عد رحيلها بسبعة وثلاثين عاما، قد لا يعرف الجيل الجديد من الادباء الفلسطينيين، والادباء العرب بشكل عام، الآن، في هذه المرحلة العربية المجنونة التي تكاد الا تعرف نفسها في غمرة الخراب والغزو والاحباط (فكيف بمن رحلوا عنها منذ جيلين)، شيئا عن الاديبة الفلسطينية سميرة عزام (1927 1967) ولكن سميرة عزام، على وجه التحديد، كانت حتى قبل يوم واحد من وفاتها بحادث سيارة بين جرش وعمان في 8/8/،1967 أشهر قاصة عربية، تتألق قصصها القصيرة في معظم المجلات العربية آنذاك، وينشغل
النقاد بالكتابة عنها. كنت أقلب الكتب في مكتبتي البيتية ذات الفوضى العارمة، طائراً مضطرباً، كالعادة، وأنا مجبر على الاقامة بين هذه الكتب، بسبب الحصار “الاسرائيلي” وحظر التجول ما بين حين وآخر، حين وقعت على احد كتب سميرة عزام، تناولته على الفور، كنت أحس برغبة شديدة في قراءة الماضي الفلسطيني الابداعي. ثم نقبت بين الركامات المبعثرة لأصل الى بقية مجموعاتها القصصية، فلم أجد سوى ثلاث اخريات، من اصل ست.
كانت سميرة عزام اصدرت في حياتها، اربع مجموعات قصصية فقط، الى جانب اثني عشر نصا مترجما من الانجليزية الى العربية. وبعد وفاتها عمل بعض اصدقائها على تجميع اصدار مجموعتين قصصيتين لها ايضا، ضمتا ما تمكن الوصول اليه من قصصها المتناثرة في المجلات والصحف، والتي لم تشتمل عليها المجموعات السابقة، وجميع هذه المجموعات صدرت عن دور النشر اللبنانية في بيروت.
المجموعات التي تحت يدي الآن، هي: “اشياء صغيرة” ،1954 و”الساعة والانسان” ،1960 و”قصص اخرى” ،1960 و”العيد من النافذة الغربية” ،1971 وقد اعدت قراءتها جميعها، بشغف، وبدقة وتمحيص، على مدار يومين وسجلت على هوامش معظم قصصها (عددها سبع وخمسون قصة) بعض الملاحظات التي ستشكل لحمة هذا المقال.
وقبل ان اعبر الى هذه الملاحظات، او الى مضامين هذا الابداع القصصي الفلسطيني المبكر، ألقي للجيل العربي الجديد على الاقل بعض الضوء على هذه الاديبة الكبيرة التي رحلت فجأة، وهي في ذروة عطائها الادبي على عتبة الحكمة والاشراق، في الاربعين من عمرها.
ولدت سميرة عزام في مدينة عكا ،1927 وتلقت دراستها الابتدائية في مدرسة عكا الابتدائية، وجزءاً من دراستها الثانوية بالمراسلة، وعملت مدرسة وهي في السادسة عشرة من عمرها ،1943 واخذت في الوقت نفسه، تزود نفسها بألوان من الثقافة والمعرفة عن طريق جهودها الذاتية، حتى اصبحت مديرة (ناظرة) مدرسة. وكانت في اثناء ذلك، تكتب في الصحف المختلفة تحت اسم “فتاة الساحل”. نزحت إثر نكبة العام 1948 الى لبنان، وبعد اقامة قصيرة في بيروت، ذهبت الى العراق، وزاولت مهنة التدريس هناك لمدة سنتين، عادت بعدهما الى بيروت، لتبدأ فيها كتابة القصص والمقالات، ولتنشط في الترجمة من الانجليزية الى العربية، لكثير من الصحف والمجلات وبعض دور النشر. في ،1952 انضمت الى اسرة اذاعة الشرق الاولى، وعملت مذيعة وكاتبة لبرامج المرأة، حيث أقامت في قبرص مقر الاذاعة آنذاك، ثم انتقلت الى بيروت بانتقال الاذاعة اليها، وفي 1957 عملت في الاذاعة العراقية ببغداد، الا انها ابعدت ،1959 عن العراق، فعادت الى لبنان، تكتب القصص وتترجم وتنشر في مختلف الصحف والمجلات. وفي الثامن من اغسطس/ آب 1967 بعد شهرين من هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران ،1967 توفيت بحادث سيارة بين مدينتي جرش وعمان في الاردن. كل اعمالها القصصية صدرت في ستة كتب، اربعة منها في حياتها، خلال الفترة من ،1945 الى 1960 وكتابان أخيران بعد وفاتها، الأول ،1971 والثاني بعده بستة وعشرين عاما، صدر في العام ،1997 واما ترجماتها، فقد جاءت في اثني عشر كتابا، من العام 1955 الى العام ،1966 ومنها كتاب “كانديدا” لبرناردشو 1955 و”جناح النساء” لبيرل بك ،1956 وعشر قصص لسومرست موم ،1960 و”حين فقدنا الرضا” لجون شتاينبك 1962 “بتصرف عن موسوعة كتاب فلسطين في القرن العشرين، لأحمد عمر شاهين”.
