الذهنية(Image mentale) المرتبطة بالتمثل(Représentation).
لكن ما يهمنا في هذا الصدد هو التعريف الذي قدمه ألجرداس جوليان غريماص (A.G.Greimas) رائد السيميائيات السردية(Sémiotique narrative) الفرنسية للصورة في معجمه السيميائي "القاموس المعقلن لنظرية اللغة" يقول: "الصورة هي كل دال"، وهذا التعريف هو الشائع في الدراسات السيميائية خصوصا منها السيميائيات البصرية (Sémiotique visuelle)التي تتخذ الصورة موضوعا لها.
وقد مر على البحث في الصورة مراحل عدة ارتبطت بالتصورات الفلسفية ابتداء، ثم انتقلت إلى علماء النفس والسيميائيين وغيرهم. إن المتتبع للدور التربوي والتعليمي للصورة يجد أن الأمر يتعلق بمدى مساهمة علوم التربية في تجديد النظر إلى الوسائل التعليمية التعلمية المبنية على الوسائط، حيث يتم النظر إلى الصورة باعتبارها وسيطا في المثلث الديداكتي(المعلم والمتعلم والمادة الدراسية).
لكن كل المساهمات التربوية المرتبطة بها مستمدة من تطور العلوم المعرفية في عمومها، خصوصا أبحاث بعض رواد علم النفس المعرفي أمثال جان بياجيه( J. Piaget) و ميشيل دونيس (M. Denis) وبيليشن(Pylyshyn) وكوسلين( Kosslyn) وبيفيو(Paivio) ونيسر(Neissr)... حيث يتم استثمار مختلف نتائج الأبحاث المرتبطة بهذا الحقل المعرفي حول الإدراك (Perception)، والانتباه(Attention)، والذاكرة(Mémoire)، والتمثل، وبناء الصور الذهنية، والنمو المعرفي، وغيرها من مجالات اهتمامات علم النفس المعرفي.
ويمكن أن نخلص إلى أهم التصورات النفسية التي عالجت موضوع الصورة في:
- الحقبة التي واكبت الكتابات الترابطية (Associanisme)؛
- العلوم المعرفية بمختلف اتجاهاتها خاصة منها علم النفس المعرفي؛
- نظرية الجشطالت(Gestalt ) الألمانية؛
- الذكاءات المتعددة ؛(Multiple intelligence)
فقد شكلت الترابطية في القرن التاسع عشر الاتجاه التحليلي للصورة، متخذة الفلسفة التجريبية مع جون لوك(J.Lok) ودافيد هيوم(D.Hume) سندا لها في البحث في الصورة، فالترابطية ترى أن الإحساس هو أساس المعرفة، فقد استطاع فرانسيس جالتون(F.Galton) تقديم مساهمة فعالة، حيث بلور طرقا إحصائية واختبارات مختلفة، استطاع من خلالها قياس قدرة الفرد على اختزان الصورة واستحضارها، كما كانت لفيشنر (Fechner)اهتمامات بالغة بالصورة، دفعت علماء النفس إلى إعادة النظر في الأدوار التي تطلع بها.
فإذا كان الإحساس في المنظور الترابطي هو المعرفة الأولى، فإن الصورة تظل المعرفة الثانية بوصفها استرجاعا للإحساس، فالصورة الموجودة لدي عن قسمي هي نتاج إحساسي بشكل القسم وألوانه، والإحساس باللون هو ترابط أحاسيس أخرى.
لكن الصورة لم تجد مكانها الطبيعي إلا مع الاتجاه المعرفي خصوصا مع أعمال بياجيه وإنهالدر(Inhelder)، فالصورة عند بياجيه تحضر وتؤثر ابتداء من السن السابعة، وإن كان يشير إليها منذ المرحلة الحسحركية(Sensori-motrice)، لأن ما يميز المرحلة بعد السابعة هي العمليات(Opérations)، والعملية في عرف بياجيه فعل يكون دافعه الإدراك أوالحدس(Intuition)، وتباعا لبرونر(J.S.Brunner) وبياجيه تم البحث في فرضية التسنين (Codification)الواحد الذي يجمع بين دخل(Input) المعلومات الصورية، ودخل المعلومات الكلامية اللفظية.
ويميز بياجيه في بحثه في الصورة بين نوعين منها: صور منتجة(Images productrices) وصور توقعية(Images anticipatrices)، فالصور المنتجة هي الصور التي يستحضر العضو بوساطتها أشياء وأحداث معروفة سالفا وسبق له أن أدركها، أما الصور التوقعية فهي تلك الصور التي لا تستند إلى ما سبق، بل إلى الخيال عن طريق توقع أحداث ووقائع لم يسبق للفرد رؤيتها وإدراكها من قبل.
