"أيها الغائص في الدهشة، أما لك من صرعتك نعشة؟: يا هذا......دع عنك ما خباله عاجل عيانا، وباله آجل زمانا، أما تمتعض من وقوعك في فخ الهوى وحبالة الشهوة وشرك الشيطان بسبب ظاهري لا ثبات له وزبرج لا صنعة فيه وعارض لا غيث معه وظل لا معوج عليه؟ لكنك في سكرتك عامه وفي صحوتك من خمارك واله والندامة والحسرة يجتمعان في العواقب يا صريع الشهوات في الشهوات يا خائضا في الشبهات على الشبهات ويا ثاويا في الضلالات بعد الضلالات معتقلا في الجهالات بعد الجهالات متى
يكون انتباهك؟ وإلى أي حدٍ يبلغ سهوك؟ لعمري فطام الأرواح عن الأجساد شديد لكن هلاك الأرواح والأجساد أشد وفوت الدنيا والآخرة خسرانه أبين: ألا قفوا على ديار الهالكين...واستخبروها: كيف تفرقت تلك الأجسام الكثيفة؟ واضمحلت تلك الجواهر الشريفة؟
خدعتكم الشهوات فملكتكم: وشباكم الشيطان من أوطانكم فباعكم في أرض أعدائكم في ثمن بخس فبقيتم في بلاد الغربة بلا أنس ولا سلوى...غرقتم في بحار الغرور وركضتم في ميادين أجرامكم: اسلل نفسك من هذا العاجل المحشو بالتمويه: ولا تجنح في كل ما تراه عينك إلى ظاهره بل غض على خفيته ودفينته فهناك اللب والحقيقة."
" إدن حتى تصغي ، اصغ حتى تسمع ، اسمع حتى تفهم ، افهم حتى تعقل ، واعقل حتى تشرف ، واشرف حتى تنقى ، وانق حتى تنعم ، وانعم حتى تسعد ، واسعد حتى تتقي ، واتق حتى ترقي ، وارق حتى لا تشقى
"إلهنا ، إلهنا : كيف نسهو عنك وأنت تجاهنا."
وعن نعيم الله في الآخرة :"هناك هناك ، وما أدرك ما هناك ؟ هناك غيث رذاذه وابل ، وقليله كثير ، وصعبه منقاد ، وعدمه وجدان ، ونقصانه رجحان ، وبعضه كل ، ونثره نظم ، ولحظه نطق ، وعبده سيد ، وفقيره غني ، وكريهه شهي ، ووعره وطي ، وغريبه آهل ، ومصروره باهل ، ووارده ناهل ، وظلامه نور"
" الضلوع مشوية بالأسى والحزن ، والأرواح ذائبة بضروب الحيرة واليأس ، علم لا ينفع ، عمل لا يصح ، وإشارة لا تصدق ، وعبارة لا تتحقق ، وحجة إذا لاحت طاحت بمن أتعلق ؟ وماذا أقول ؟ وأي شيء أسمع ؟"
كانت تلك مقتطفات من كتاب التوحيدي الجميل:" الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية "
ربما كان أبو حيان التوحيدي في رأيي أمير الناثرين العرب بلا منازع. وقد عرفت التوحيدي من خلال كتبه التي استطعنا أن نستنقذها من كتب كثيرة أحرقها هو بنفسه أو ضاعت عبر تلافيف الزمن.
كثيرون من أساتذتنا الكبار قد كتبوا عن التوحيدي مثل د. إحسان عباس ود. الحوفي ود. عبد الرزاق محيي الدين ود. إبراهيم الكيلاني، وقد حقق الإشارات الإلهية كل من د. عبد الرحمن بدوي والدكتورة القديرة وداد القاضي التي قرأت "البصائر والذخائر" بتحقيقها الماتع. وهناك من مؤلفات التوحيدي الهوامل والشوامل الذي قام بنشره كل من أحمد أمين والعلامة الكبير شيخ شيوخي المحقق الفذ الشيح السيد أحمد صقر عليه سحائب الرحمة والرضوان.
