حديث صوتي مسجل للأستاذ مالك بن نبي مدته حوالي 27 دقيقة دون خاتمة، لا نعلم مصدره يرجّح أنه حديث حلقة مسجلة، لم نجد له أثرا في مؤلفاته المنشورة، يتناول من خلاله وظيفة ومهمة الكاتب وشروطها.
قمنا بتفريغ التسجيل دون تغيير، حيث سيلاحظ القارئ اختلاف أسلوب هذا الحديث عن كتابات الأستاذ، كما سيلاحظ عدم استقامة بعض الجمل أو التراكيب، وهذا يرجع لطبيعة الكاتب. لكن سيجد هذا الحديث وفيا لأسلوب وفكر الأستاذ.
ويبقى بعد هذا الشرط الأساسي من الوفاء اللازم و الإخلاص اللازم والوفاء اللازم للكاتب، فبعد هذا الشرط الأخلاقي الأساسي للكاتب تستلزم مهمة الكاتب شروطا أخرى، شروطا فنية فعلى الكاتب ألا يتبع هواه كما يجب عليه ألا يتبع هوى الجماهير، لأن الجماهير في مرحلة ما ربما تكون بدافع إخلاصها وبدافع عاطفيتها مندفعة في اتجاه قد يكون شريفا يكون مقدسا في نظر وهو كذلك وإنما تكون على البعد آثاره غير مفيدة للدرجة الممكنة. الكاتب يجب إن يتحرى أكثر من الجمهور وربما في ظروف معينة يجب أن يضحي الكاتب بسمعته من أجل قول الحقيقة سواء كانت حقيقة علمية أو حقيقة اجتماعية، والتاريخ يسرد علينا القضايا التي تجري لنا هذا الجانب الكبير من تضحية الكاتب أو في صورة عامة من يعمل من أجل الحقيقة في حقل العلم سواء كان كاتبا أو عالما أو فيلسوفا، أو أعلى من كل هذا وفي أفق بعيد كان نبيا مبلغا لحقيقة منزلة، فإن الظروف التي تعتري الرجل الذي ينصح مجتمعه سواء كان في أسمة درجة، درجة الأنبياء أو في الدرجة العادية درجة العالم أو درجة الدكتور أو درجة الكاتب، ففي كل هذه الظروف عند تبليغه للحقيقة إلى اصطدامه بردود أفعال قد تؤدي أحيانا إلى هلاكه على أيدي إخوانهم مثل ما أودى ذلك بحياة بعض الأنبياء لما فتك بهم أهل بلدتهم لأنهم لم يطمئنوا ولم يقبلوا الحقيقة التي بلغت لهم عن هذا الطريق، أو عالم يريد تبليغ حقيقة تقرع في زمانها الشيء المقرر في الأذهان أو الشيء الذي اتفق عليه بعض الناس، مثل “غاليلي” عندما قال في زمنه أن الأرض تدور، بينما كان أهل زمنه كلهم يعتقدون أن الأرض ساكنة في مركز الكرة الكونية حسب النظرية القديمة التي ورثتها الأجيال عن العالم اليوناني بطليموس، فعندما قال “غاليلي” قولته قد تعرض لأكبر خطر وهو الخطر الذي سيقضي على حياته، يجب إذا على الكاتب أن تتوفر فيه من خلال الشروط التي يجب أن تتوفر فيه هذا الشرط الروحي الذي ربما نجمعه في هذا التعبير تحت عنوان: إرادة التبليغ، يجب على الكاتب أن يكون متحركا بدافع إرادة التبليغ في مجتمعه متمسكا بها وعاملا تحت تأثيرها رغم ما يعانيه أحيانا من إرهاق ومن متاعب ومن أخطار إذ كما نرى في قضية غاليلي التي أشرنا إليها ينتهي دوره تحت حكم الإعدام الذي ينفذ فيه من طرف المحكمة الكنسية.
