يُستخدم غالباً لفظ "الجرأة", و"التحدي" و"التمرد" في معرض تقديم المديح لبعض الكتابات والنتاجات الأدبية, وخصوصاً تلك التي تسطرها الأديبات والكاتبات من جنس حواء (وإن كان تمرد بعضهن يتخذ شكلاً يبعدهن عن الأنوثة, ويحاولن جاهدات التخلص من سبة الأنوثة).
ومن خلال متابعة المكتوب حول المقصود من هذه الأوصاف اللفظية المدحية الكبيرة التي يسبغها النقاد على هذه النتاجات نجد أن الكاتبة أو الأديبة التي أُنعم عليها بها قد تخلت عن
"تحفظها" ووصفت لنا علاقاتها مع الآخرين (وخصوصاً غرامياتها ومغامراتها العاطفية والجنسية), وتحدثت عن (جسدها) ووصفته بدقة (تتميز بها بنات حواء), و"تمردت" على مجتمعها (الذكوري المحافظ) فلعنته وكشفت (تناقضاته), و"قاومت" قيود مجتمعها عامة وخصوصاً سلطة الأب والأخ....إلى آخر هذه الترهات التي لا تعني عندي, (وأقولها "بجرأة" سأحسد عليها بالتأكيد) غير "قلة أدب"!.
كثيرة هي النتاجات التي سمعت عنها أو قرأتها لبعض الكاتبات (الجريئات), وجميعها, كما وصفت, تتميز "بقلة الأدب" و"غياب الحياء" (حيث وصف الحياء صار سبة بالنسبة لهؤلاء بعد أن كان المثل يقول "الحياء زينة المرأة"), وجميعها تقريباً يجمعها رابط واحد وهو الحديث عن الجنس ووصف العوالم الداخلية للمرأة والكبت الذي تتعرض له ممن حولها وأساليب تغلبها على هذا الكبت...إلخ, لكن المثير للأسف هو الترويج والتهليل الذي تُقابل به هذه النتاجات حتى صارت (قمة الإبداع), وصار كل من ينتقدها (متخشباً, ذكورياً, مستبداً, خانقاً للحرية, ظلامياً, إرهابياً, جباناً,....إلخ), بل إنها تحفل (بنعمة الترجمة للغات الأخرى), فتنطلق للعالمية وتمول نشرها جمعيات أجنبية, (أقول بجرأة أيضاً سأحسد عليها, متحدية منتقدي نظرية المؤامرة), همها تغيير المجتمع وثقافته ومحاربة قيمه تحت مبررات كثيرة, تخدم غايات غير نظيفة إطلاقاً.
والفرحة الكبرى للمثقفين المتحررين عندنا عندما يُمنع كتاب أو رواية (بعيدة عن الأدب), تكون كاتبتها طبعاً "امرأة متمردة", كتبت عن جسدها وغرامياتها وطقوسها الجنسية!, (وقتها يصبح حالهم كحالة الندابة التي وجدت جنازة لتشبع رغبتها باللطم والعويل), عندها تُشهر الأقلام الجريئة لمحاربة الظلاميين, وشتم المجتمع المحافظ المتخلف القامع للحريات, ولنصرة الكاتبة المتمردة المقموعة, وإسباغ صفات الإبداع والتحرر والقتالية والتضحية وووو.... على نتاج هذه الكاتبة المحاربة.
ولا أنسى تلك الضجة الكبرى والانتقاد اللاذع الذي وُجّه لمحمد كامل الخطيب الذي امتنع يوماً عن نشر رواية تافهة تصف علاقات مقززة وجد أنها لا تمت إلى الأدب بصلة, كتبتها إحدى الكاتبات ونالت عليها جائزة (في وقت صارت فيه الجوائز تعطى وفق معايير خاصة ليس بينها معيار القيمة الأدبية غالباً), وقتها حُورب وهوجم بحجة قمعه وخنقه للإبداع!.
الملاحظ اليوم أن معظم الكتابات الأدبية الرائجة والمحتفى بها إعلامياً ونقدياً هي من هذا النوع الذي يتمحور حول ذات المرأة وجسدها وممارستها الجنسية, وكأن الأدب ليس من مهمته في هذه الحياة سوى التعبير عن ذاتية الأديب وخواطره وشهواته وعوالمه, وكأن كل مشكلات المجتمع التي يجب على الأديب أن "يعريها" تتلخص بمعاناة المرأة المقموعة جنسياً, المحرومة من التعبير عن ذاتها والتصرف بجسدها كما تشاء, فقد لخص هؤلاء مشكلات المجتمع في الذات الأنثوية المتمركزة حول نفسها, وركزوا على إبراز تساهل المجتمع مع الذكر وعلاقاته, وتجريمه للمرأة ومحاكمتها, مع أن المجتمع عموماً لا يحترم الرجل الزاني الخارج عن قيمه وحدوده, ولا ينظر له بعين التسامح حتى لو لم يتجه لمعاقبته كما هو الحال مع المرأة, وبالتالي فإن المجتمع حتى لو لم يحاكم الرجل, لكنه لا يرحب به ولا يتغاضى عن تصرفاته, ولا أريد بالطبع الدفاع عن تلك النظرة الغبية التي تبيح محاسبة المرأة دون الرجل تحت أي ذريعة كانت, لكني بنفس الوقت لا أريد الخضوع لتلك التقريرات التي يتحفنا بها هؤلاء في كل وقت وحين, حتى مللنا منهم ومن كتاباتهم ومن سطحيتهم.