تكشف هذه السيرة الذاتية الغنية، عن أديبة عصامية شقت طريقها الابداعي في أجواء صعبة ومعقدة، فلم تتوافر لها الدراسة الجامعية بأي شكل، ناهيك عن “جزء من” الدراسة الثانوية الا بالمراسلة، واضطرت الى العمل المبكر من سن السادسة عشرة، لإعالة نفسها، وربما لإعالة بعض افراد اسرتها الاقربين أيضا. (أتخيلها، وهي بعد فتاة صغيرة في هذه السن، اقرب الى الطفولة، تقف امام طلبتها الذين او اللواتي من عمرها، تدرسهم وتعلمهم، فماذا كانت تدرس وتعلم؟). ومع العمل في النهار، تسهر الليل في تثقيف ذاتها، وفي الحرص على تعلم اللغة الانجليزية لتكون زادها في الانفتاح على الثقافات الاخرى، وفي كسب معيشتها بالترجمة، ثم تنقلها وهي في ميعة الصبا المثقل بالنكبة، وبهذا التثقيف الذاتي المكثف بين لبنان والعراق والاردن وقبرص، في دأب لم ينكسر، وفي متابعة غير عادية، لإصدار كتبها عن أهم دور النشر في بيروت آنذاك. ومن الملفت للنظر ان تضطر للنشر في البداية باسم مستعار “فتاة الساحل” فهل هو الاضطرار القهري فعلا، تحت ضغط الظروف الاجتماعية التي لا تسمح للمرأة العربية بالنشر باسمها الصريح، في تلك المرحلة، تماما كما كانت الحال مع بدايات فدوى طوقان “دنانير” في فلسطين، او ما كان بقي من فلسطين بعد النكبة، ومع عائشة عبدالرحمن “بنت الشاطئ” في مصر، على سبيل المثال؟ أم انه “الخجل” من صغر سنها في بداية النشر، ولعله “الخوف” من ان لا يكترث القراء بهذه الصبية الصغيرة التي تقتحم عالم الكتابة والنشر، وتدفع باسمها بين شيوخ الادب والفكر، فآثرت التخفي وراء الاسم المستعار؟ ام انه كان تقليدا سائدا بين كثير من المبدعين والمبدعات، لشد الانتباه؟ هذا شأن متروك لمؤرخي الادب، وأظن انهم لن يكترثوا به، تماما كما هو عدم اكتراثهم بما هو أهم من هذا الشأن أصلا.
أميرة كاتبات القصة القصيرة
الناقد المصري رجاء النقاش، اختار لسميرة عزام، فور سماعه بنبأ وفاتها الصاعق، اسم “أميرة كاتبات القصة القصيرة في الادب العربي” ثم ضاعت التسمية، وضاع النقد، في غبار الخراب، ولكن النكبة التي كادت ان تضيع سميرة عزام ذاتها، في دروب النفي والتشريد، صنعت منها بالمقابل، هذه القاصة المتفوقة في زمنها، وفي زمن غيرها ايضا. واذا كان الخراب الحالي، يحاول ان يفقد “الاميرة” حضورها في الراهن المضطرب، فإن الغبار سرعان ما ينقشع، عن التراث الباقي، وهل يعقل ان تحترق الذاكرة الادبية، حتى وان اشتعلت الحرائق في كل مكان؟
لم تجعل سميرة عزام من قضية فلسطين، او من النكبة تحديدا، مدخلا لها الى القص الابداعي، الا عبر منظور مغاير للسياق الرائج آنذاك، فقد حرصت على ان تطور رؤيتها للنكبة، من مجرد واقع سياسي التف حوله كل الادباء من شعراء وروائيين، واندفعوا في خطاب تقريري رومانسي مترنح بالبكاء والعويل، الى واقع اجتماعي فلسطيني وعربي بشكل عام حاولت من خلاله ان تفهم، وان تستوعب، وان تشارك في اضاءة تفاصيله، كي تصل الى “الانسان” في هذا كله، من دون شعارات طنانة، ومن دون انغلاق على مفصل واحد. كانت “الواقعية النقدية” طريقها في تلك المرحلة المبكرة، الى شجاعة قصصها، وفرادتها في آن. وفي هذه الطريق الجديدة و”غير المعبدة” رأت النكبة جزءاً من حركة مجتمعية فلسطينية وعربية، متخلفة بأسبابها ونتائجها. ف”اللاجئ” الفلسطيني لم يتحول تلقائيا، وعلى الفور، بعد تهجيره