هناك شاب مقدسي اسمه فراس المراغي قرر أن يخوض إضراباً عن الطعام أمام السفارة الصهيونية في برلين اعتباراً من 26/7/2010 لأن الكيان الصهيوني رفض منح بنته إقامة في القدس كونها ولدت في ألمانيا. ومن المعروف (وكثير من العرب لا يعرفون) أن سكان القدس العرب لا يمنحون جنسية “إسرائيلية” بل يعتبرون (كأي مواطن أجنبي) مقيمين في وطنهم ويفقدون حق الإقامة إن سافروا لمدة معينة.
ذهبت بعد أن وصلني الخبر بالإي ميل إلى شارع السفارة المذكورة متوقعاً رؤية هذا المواطن في خيمة مثلاً وقد اجتمع حوله عدد من العرب المقيمين هنا لكن لم أجد في الشارع شيئاً أو أحداً، وبينما أنا سائر سمعت أحداً يسلم علي فالتفت وكان هو: كان مستنداً إلى شجرة على قارعة الطريق وثمة “بطانية” مغبرة مطوية ووراءه تلك الحقيبة التي ذكرت مرة في شعر محمود درويش الذي
زعم أن وطنه ليس حقيبة وأنه ليس مسافراً! لم يسمح له بنصب خيمة فهو ينام مفترشاً الأرض ملتحفاً السماء.
ليس الفلسطيني فقط بل كل عربي هو مشروع مسافر، ووطنه حقيبة تنتظر التجهيز إن جاءت فرصة سفر أو وهم فرصة.
كم عربياً يموت في السنة أثناء محاولات خطرة للهجرة غير الشرعية؟ هل سمعتم بآخر فكرة خطرت على بال ذلك الشاب اللبناني الذي جدد في طرق المحاولات المميتة للهجرة فلم يختر قارباً بل حاول التسلل إلى طائرة فتمزق في الجو؟ اسمه للصدفة فراس أيضاً، ولم يجد أدباء لبنان المنشغلين بصراعات الطوائف باسم الديمقراطية والسيادة والحرية والاستقلال داعياًً لاستلهام هذه المحاولة المأساوية ولو في “إبداع” نص واحد! كان فوزي المعلوف مرة قد استلهم ملحمة كاملة من رحلة جوية قصيرة (انتهت على خير!) قام بها، ولكن كان ذلك زمان والآن زمن آخر.
جلست مع فراس وتحدثنا ثم ودعته بعد أن سألته إن كان يريد شيئاً فطلب مني جلب ما تيسر من مقالات صحفية تنشر في الإنترنيت! وما الذي يريده شخص يبحث عن هوية له ولبنته؟ لا يريد إلا اعترافاً رسمياً من العالم بأنه إنسان ينطبق عليه ما وقعوا عليه من “إعلان كوني universal لحقوق الإنسان”، ولهذا وضع وراء ظهره قطعة كبيرة من الورق المقوى كتب عليها ما يظنه ينطبق عليه من فقرات ذلك الإعلان الكوني (أو الكلي لأن كلمة universal تعني كما هو معلوم في الفلسفة “الكلي” الذي يشمل الجزئي ويدركه العقل، كل عقل) لحقوق الإنسان التي تقول إن من حق كل فرد أن يعيش في وطن يخرج منه ويعود إليه بحرية!.
ليس مقالي هذا مقالاً سياسياً عن فلسطين وأحد أبنائها بل هو مقال يتوخى الصدق يصف مأساة واقع العرب للعرب كما هو عليه: هو للعرب عن عربي. يا قوم: أنتم لا في العير ولا في النفير. وطنكم سينكر عليكم كما أنكر على فراس وابنته. هل سمعتم صوت إلهام شاعر عربي منذ مطلع القرن العشرين ماذا قال بمناسبة دمشق لكنه عمم لأنه كما قلت انطلق من إلهام أي رؤية حدسية صادقة للكلي وراء الجزئي ولما ينطبق على الأمة بأسرها وراء ما جرى لجزء منها؟
قال: “وللمستعمرين وإن ألانوا..قلوب كالحجارة لا ترق!”
ليس الحل بالهجرة، وكما يعلم القارئ أنا أول من يعارض الرأي القائل أن الحل هو في محاولة استلام السلطة بالعنف من حكامنا الفاسدين. بل أنا لا أرى أصلاً فائدة من محاولة استلام السلطة بأي شكل كان حتى لو بالسلم!، لأن المطلوب أن يملأ كل فرد منا الشعور الغامر بالخطر على الوجود فيدفعه لتغيير جذري في سلوكه الحضاري الذي يؤبد انحطاطنا ودونيتنا في سلم الحضارة المعاصرة. وقبل ذلك لا فائدة: نحن في أسفل السلم!.