والصورة عند بياجيه ليست امتدادا للإدراك، بل هي عملية ذهنية مرتبطة بنشاطات ذهنية، وهذا التصور هو ما يميز الاتجاه المعرفي عموما عن باقي الاتجاهات الأخرى في تصورها للإدراك الإنساني (أنظر تصورات إيكو(U.Eco وبورس(Ch.S.Peirce وجاكندوف ودونيس ...).
أما النظرية الجشطالتية الألمانية (Gestalt بالألمانية تعني شكل) فيقلل روادها كوهلر(Kohler) وكوفكا(koffka) وبول كيوم (P.Guillaume)من دور الثقافة والانتباه في الوظيفة الإدراكية، ويرون أن العالم والصور يفرضان بنياتهما على الذات الناظرة المتأملة، ويذهبون كذلك إلى أن إدراك صورة ما هو إدراك مباشر وحدسي، والذات تدرك الشكل كمجموعة لا فاصل بين عناصرها.
تنقسم الصور المدركة عند الجشطالتيين إلى عمق(Fond) وشكل(Forme) حيث يمكن أن تؤثر طبيعة العمق في الصورة، وهذا ما يفسر عددا من الأوهام الإدراكية (Illusion)(أعطت النظرية الجشطالتية أهمية قصوى للأوهام الإدراكية في بنائها النظري الشكلي).
وعموما فقد قدم الجشطالتيون خمسة قوانين لإدراك الصورة:
1- قانون الصغر: الشكل الصغير يبرز عن عمق أكثر كبرا؛
2- قانون البساطة: الشكل البسيط أبرز من الشكل المعقد؛
3- قانون الانتظام: التقسيم المنظم للأشكال يؤثر في العملية الإدراكية؛
4- قانون التقابل: التقسيم التقابلي لعناصر شكل معين يؤثران في الإدراك؛
5- قانون الاختلاف: الشكل المختلف الغريب يبرز بشكل أفضل؛
وهذه القوانين مهمة جدا في انتقاء الصور سواء كانت لأهداف بيداغوجية أوغير ذلك، حتى يمكن أن تؤدي الدور المنوط بها.
أما نظرية الذكاءات المتعددة التي اقترحها هاورد كاردنر(H.Gardner) فتشير إلى ثمان ذكاءات تميز التفكير الإنساني برمته وهي: الذكاء المنطقي الرياضي، الذكاء اللغوي، والذكاء الحسي الحركي، والذكاء الموسيقي، والذكاء الطبيعي، والذكاء الذاتي، والذكاء التفاعلي، والذكاء البصري الفضائي؛ وهذه الذكاءات كما يشير كاردنر ليست حصرا فهي قابلة للزيادة.
وقد أشار كاردنر في حديثه عن الذكاء الفضائي إلى أن هذا الأخير يخص في غالب الأحيان بعض الأشخاص الذين يتميزون بذاكرة فضائية، حيث يتمكنون من تذكر أماكن وفضاءات بمجرد أن يروها لأول مرة، كما أن بإمكانهم أن يتعلموا بطريقة أفضل عن طريق الصورة.
الصورة والتعلم
لقد حاولت في النقاط السالفة التنبيه فقط إلى بعض النظريات التي اهتمت بالصورة وأشارت لماما إلى دورها الوظيفي في العملية التعليمية التعلمية، وقد ارتأيت من خلال ذلك الإشارة إلى أن مبحث الصورة ليس وليد اليوم، وإنما كان ضمن تصورات نظرية مختلفة، لكن للأسف مازالت الأبحاث العربية المتخصصة في هذا المجال نادرة.
لا يمكن لأي صورة أن تكون صورة بيداغوجية إلا إذا احترمنا في اختيارها مجموعة من المعايير الكفيلة بجعلها أكثر أداتية، خصوصا منها المعايير الجشطالتية، كما أن على المتعلم نفسه أن يتحلى بمجموعة من القدرات والخبرات التي تساعده في إدراك الصورة، نختزل هذه القوانين المشتركة بين الصورة ومتقبلها ومنتجها في التقاط الآتية:
1- الانتباه؛
2- الثبات والدوام (Constance)؛
3- التحفيز (Motivation)؛
4- التنظيم (Organisation)؛
5- الوجهة والعماد؛
6- الخبرة والموسوعة الإدراكية.
7- التشويه أو التحريف؛
8- الخداع الإدراكي؛
9- الشكل والعمق؛
فلا بد للمتعلم في إدراك الصورة أن يكون منتبها، لأن الانتباه هو الحركة الأولى في العملية الإدراكية تليها عملية الإحساس، حتى يمكنه أن يستدخلها في صورة ذهنية يستثمرها استقبالا، ويفترض فيه الثبات والتركيز على الصورة من حيث مكوناتها وعناصرها، فكلما طال التركيز ودامت نظرته كلما استطاع فهمها واستيعابها.