وطرده، الى “بطل” يقاوم الاغتصاب الصهيوني لوطنه وأرضه، بل غاص، وهو يعاني البؤس والتشريد والاجتثاث من جذوره، في الجريمة والضياع والهوان، حتى تمكن في مرحلة لاحقة، من اعادة “اكتشاف” نفسه، وتحقيق بطولته، على أسس من الوعي الموضوعي. والقاصة (الاميرة) سميرة عزام لم تستبق حدوث تلك البطولة، ولم تتوهمها وانما اجتهدت في كل قصصها السبع والخمسين (عدد القصص المشتملة عليها مجموعاتها الاربع المتوافرة لدي)، ان تتابع كل الفئات المهمشة في المجتمع (تدور المتابعة القصصية المعنية في اجواء السنوات الممتدة من 1948 الى 1967) بما فيها فئة اللاجئين، وان تسبر أغوار هذه الفئات سبراً ابداعياً واعياً وملتزماً، في اطار من “التعاطف” الانساني معها، من دون ان يتحول هذا “التعاطف” الى “مدائح انشائية حماسية” ومن دون ان يفقد قدرته على النقد اللاذع ايضا.
في قصة “لانه يحبهم” نتعرف الى “نماذج” عدة من اللاجئين الفلسطينيين، بعد النكبة بسنة او سنتين، في احد المخيمات التي أنشأتها “وكالة اغاثة وتشغيل اللاجئين” في احدى العواصم العربية التي لا تسميها الكاتبة، ونفترض انها بيروت، حيث كان لجوؤها هي ايضا اليها. أول هذه النماذج، الشاب وصفي. وصفي الموظف البسيط في “مركز التوزيع الثالث” التابع للوكالة، وصفي الطيب، الصامت، الهادئ، متهم بالاختلاس من هذا المركز. ومع ان التهمة لم تثبت عليه، إلا ان “محققي الوكالة” يحاولون الايقاع به، من خلال أحد اصدقائه في المركز. ذلك الصديق (راوي القصة كلها، والذي هو في هذه الحال، صوت المؤلفة ذاتها)، لاحظ من جانبه ان وصفي اصبح فجأة، ميسور الحال، غير انه يرفض التعاون مع المحققين، ويرفض ان يؤكد امامهم هذه الملاحظة. يكتمها في نفسه التي يخاطبها ويبرر لها رفضه: “ان ثمة صداقة رصاص ودم، جوع وتشرد، بيني وبين وصفي. انه ليس نذلاً.. كاد يضرب طبيباً لانه رفض ان يكتب تقريراً لامرأة فقيرة يخوّلها دخول المستشفى بعد ان كادت الغنغرينا تأكل ساقها.. ليس لصاً.. مساعداته الصغيرة لعمته الأرملة وابن خالته العاطل عن العمل تأتي قبل اي حساب في مُرتبه.. انت لم تكن معنا حين كنا نحلم بيوم تتحقق فيه معجزة تسوقنا الى الحدود برغبة أقوى من أقدارنا التاعسة. لم تكن معنا حين كنا نجمع التبرعات لمجلة تحمل اسم وطننا..”. مع ذلك، يؤكد لنا الراوي على انه قد كره وصفي كرها شديداً منذ عرف حقيقة كونه لصاً. ولكنه “كُره بيني وبينه فقط”. فالراوي لا يزال يحبه اكثر مما يُحب هذه الحقيقة. “حساب وصفي لن يكون على يديك، ايها المحقق. سيكون بيني وبينه..”. الراوي يتحدث لنا، ولا يتحدّث الى المحقق. هو امام المحقق مدافع شرس عن صديقه. أما امامنا، نحن الناس، نحن المجتمع، فإنه يوفر لنا كل الحقيقة، وكل ما يكره، وما يُحب. بعد نموذج/شخصية اللص وصفي، ينتقل الراوي (الراوية أو القاصة المؤلفة) في القصة ذاتها، الى نماذج وشخصيات اخرى، منها المجرم والبغي والوغد. وكلهم لاجئون فلسطينيون. المجرم فياض الحاج علي، “كان مزارعاً في احدى قرى الشمال، طول سنابل حقله تبلغ قامة الرجل.. كانت مواسمه في بلادنا خضراء دائما، فسماؤنا سخية، وتربتنا سمحاء، ولم تكن سواعدنا بالمتخاذلة الرخوة. وحين راحت الارض ولم يبق من المواسم في خاطره إلا صورة السنابل.. أضحى واحداً من هذه المئات التي لا تكاد تشبع اذا وجدت ما تأكله، ولا