وبمعية هذا الشرط الروحي يجب أن تتوفر في الكاتب شروط أخرى من بينها شرط اجتماعي أساسي وهو معايشة المجتمع في كل ظروف حياته وهنا ربما يأخذ الالتزام أعمق معانيه بمعنى أن الكاتب يجب أن يتصل بالشعب بكل طبقاته من طبقته المتعلمة إلى طبقته الجاهلة من طبقته الغنية إلى طبقته الفقيرة حتى يدرك من خلال اتصاله اليومي ومن خلال معايشته لجميع أصناف الأجواء الاجتماعية الموجودة في وطنه، كي يدرك من خلال هذا كله جوهر وحقيقة القضايا المعاشة فعلا بصورة واقعية في بلاده، حتى لا يتصورها تصورا خياليا بل يعيشها بنفسه بخبرة خاصة وبإدراك مباشر مع كل فرد من شعبه مع من يعمل في الحقل ومن يعمل في الورشة ومن يعمل في عيادته الطبية أو غير ذلك، وهذا يتنافى طبعا مع الصورة المألوفة في بعض الأوساط عن الكاتب المنخرط في برجه العاجي، الكاتب الملتزم لا يمكنه أن يعيش في برج عاجي لأن برجه العاجي يحرمه من لب استقصائه ومن لب إدراكه للقضايا، حيث يحرمه من الاتصال الحقيقي مع تلك القضايا.
ومن الشروط التي تستلزمها أيضا مهمة الكاتب، هو ما يمكن أن نسميه شرط الأداء لأن على الكاتب طبعا أن يجد وسيلة للقيام بمهمته في الاتصال من طرفين: في مرحلة الاستقصاء ومرحلة البحث والدرس، وبعد ذلك عندما يحصّل على الحقيقة يجب عليه تبليغها بالوسيلة المألوفة في مجتمعه أي بلغة القوم، فهذه النقطة تتصل بسؤال قد ألقاه عليّ الأخ الذي سألني في حلقة سابقة، عندما قال لي: “كيف يا أخ مالك بعد أن كنت تكتب وتتكلم بالفرنسية أصبحت تتناول مشافهة أو كتابة باللغة العربية”، الجواب يكفي في هذا الإطراق بطبيعة الحال، فان ظروف ومقتضيات مهمة الكاتب التي واجهتني عندما انتقلت من المجتمع الجزائري الذي قضيت فيه برهة من الزمن ككاتب أكتب بالفرنسية وأتكلم بالفرنسية، عندما انتقلت إلى مجتمع شقيق وهو مجتمع الجمهورية العربية، حيث أقمت هناك برهة زمن طويلة أثناء الثورة الجزائرية وجدت نفسي مضطرا إلى الأداء بلغة القوم لان في ذلك المجتمع إخواننا العرب في القاهرة لا يسعهم ولا يستسيغون أيضا تمسكا بلغة قحطان، لا يستسيغون الكلام بغيرها أو المطالعة بغير لغتها، بغير لغة العربية لغة الضاد، هذه الظروف اضطرتني على تناول اللغة العربية كلاما وكتابة كلغة أداء في مهمتي ككاتب وفعلا وجدت نفسي يوما أستطيع إلى حد ما وبنصيب من التوفيق مع استعانتي ببعض الإخوان الذين كنت اصطحبهم و استعين بهم في تصحيح ما أكتب، ولكن اعتقد في سنة 58 أو 59 أول كتاب كتبته مباشرة باللغة العربية وهو كتاب “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” وأعتقد أنني من دون رياء أو ادعاء للناحية الأدبية لأنني لا أعد نفسي من رجال الأدب العربي كما لا أعد نفسي من رجال الأدب بصفة عامة وإنما كاتب يكتب في نطاق اجتماعي من أجل نشر بعض الحقائق الاجتماعية، يكشفها له الدرس والتحليل.
