وُجهت انتقادات عديدة إلى التعليم العتيق باعتباره تعليما يقوم على مركزية المعلم الممتلك للمعرفة، وهو تعليم في نظير الكثيرين يقصي المتعلم، ويمارس عليه نوعا من السلطة أو التسلط، بحيث يصبح هذا الأخير مجرد وعاء، يتم ملؤه بالمعلومات والمعارف. المتوخاة، ودون استحضار مبادراتهم ونشاطهم الخلاق"
بل وحتى الإصلاحات التي عرفها التعليم في السنين الأخيرة لم تُرض الكثير من المهتمين، يقول جلبير لوروا منتقداً الحوار السقراطي:"إن الجدل التربوي القائم بين الأستاذ ومجموعة التلاميذ بواسطة تقنية المساءلة يسمح للأول بأن يقدم إليهم معلومات دون تكوين وعي واضح بالمشاكل الخاصة بمجموعة التلاميذ، وكذا الأهداف
ويضع بديلا لهذا بما يسميه بالحوار الأصيل وهو الحوار الذي"تكون الشخصية متضمنة فيه بكاملها وتدخل في إطاره معبرة بصدق وصراحة.. معبرة عن انفعالاتها وأفكارها وتجاربها.." ففي رأي هذا الباحث -ومثله كثير- الحوار الذي تكون نتائجه محصلة سلفا هومثله مثل طريقة الإلقاء القديمة، لأن هذا النوع من الحوار سيكون شكليا فقط ، بمعنى أن المعلم ومن خلاله يستدرج المتعلمين إلى حيث يريد هو، وبالتالي فعنصر الإبداع لديهم غائب تماما، ولهذا فالمنهج الحقيقي الفعال:"هو أن نعطي للتلاميذ أو نضعهم أمام مشاكل يجب حلها في شموليتها"، فإذا كان حل المشاكل يكون جزءا هاما من دستور الحياة، فقد أصبح من أهم واجبات المدرسة أن تبحث عن طريقة تمكن التلاميذ من حل المشاكل، التي تعترضهم في مستقبل حياتهم وأن تسلحهم بالقدرة على التفكير، حتى لا يصعب عليهم التلاؤم مع الظروف، لذلك كله كان لا بد من تنظيم المناهج وتقديم الدروس بحيث تبدو في صورة مشاكل من شأنها أن تتحدى أذهان الأطفال، وتدفعهم إلى التفكير في إيجاد الحلول .. فالتعلم عن طريق حل المشكلات هو التعلم الصحيح الطبيعي.
الكفايات والوضعيات:
لقد ارتبط الحديث عن الكفايات بالحديث عن الوضعيات، وهكذا وجدنا الباحثين في هذا المجال لا يكادون يفصلون الكفايات عن الوضعيات.
"الكفاية تمكن عن طريق منتوجات التعلمات المركبة من التحكم في بعض الأنواع من الوضعيات أوفي طبقة من الوضعيات"-parisot-
"تعرف الكفاية كنسق من المعارف والمفاهيم والطرق المنظمة بتصميم عملي يمكن من تحديد مهمة-مشكل وحلها بطريقة فعالة وذلك لخدمة مجموعة من الوضعيات-gillet—
"نتفق على تسمية كفايات مجموع المعارف والقدرات والسلوكات المبنينة وظائفيا وفق هدف في الوضعيات المعطاة نوعيا"-gilbert و parlier-
إذا ومن خلال هذا لا يمكننا الحديث عن الكفايت بمعزل عن الوضعيات، فما علاقة الكفايات بالوضعيات؟ ولماذا كانت هذه العلاقة؟ وهل يمكننا أن نساوي عدد الكفايات بعدد الوضعيات؟
إن الحياة تضعنا في مواجهة وضعيات مختلفة ومتنوعة نكون مطالبين بالسيطرة عليها وذلك عبر استنفاذ تجاربنا بين التكرار والتجديد، لأن جزءا هاما من شروط وجودنا من هذا النوع، وأن حياتنا ليست نمطية إلى درجة أننا سنقوم بنفس الحركات، وأن نتخذ نفس القرارات، وأن نحل نفس المشاكل، كما أنها في الوقت نفسه ليست فوضوية ومتغيرة بشكل يدفعنا إلى إعادة اختراع مكوناتها.. إننا نواجه منذ ولادتنا وضعيات الإرهاق والإحباط وعدم اليقين والتوزيع والانتظار، والفرحة العارمة، والأزمات والحوادث.. وهي أمور تساهم بتنوعها شيئا فشيئا في تشكيل فئات الأمور التي نعيها بالحدس لأن فئات الوضعيات تصمم أمبريقيا وبراغماتيا وتشكل مجموعة مغلقة يتم إغناؤها حسب تقلبات الحياة.