وأما عن أسلوب التوحيدي فلم أجد أوفى من دراسة ماجستير منشورة على الإنترنت بعنوان "الاشارات الالهية لأبي حيان التوحيدي دراسة أسلوبية - نسرين ستار" ألخص منها ما يلي:
يستخدم التوحيدي التكرار والسجع (بأنواعه الثلاثة: المتوازن والمتوازي والمطرف) والجناس والتكرار والاستفهام والنداء والقسم وصيغة التعجب والتشبيه والكناية والاستعارة والمقابلة والطباق والتشويق خاصة في الإشارات الإلهية - الذي أركر عليه اليوم في مقالي – مع شيوع الظواهر التركيبية في رسائل الإشارات مثل التقديم والتأخير ، والفصل والوصل ، والحذف ، والتضمين والاقتباس.
وفي خضم قراءاتي عن التوحيدي فإني لم أرَ كتابا أكثر إمتاعاً من كتاب جمال الغيطاني:" خلاصة التوحيدي: مختارات من نثر ابو حيان (هكذا ورد في العنوان: "أبو" وليس "أبي") التوحيدي"
وقد أكد لي الغيطاني ما كنت أعتقده في التوحيدي فوافق رأيي رأي الغيطاني ولم أقلده. والحق أقول فأبو حيان التوحيدي من الشخصيات التي حار فيها ذهني، فهو مثل مصر يحمل كل المتناقضات تراه أحيانا ناسكا وأخرى ماجنا لكني أؤكد أنه أديب لم أر مثله وحكيم كبير في الأدب العربي. كما أني لم أتعجب لما قرأت رأي ابن الجوزي فيه حيث يقول:" زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، والتوحيدي، والمعري، وشرهم التوحيدي لأنهما صرحا ولم يصرح." على كل حال أنا أحترم رأي ابن الجوزي بل ورأي الذهبي الذي كفره (لأن الذهبي عدو لدود للصوفية التي كان يمثلها التوحيدي) وابن السبكي الذي دافع عنه في طبقات الشافعية.
وقد أورد الغيطاني مقتطفات من كتب التوحيدي وأخص بالذكر الإشارات الإلهية مما لا سبيل إلى ذكره هنا، فتمامه مما يضيق عنه المقال.
على كل حال، ما قصدته من إلقاء الضوء على التوحيدي هو أن أذكر الناس الآن بأن هذه اللغة العذبة البسيطة السهلة التي تميز بها التوحيدي يمكن تطويعها لتصير أدبا راقيا في ذروة الإبداع والتعبير البياني الخالص. تمر اللغة العربية الآن بحالة أشبه بالاحتضار، ويسير الأدب الآن نحو الهاوية فيسمي الناس البذاءة إبداعاً والغموض شعرا راقيا بينما أني لن أنسى أول محاضرة في الترجمة في كليتي عندما نصحني الأستاذ مع زملائي قائلاً: حتى تكون مترجما متميزا: ابتعد عن الحذلقة، وكن بسيطا وصدقني ستصل إلى قمة العمق.
وهذا هو ما وجدته في أدب التوحيدي ولا يعنيني أن أفتش في عقيدة التوحيدي أو خصوماته أو خصاله السيئة كما أني غير مفتون به إلى حد إنكار الجديد، بالعكس، فأنا أؤمن أن الإحساس الصادق عنصر من عناصر الجمال الذي لو افتقده الكاتب فحتما سيموت النص مهما حمل من محسنات وطلاوات. الإحساس الصادق وكفى، بدون لغة حالمة تصل إلى حد الميوعة والخنوثة من بعض الكتاب الرجال ممن يطنبون في الوصف والسرد حتى يوهموا القاريء بأنهم حالمون بينما أكاد أنفجر غيظاً عندما أسمع رجلا مثل عبد الحليم حافظ أو عبد الوهاب يغنيان بتأثر شديد عن جفنهما الذي أرقه طول السهد ورموشهما التي أضناها السهر.