سائل: الآن الأستاذ مالك اسمح لنا بسؤال، من فضلك هل يمكن أن تفسر لنا كيف يؤدي مهمته الكاتب الجزائري اليوم الذي يكتب باللغة الفرنسية إلى شعب عربي مسلم وهو بطبيعة الحال لا يفهمه؟
الجواب: الجواب على سؤالك أيها الأخ الكريم هو يتعلق بشرط عام يمكن التعبير بهذه العبارة هو ضرورة استعمال لغة القوم في الظروف العامة لا تلغي التبليغ بأي وسيلة كانت في الظروف الخاصة، حتى بإيماء الأصابع أو بإشارات يمكن عن طريقها تبليغ الحقيقة التي نريد تبليغها إلى أبناء جلدتنا، فإذا وقع الكاتب الجزائري، وإنني أعرف طائفة من إخواني الكتاب الجزائريين الذين لا يكتبون ولا يتكلمون العربية مثل: الأخ محمد شريف ساحلي، والأخ لشرف، والأخ مالك حداد..، وأعد من بينهم كصحافي الأخ خالدي، فإن كان هؤلاء الإخوة لا يستطيعون تبليغ ما يريدون تبليغه للمجتمع الجزائري بلغته القومية أي لغة العرب، فهذا له مهمة التبليغ وواجب التبليغ بوسيلة أخرى، ومن أقرب الوسائل لديهم للقيام بمهمة التبليغ لا شك هو تناول اللغة الفرنسية أعني لغة منتشرة بين فئة جزائرية تعدّ بالآلاف المؤلفة في المدن الجزائرية، حتى أننا ربما في بعض المدن الكبرى نسمع كثيرا من بناتنا وكثيرا من أبنائنا يتكلمون هته اللغة الأجنبية كلغة جدتهم وفطرتهم، هذا إذا على الكاتب الجزائري على شرط أن يقود فاقدا لوسيلة التبليغ الأساسية وهي لغة الشعب الجزائري العربية،على هذا الشرط يجوز له أن يتناول اللغة الأجنبية التي تتيح له الاتصال بالطبقات الكثيفة من المدن الجزائرية، طبقات ذات شعبية كثيفة في المدن الجزائرية اعتمادا على حقيقة أن الشعوب تسعى بنفسها لخيرها وأنها هي نفسها أحيانا تقوم بمهمة التبليغ باللغة المناسبة وبالأسلوب المناسب، فأحيانا الشعب نفسه يقوم بمهمة التبليغ والتحويل من لغة العلم مثلا إلى لغة الشارع للحقائق التي يشعر بأن فيها صلاحه وخيره، فإذا لا بأس بأن يتاح للكاتب الجزائري أن ينشر قصصه أو دراساته الاجتماعية أو السياسية باللغة الفرنسية على شرط أن تكون موضوعاته منتقاة من صميم واقعنا، من صميم المشكلات التي نعيشها والتي تحيط بها خبرتنا وتتعلق بها مشاعرنا وخبرتنا عندما نعمل وعندما نتعامل بيننا، على هذا الشرط يجوز للشاب الجزائري، الكاتب الجزائري الملتزم أن يتناول أي لغة يتيسر له بها العمل المهني الذي هو الكتابة، وهذا الجيل طبعا لا يستطيع أن يتخلص قطعة واحدة من اللغة الفرنسية التي نتعامل بها مع بعضنا البعض في الأوساط الجزائرية سواء كانت متعلمة أو غير ذلك.
هذا من حيث اللغة، ولكن هناك شرط آخر بعد الشرط الروحي الذي أشرنا إليه وسميناه إرادة التبليغ، وبعد الشرط الاجتماعي الذي أشرنا إليه بمعايشة الوسط، وبعد الشرط اللغوي وهو ضرورة تناول لغة القوم، يبقى بعد ذلك كله على الكاتب الجزائري، وهناك يبتدئ دور عبقريته ودوره ككاتب ملتزم وهو أن يستخلص تلك الوسائل التي أشرنا إليها وبتلك الطريقة التي أشرنا إليها وفي الظروف التي يعيشها ومن الظروف التي يعايش فيها شعبه أن يستخلص من هذا كله وبهذه الطريقة وبهذه الوسائل الحقيقة التي من شأنها أن تغير الواقع الذي يجب إصلاحه، الواقع الذي مثلا كافح الشعب الجزائري برمته من أجل تغييره خلال سنوات ثورته وبالتالي الآن الجهاد هو الأكبر في الميدان الاجتماعي من أجل تغييره أيضا حتى ينتقل من مرحلة شعب متخلّف كما يقال اليوم بالمصطلح المتناول إلى مجتمع نام يتمتع كل فرد فيه بجميع الضمانات الاجتماعية.
هذه هي الشروط العامة التي تحيط بمهمة الكاتب الملتزم الذي يدخل ميدان الكتابة لا كإنسان صادر من الواقع ولا كإنسان مستيئس مستسلم أمام الواقع، ولكن إنسان عامل من أجل تغيير الواقع في سبيل شعبه لرفع مستواه من التخلف إلى النمو، هذا ما أراه منوطا بمهمة الكاتب وهذا ما أختم به كلمتي.