ونعطي مثالا بكفاية مهنية؛ فالطبيب حين يخبره أحد المرضى بمرض خطير يكون الأمر بالنسبة له روتينيا، والشرطي يتعرض لنفس الموقف أكثر من مرة في الوقت الذي يمثل ذلك تجربة نادرة في الحياة الخاصة، ومن هنا نلاحظ أن الكفاية تبنى بشكل سريع في المجال المهني، وهكذا تضل كفايات الشخص رهينة بالوضعيات التي يواجهها أكثر من غيرها.
هل يمكن أن نساوي عدد الكفايات بعدد الوضعيات؟
إن الوضعيات يمكن أن تكون متشابهة لكنها ليست متطابقة، ومن هنا كانت أهمية الكفايات لأنها تساعد على مواجهة فئات من الوضعيات المتقاربة والمتشابهة، ذلك أن ارتباط وضعية بفئة منطقية من الوضعيات تمكن إلى حد ما من مواجهة المجهول، وذلك بربطه بالمعلوم عل شكل حدس تماثلي، يمكن من نقل الخبرات انطلاقا من التجارب السابقة أو المعارف العامة.
فالكفاية توظف ذكريات التجارب السابقة لكنها تتخلى عنها كي تخرج من التكرار لتبدع حلولا جزئية وأصيلة، تستجيب لتفرد الوضعيات المعروضة عليها.
وفي هذا الإطار قدم دربارن سلما للكفايات يرتكز على ثلاث مستويات من الكفايات هي:
1- كفايات التقليد: وهي كفايات تمكن من إعادة إنتاج عن الأصل أنشطة بدون معرفة بالمبادئ
2- كفايات النقل أو الانتقال: وهي كفايات تسمح بالانطلاق من وضعية قائمة وحملها إلى وضعيات غير معروفة لكنها قريبة منها، وذلك بواسطة القياس، يتعلق الأمر في هذه الحالة بالتكيف والتحكم في وضعيات مختلفة؟
3- كفايات الابتكار: وهي كفايات تسمح بمواجهة مشكل جديد، وذلك بحل مجهول، ويتم باستغلال تراث من المعارف يركب في عناصر ضرورية للحل، لا يكون الفرد المعني مرتبطا ضرورة بنموذج سابق يحيل عليه أو ينطلق منه، فقط عليه أن يبحث ويدرك ويبدع، هي إذن وضعية لحل المشكل.
الوضعيات التعلمية والكفايات المستعرضة: competence transversal
لنتأمل هذه الأمثلة للكفايات: معرفة حفظ درس معين، معرفة أخذ النقط في القسم، معرفة قراءة خطاطة ما، قراءة أو رسم منحنى، القيام بتلخيص... فهذه كلها كفايات-عناصر"ميكروكفايات" تستعمل في عدد من المواد، انطلاقا من الرياضيات إلى الجغرافيا، مرورا بالبيولوجيا والعلوم الاقتصادية...
إن هذا التفكيك الشامل للكفايات على شكل ميكروكفايات سيمكن من اقتراح نمذجة لسيرورة التعلم فبالنسبة لبرجسونbergeson مثلا يشكل التعليم تجميعا جديدا لكفايات-عناصر مكتسبة مسبقا؛ أي تنظيم ماهو متوفر من قبل، وهو ما يشكل ذكريات الفرد، نفس هذه المفهمة للتعلم نجدها عند برونيرbruner حين تحدث عن حسن التصرف، قال:" إن الأفعال المؤسسة لحسن الصرف حاضرة بشكل كامل منذ الانطلاق" فتعلم حسن التصرف هو تنظيم العناصر الحاضرة منذ الانطلاق، أي تلك التي يتحكم فيها الطفل مسبقا.
فبالنسبة لبرجسون يعبر التعلم عن إحياء لحركات أساسية قديمة، يجب تغييرها إلى حد ما وتحويل اتجاه كل واحدة منها في اتجاه الحركة العامة.. وضبط التنسيق فيما بينها بطريقة جديدة، في سبيل خدمة الهدف العام.
فالعرضانية هي التي ستمكن من مواءمة مقطع حركات أساسية مع نوعية وضعية، وهكذا سيتم المرور متن وضعية نوعية إلى أخرى، وهذا ما عبر عنه برونير بقوله إن" التغيرات ذات الترتيب المتسلسل تضمن المرونة والتوليد" وهو يحيلنا هنا على الكفاية التشومسكية التي تعني قدرة الفرد على إنتاج عدد لانهائي من الكلمات والجمل بلغته الأم دون الاعتماد على لائحة للكلمات.
أما بالنسبة لبرونير؛ فإن الفكرة عنده توحي إلى الكفاية المنتظمة في تصرف ما، مثل حسن تصرف يدوي، تتضمن نحوا توليديا سيمكن انطلاقا من قاموس من الحركات الأساسية من بناء عدد لانهائي من المقاطع، وبالتالي مواءمة المقطع المنتَج مع الهدف النوعي المستهدف في وضعية معينة.