تجد لها من سلوى، بعد ان تتعب من التفجّع، إلا ان تنسل نساءها..” فياض الحاج علي الذي قدم الى المخيم بزوجة وطفل، اصبح عنده خمسة خلال سنوات قليلة، صار يستولي على مخصصات اسرته من “بطاقة الاعاشة”، كل شهر “دقيق وسمن نباتي وتمر ينغل فيه الدود، وفاصوليا جافة قشّها اكثر من حبوبها”، ثم يبيع هذه المخصصات المتواضعة، ليشتري ما اعتاد عليه بعد الهجرة، من خمور، ويسكر ويضرب زوجته، ويترك اطفاله جوعى. وفي احدى المرات قتل زوجته بالضرب المبرح، وبإهمال المستشفى لها. “فياض الحاج علي لم يكن مجرماً. كان مزارعاً طيباً، ولكنه فقد الكرامة، حين فقد الارض..”، كما يؤكد لنا الراوي. ثم ينتقل بنا الى نموذج/ شخصية البغي. ليس ثمة من اسم لها في القصة، ذلك ان “اسمها الجديد هو غير اسمها في بلدها..” فلماذا الاسم إذاً؟ ولكن المؤلم ليس باسمها هي أو عدمه أو تغيّره المستمر، وانما باسم ابيها! أتعرف من هو أبوها؟ انه أحمد المدرب الشهير لكثير من الثوار! “أتذكر يوم قتل في اغارة يهودية على أطراف بلدنا، فحمله رفاقه الينا جثة، فرفضنا ان نغسله، ودفناه بدمه، بعد ان أبناه بمائة قصيدة خطبة، وأقسمنا ان نقايض برأسه ألف رأس..”. ماذا فعلت القصائد والخطب والقسم؟ لا شيء. تقول البغي، بصراحة وصدق: “لم يكن لنا سواه، ولما ماتت امي في هجرتنا، لم يبق امامي إلا هذه الطريق”. ومن اللص والمجرم والبغي، يصل بنا الراوي الى الوغد. هذا الوغد هو “أبو سليم، خيمته اكبر خيام المخيم، ألحق بها ثلاث خيمات صغيرة.. ومكانه دائما امام باب الكبيرة منها، الى جانبه بسطة خشب صف عليها صنوفا من البضاعة، يعرضها على اللاجئين بالثمن الذي يريد.. هو جاسوس المخيم.. وهو ليس فقيراً كجيرانه، فقد كان موظفاً في الميناء، ولا يزال له راتب تقاعدي من حكومة الانتداب. يدا زوجته مثقلتان بالمباريم الذهبية، وله ولدان يعملان في الكويت ولا يقطعان عنه المدد قط. وهو على سعة تسمح له بأن يقرض جيرانه المبالغ بفائدة خمسين أو ستين بالمائة..”. ليس ثمة من “تبرير” لهذا الوغد. فهو وغد قبل النكبة، ووغد بعدها. وسوف يستمر وغداً حتى يموت. وقد كان هذا الوغد/الجاسوس سبباً بأحد تقاريره السرية للوكالة، في ان يُفصل الراوي الذي لا نعرف اسمه، ولا نعرف عنه سوى انه صديق وصفي القديم، من وظيفته في الوكالة.
تندفع القصة “لأنه يحبهم” بعد هذا السرد، الى ذروتها الدرامية، الى الحب. فكيف كان هذا الحب العميق؟ نكاد نلمح في الصفحة الاخيرة من القصة، صورة أو شبح شخص ما (هل هو الراوي نفسه؟) يتحرك بهدوء وثقة بالنفس، في عتمة الليل والبرد القارس، نحو مخازن مركز التوزيع الثالث للوكالة. يتسلل الى هذه المخازن المكتظة بأكياس الدقيق والفول والفاصولياء والتمر وتنك الزيت والدهن، وهو يحمل بيده زجاجة نفط، وعلبة كبريت. يفرغ النفط فوق عشرات الاكياس، ثم يشعل بها النار. “وتزدهر ناره وتمرع، وتلذع حرارتها جلده الاسمر، يتدفق الدم في شرايينه حاراً، ويغمره لون من فرح وحشي، فيحمل سكينه يبقر بها بطون الأكياس المنتفخة، فتتناثر محتوياتها على قدميه، فيدوسها بخطوات مترنحة. ويحلو له ان يضحك وهو يتصور اللاعنين الشاتمين يمزقون جلده بأظافرهم، ويدفنونه بلعناتهم.. انظروا ها أنذا ادوس دقيقكم بحذائي، أعفر قدمي بتراب فولكم.. أُعلمكم ان تجوعوا ليتمرد فيكم اليأس، لتكبروا على الرغيف الذليل..”.