ولا بد من أن تكون له رغبة وحافز للتعامل مع الصورة، وهذا التحفيز يفرض على منتج الصورة أن ينتقي الصور التي تشبع رغبات التلميذ التي تختلف بحسب الميولات والتنشئة الاجتماعية.
فإذا كانت الصورة لا تلبي رغبة المتعلم فهي بذلك صورة غير بيداغوجية، أما التنظيم فيرتبط بتنظيم مكونات الصورة حتى تبدو خاضعة لنسق معين، والتنظيم مرتبط كذلك بوجهة تلقي الصورة من قبل المتعلم، فعماد الصورة يؤثر في تلقيها عموما، كما يفترض في الصورة أن تكون من جنس التنشئة الاجتماعية للمتعلم، وتنتمي إلى موسوعته الإدراكية، فالصور التي ليست جزءا من خبرات المتعلم السابقة ستكون عصية على الاستيعاب، وهذا ما نلمسه لدى المتعلم الصغير عندما يصادف صورا في الكتاب المدرسي لا عهد له بمرجعها الثقافي، حيث تبقى عنده مجرد أولانيات كما عبر عنها بورس، لا يستطيع تذكرها ولا يحصل له الإدراك بصددها.
كما ينبغي للصور أن تكون خالية من التشويه أو التحريف، بل يجب أن تكون بسيطة في عناصرها، لأن الهدف ليس الصورة في ذاتها، بل ما تقدمه من أدوار تعليمية تعلمية، والتحريف قرين الخداع الإدراكي، كما ينبغي أن يكون العمق فيها عاديا بسيطا، ويستحب أن تكون في المراحل الأولى من التعلم ثلاثية البعد. لأن الطفل في بداية تعلمه لا يستطيع أن يسقط الأشياء ذات البعد الثلاثي على مساحة من بعدين اثنين.
أهمية التعليم بالصورة
يعتقد كثير من المحللين التربويين أن نسبة 80% إلى90 % من خبرات الفرد يحصل عليها عن طريق حاسة البصر، كما أن مبدأ سيكولوجيا يقول: إن الفرد يدرك الأشياء التي يراها إدراكا أفضل وأوضح مما لو قرأ عنها أو سمع شخصا يتحدث عنها، فالصورة كفيلة بتطوير كافة عناصر العملية التعليمية التعلمية، وجعلها أكثر فاعلية وكفاية، فلم تعد الصورة وسيلة إضافية فضلة، بل غدت مهمة في العملية التربوية لما تقوم به من أدوار نذكر منها:
1- إنها تستثير اهتمام المتعلم، وتنبع من احتياجاته ورغباته، حيث إن الصور الثابتة أو الأفلام، أو المجسمات أو غيرها تقدم معارف مختلفة، يستطيع المتعلم من خلالها إشباع رغباته، مما يحقق أهدافه، وكلما كانت الصورة أقرب إلى الموسوعة الإدراكية للمتعلم، وتنشئته الاجتماعية كلما كان دورها التربوي أفضل وأعظم.
2- الصورة تجعل المتعلم أكثر استعدادا لتقبل المادة المعرفية، حيث تساعد على إشباع الرغبة والزيادة في تقوية وتحسين خبرات المتعلم، وهذا ما نلاحظه عندما نقدم للمتعلم فلما يتعلق بمادة دراسية معينة(فقد لاحظت مثلا في فلم "اللص والكلاب" عن رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ أن التلاميذ كانوا أكثر ميلا إلى مشاهدة الفلم من قراءة الرواية، كما أن استيعابهم لأحداثها كان مضاعفا بالنسبة للتلاميذ جميعهم عندما شاهدوا الفلم)، إن استعانة المدرس بالصور تهيئ الخبرات اللازمة للتلميذ، وتجعله أكثر استعدادا للتعلم.
3- تدفع الصورة المتعلم إلى إشراك جميع الحواس (الحس المشترك) في الدراسة والاستيعاب، وتشحذ ذهنه نحو التفكير والتأويل والتحليل، وهذا ما يجعله استقبالا قادرا على تدقيق الملاحظة، واتباع المنهجية العلمية في التعلم، والحكم، والتقييم، والتقويم في الوصول إلى حل المشكلات بمختلف أنواعها.
4- تساعد الصورة في تنويع أساليب التعلم مواجهة للفروق الفردية بين المتعلمين، لأن لكل متعلم ذكاء خاص، يختلف عن باقي ذكاءات زملائه، وبهذا التنوع في الأساليب يمكننا أن نشبع رغبات الجميع ونحقق الأهداف التربوية.