أمثلــــة تطبيقيــــة
1- بالنسبة لإطار منخرط في مشروع
"إنتاج وثيقة ترسم لدى إدارة ما الخطوط العريضة لأهم العمليات التي ستوظف على مستوى جهوي لمعالجة مشكلة محددة"
يشير هذا المثال إلى وجود وضعية مشكلة وهي: التعاون من خلال مشروع جهوي حول إشكالية محددة لدى إدارة معينة.
والمهمة المطلوبة أو النتيجة هي: إنتاج وثيقة ستحول إلى مشروع.
2- بالنسبة لممرضة
تنظيم في غرفة العمليات قنوات العمل التي تمكن من انتقال أدوات التمريض والعلاج، وكذا حركة العاملين بيسر ودون مشاكل
يشير هذا المثال إلى وجود وضعية مشكلة وهي: تنطيم العمل وتيسير قنواته داخل غرفة للعمليات.
والمهمة المطلوبة أو النتيجة هي: تنظيم قنوات العمل
3- بالنسبة لتلميذ في الثانوي(مادة الفيزياء)
وصف آلية اشتغال تركيبة إلكترونية بسيطة"ترنزستور" بتوفر خطاطة أو بوجود التركيبة جاهزة
يشير هذا المثال إلى وجود وضعية مشكلة وهي: فهم تركيبة فيزيائية
والمهمة لمطلوبة أو النتيجة هي: وصف تركيبة
4- بالنسبة لتلميذ الثانوي في مادة لفلسفة
تحرير نص فلسفي لمعالجة مفهوم فلسفي ومقارنته لدى مختلف الفلاسفة المدرجين في المقرر الدراسي.
يشير هذا المثال إلى وجود وضعية مشكلة وهي:
صعوبة مقارنة مفاهيم فلسفية
والمهمة المطلوبة أو النتيجة هي:
تحري نص فلسفي.
لنقـــــــــارن هـــذه الأمثلــــة السابقـــــة بهــــذا المثـــــــال:
"قطع طريق معين باستخدام خريطة وبوصلة"
في هذا المثال الصياغة غير سليمة، فهي عامة وغامضة لا تنطبق على وضعية معينة، فغير واضح هل يتعلق الأمر بسباق للسيارات، أو بجولة في الجبال، أو عملية عسكرية، أم سباق لمعرفة الاتجاه لدى التلاميذ؟
ثم لنقارن هذا المثال بما بعده من الأمثلة:
تشخيص مجموعة من المعطيات بالاستعانة بعمليات إحصائية تتعلق بوقائع اقتصادية أو ديموغرفية بشكل يسهل فهمها ووصفها.
في هذا المثال نلاحظ توفر الوضعية-الاشكال؛ والمتمثلة في القدرة على التشخيص إحصائيا(باستعمال أدوات إحصائية) معطيات قصد تسهيل فهمها ووصفها، كما تتضمن معرفة بطرق التشخيص، وبمبادئ الاحصاء، ومعالجة المعطيات.
إصلاح وتشغيل جهاز( محرك) ميكانيكي في حالة سيئة بعد معرفة أسباب العطب:
في هذا المثال تتوفر الوضعية الاشكال وهي إصلاح جهاز أو محرك ميكانيكي(سيارة، دراجة..) حسب الطلب، كما تتوفر في هذا المثال ضرورة المعرفة بالملف التقني، وبتعليمات إصلاح الأعطاب، والتعرف عل أسباب الأعطاب والمعرفة بأدوات العمل.
لقد أصبحت العملية التعليمية التعلمية تبتعد يوما بعد يوم عن مجرد التلقين والحفظ، وعن مركزية المعلم والملقن، وتنحو منحى التمركز حول التلميذ، نحو حل المشكلات وإنجاز المهمات. يقول جيلبير لوروا:"إن منهجا حقيقيا فعالا هو أن نعطي للتلاميذ أو نضعهم أمام مشاكل يجب حلها في شموليتها" وهو يقول هذا لأن حل المشاكل جزءهام من دستور الحياة، يقول جون ديوي:"إننا لا نتعلم السباحة إلا بإلقاء أنفسنا في الماء"، وقال:"أنريد أن نتعلم؟ نعم بكل تأكيد، ولكن يجب أن نحيا أولا، ونتعلم بواسطة الحياة وفي الحياة" لذلك وجب على المدرسة أن تعود التلاميذ على حل المشكلات، وأن تسلحهم بالقدرة على التفكير حتى لا يصعب عليهم التلاؤم مع الظروف، ولهذا كان لابد من تنظيم المناهج، وتقديم الدروس بحيث تبدو في صور مشاكل من شأنها أن تتحدى أذهان التلاميذ وتدفعهم إلى التفكير في إيجاد الحلول، وتتطلب منهم استثمار كل قدراتهم، ومعارفهم الضرورية، لمواجهة الوضعية، وحل الإشكالية المعروضة عليهم، فيشكل من كل هذا لدى التلاميذ ما يسمى بالكفاية.
الكفايات والوضعيات في العملية التعليمية
- جمال اشطيبة
- زوايا متنوعة
- تربية وتعليم
- الزيارات: 6816
Facebook Social Comments