لماذا؟ لماذا؟ يقول لنا الراوي “لأنه يحبهم”، يحب كل هؤلاء اللاجئين بكل نماذجهم وشخصياتهم، وبكل ما في داخلهم من ارادة على الثورة والتمرد، رغم انها ارادة محطمة ومسحوقة برغيف الذل.
أَطلتُ التوقف عند هذه القصة بالذات، لانها توفر لنا كثيراً من أبعاد “فلسفة” سميرة عزام في كل معاني ومقاصد القص لديها. وقد يجوز لي القول ان باقي قصصها، تتحرك في ظلال هذه المعاني، بهذا الشكل أو ذاك، ليس بالتكرار، وانما في الاقتراب، مع كل قصة، من احدى الفئات المهمّشة في المجتمع. ولعل المرأة على وجه الخصوص، هي الأقرب الى عقل وقلب سميرة عزام، في “التعاطف” الانساني مع هذه الفئات، تضيء أحوالها وتشرح شقاءها وتفصل اضطهادها وقمعها وخوفها، امرأة عاملة منتجة تبيع خاتم زواجها، كي تواصل الصرف على زوجها الطالب في الجامعة، ليكمل دراسة الهندسة (قصة: هل يذكرها). فهل يقف الزوج الى جانبها بعد التخرّج، أم يفكر بالزواج مجدداً، من غيرها؟ وامرأة تضطر الى الخدمة في بيوت الآخرين، لإعالة نفسها واطفالها (قصة: فردة حذاء)، وامرأة تخاف على اخيها الصغير الذي اشترى مسدساً ليفرغ رصاصاته في رأسها، غسلاً لما يراه العار، وحماية لشرف العائلة، اكثر مما تخاف على نفسها وهي تغوص في الوحل فعلاً. تقول هذه المرأة المومس التي هي في اول المطاف وآخره، اخت من يحاول قتلها. تقول لاخيها: “حبي إياك هو الصلة الوحيدة بيني وبين عالم العواطف.. وما عدا ذلك فعواصف بُغض تأكل قلبي أكلاً..، وهذا المسدس الأخرق خذه وبعه ياصغيري، واشتر لنفسك قميصاً يستر أكتافك العارية، بدلاً من هذا القميص الممزق الذي لم تنزعه عن جسمك طيلة الاسبوعين اللذين دأبت خلالهما على مراقبة زقاقنا، منذ ان جرتك فكرة الانتقام، الى اختك” (قصة: حكايتها)، وامرأة تبيع دمها، من اجل ان تشتري بثمنه فستاناً، ينسدل على جسدها مثل غيرها من النساء: “لما سألها موظف شباك الاستعلامات، ماذا تريد.. قالت انها تبغي بيع دمها.. ولما عاد يسألها ألديك تصريح من الطبيب؟ تطلّعت اليه بعيني صبية حلوة، فخلاّها تدخل..” (قصة: بنك الدم).
الى جانب هذه المرأة المقموعة والمضطهدة، نجد قصص الاطفال الذين يبيعون العلكة والصحف و”كل شيء” في الشوارع والأزقة، والاطفال الأجراء أشباه العبيد، والاطفال الشحاذين الذين فقدوا طفولتهم في مجتمع قاس، لا يلتفت اليهم، ولا يعترف بحقوقهم، سواء في مخيمات اللاجئين، أو في شوارع المدن، أو حارات القرى (قصص: صبي الكواء، طالعة نازلة، بائع الصحف، مؤهلات، وغيرها).
وملاحظات اخرى كثيرة، سجلتها بقلم الرصاص على هوامش القصص. غير انني اكتفي بما ذكرتُ، لعلني افتح بهذه الكفاية، بابا للآخرين كي يعبروا الى تراث هذه “الاميرة” التي قد يدفن الخراب الراهن لقبها، فتبقى لنا سميرة عزام ذاتها، رغم أنفه، القاصة العربية الكبيرة.