في إحدى الدراسات عن الشاعرة فدوى طوقان قرأت نقداً بأنها لم تستطع الانتصار على "تابوهات" المجتمع, وأنها لم تخترق سقوفه ولم تعبر حدوده, هذا النقد الذي وجّه للشاعرة الكبيرة كان في معرض مقارنتها مع امرأة أجنبية كتبت عن عوالمها الجنسية, وخيانتها لزوجها مع رجال ونساء!, فنالت إعجاب الناقد كونها امتلكت "جرأة البوح", ووصفت لنا ممارساتها بشفافية حسدها عليها الناقد! وفي الحقيقة فقد حمدت الله على أن شاعرتنا الكبيرة افتقدت هذه الجرأة الغبية, وانشغلت بهموم مجتمعها وعاشت معاناته ولم تجعل من ذاتها محوراً لقصائدها بل تركت تلك الترهات وأتحفت المكتبة العربية والوجدان العربي بقصائد راقية ومعبرة.
لماذا يكون الخروج على المجتمع وقيمه هو المطلوب لمواجهة أي مشكلات أو تناقضات موجودة فيه؟
أليس في هذا عجز وصبيانية لا تليق بمن يرون أنفسهم حملة لواء التنوير؟
أليس هذا نتاج نظرة قاصرة لا ترى أي خير في مجتمعاتنا, وحكم جائر ظالم عليه؟ أليس هذا نتاج احتقار لمكونات هذا المجتمع وقيمه وثقافته, واستلاب واضح لمكونات مجتمع آخر له ثقافته وعلاقاته وحضارته المختلفة كلياً عن حضارتنا وثقافتنا؟
أليس هذا موقفاً متطرفاً لا يحاول فهم مشكلات الواقع ومعاينتها بدقة وموضوعية لتحديد نقاط الضعف ومعالجتها, ونقاط القوة وتعزيزها؟
أليس في هذا سعي لتحطيم المجتمع والانتصار لغايات ونماذج وعلاقات متخيلة, فردية, متمركزة حول ذاتها, تعيش في شرنقة منعزلة بعيدة عن الإنسانية؟
لو كان هؤلاء يسعون بالفعل للتحرر من قيود وظلم المجتمع ومعالجة مشكلاته, والخروج به نحو النهضة المرجوة, أليس مطلوباً منهم القيام بخطوات حقيقية وفاعلة لتحقيق هذه الغاية؟ وأتساءل كيف تساهم الإباحية في حل مشكلات مجتمعنا الكثيرة؟ وكيف يكون التفلت سبيلنا إلى النهضة المرجوة؟
هل صعود سطح بناء في حي شعبي والغناء بمكبرات الصوت إحدى تلك الأغنيات التي تشبه ما تكتبه تلك النسوة عن علاقاتهن الجنسية (كما فعلت إحدى "الخارجات عن السائد") عمل إصلاحي وسيساهم في توعية الجماهير الغافلة؟!
وهل كتابة عبارات احتجاجية على جسد عارٍ (جهدت صاحبته ليكون وفق المقاييس العالمية للجمال) وعرضه أمام المارة عمل "مقاوم"؟!
وهل التفاخر بتعدد العلاقات والممارسات الشاذة وغير الشاذة سيجعل من مجتمعنا مجتمعاً منفتحاً متنوراً؟
وهل تكون الكتابة عن الشهوة بابتذال وإباحية عمل إبداعي تستحق كاتبته أن تترجم أعمالها ويحتفى بكتابها حتى يصير عنوانه معلماً للتعريف بها كإنسانة وأديبة فيقال فلانة مؤلفة كذا؟
بالنسبة لي أعتبر هذه الكتابات والتصرفات إحدى نتاجات صناعة وتجارة الجنس التي اتسعت نشاطاتها فلم تعد تقدم خدماتها الساعية وراء المال لمن يبحث عنها فقط, لكنها صارت تلاحق الناس في كل مكان وتقدم خدماتها بأشكال متعددة ومتنوعة, انتشرت وتغلغلت حتى وصلت بيوتنا, تحت مسميات كثيرة منها الأدب والفن التشكيلي والغناء (كثير من مطربات اليوم لا يحلو لهن الغناء إلا وهن في السرير أو الحمام, كأسلوب عرض لأجسادهن فقط).
فمتى سنمتلك "الجرأة" لتسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية, ولا نغدق الأوصاف الخادعة على كتابات لا تمت للأدب الحقيقي بصلة؟ فالإبداع لا يتخذ وسيلة البذاءة والإباحية ليظهر, وفي مجتمعنا كثير من الأديبات اللواتي أبدعن ومازلن يبدعن أدباً حقيقياً يعالج قضايا المجتمع برؤية مخلصة صادقة, ويقدم تجربتهن الحياتية المفيدة دون أن تتحول هذه التجربة إلى رواية جنسية مبتذلة.