وبين نفسي:.
عرض عليَّ الفنان الفوتوغرافي محمد حنون، فكرته الجميلة، في إعادة إنتاج عدد من اللوحات العالمية فوتوغرافياً، وعلى نحو شرقي. العنوان الذي طرحه كان مثيراً بالنسبة لي: ماذا لو كانوا هنا؟ .. في البداية شعرت بالدهشة، وبعد حوارات مطولة عن مشروعه الفريد ظللت أتساءل بيني
- نعم.. ماذا لو كانوا هنا؟ أو كنا هناك؟
توقفت عند فكرة تلاقح الحضارات والفنون، نحن نعيش على كرة أرضية واحدة، ووسائل الاتصال وقدرتنا على متابعة الأعمال الفنية الخالدة من خلال الزيارة المباشرة للمتاحف والكتب والإنترنت، تكاد تذيب أو تدمج الحدود الجغرافية الثقافية بين أقطار العالم وثقافاتها المتعددة، ولعل هذا الاختلاف يثري ذاكرة وذائقة الإنسان في أي مكان. الفن التشكيلي بالذات هو الفن الأكثر عالمية وأممية بجانب الموسيقى، كونه الفن الذي لا يحتاج لترجمة في اللغات.. إنه اللغة البصرية، ذاكرة الإنسان البصرية الأولى، بالإضافة للسمعية قبل نشوء اللغة.
فكرة حنون كما شرحها لي بدقة في مشروعه، فكرة جديرة بالاهتمام حقاً. نحن نرى اللوحة ككيان متكامل، نفرح بالتكوين والنور والظل واللون والموضوع، لكننا في مرورنا السريع أو المتأني للعمل الفني لا نفكر كثيراً بتقنية الفنان - المبدع - وكيفية إنشائه للعمل الفني، هنا في تجربة حنون سنحاول الدخول إلى عالم اللوحة، و حنون لم يشأ أن يحتكر الفكرة لنفسه، بل سعى لأن يشارك عددٌ من المبدعين - معه - بإعادة إنشاء اللوحة، هذه المهمة الصعبة والممتعة في آن ستجعلنا نفكر كثيراً بتفاصيل اللوحة وكأننا نعيد رسمها بالكاميرا، ولا شك أن كل من يخوض هذه التجربة مع محمد حنون سيشعر بمعاناة الفنان، ويشاركه بتلك اللذة الغريبة في بعث اللوحة أمامه بتفاصيل مثيرة يستطيع أن يلمسها ويتحدث معها ويدخل في ثناياها، ولا شك أنهم بعد الخروج من اللوحة وإنجاز العمل الفوتوغرافي وبناء الكادر وتوزيع الضوء واختيار الموديل وكل جزيئات اللوحة.. سيخرجون أكثر عشقاً للّوحة، وتصير بينهم وبينها وشائج قربى وكأنهم يعودون للتاريخ ويجتازون الزمن عودةً إلى عالم الفنان الذي ستظل روحه ولمسته المبدعة وعيناه اللتان تراقبانهم وتظلل المكان بحضوره الطاغي من جديد.
كان بيننا حوارات مطولة حول الفكرة التي أدهشتني، حنون وأنا.. في البداية قلت له: هل هي مجرد محاكاة تقنية لعمل فني غربي؟
هذه يستطيع أي ستوديو محترف في الغرب أن يصنعها، على غرار ما نشاهده في الأعمال السينمائية العالمية التي شاهدتها عن فنانين مثل فيرمير و فان جوخ و جوجان و بيكاسو و غويا ، حيث تتوفر الإمكانيات الضخمة المُكلفة في بناء المشهد التاريخي الفني بالممثل والإكسسوارات والأماكن، حتى تشعر كأنك تعيش مع الفنان في تلك المرحلة، وبكامل تفاصيله، وبحرفية عالية مذهلة.
لكنني سأتوقف هنا عند جرأة فنان عربي شاب مثل محمد حنون، في التصدي مجدداً لهذه الفكرة من الناحية الفنية تحديداً، وأنه يفكر بأن يحقق نوعاً من التداخل في الصورة الجديدة للّوحة بين ما هو شرقي وغربي، بمعنى أنه سيتخيل وسيشتغل على تمازج مشهدي في العمل الفني الغربي وبيئته الشرقية العربية.. وهي مهمة ليست سهلة وتحتاج لتفكير مُطول وجهد ورؤية مختلفة - فكرية وفنية - وليست مجرد المحاكاة الحرفية، وهنا كانت لنا نقاشات معقدة في بلورة الفكرة كي تكون ناضجة، وتحمل شيئاً مختلفاً يبعث على التأمل والتفكير.
لقد تسرب الشرق بفتنته الخاصة إلى الكثير من لوحات فناني الغرب، وكان الحضور الأكير في اللوحات الاستشراقية التي زينت لوحاتها بتفاصيل مفخمة عن هذا الشرق العابق بالألوان والبخور والنساء الجواري، كانت لوحات تحمل فكرتها المسبقة عن الشرق العربي وقصص خيالية لم تلمس الواقع العربي إلا بالقشرة الفوقية الاستعراضية لهذا البذخ اللوني الحار الذي يعبق بالأمكنة والناس.. وفي جانب آخر نرى حضوراً شرقياً فنياً ومرهفاً في لوحات بول كليه و ماتيس خارج لعبة الاستعراض الفني، كان حضوراً هادئاً طبيعياً وغير متكلفاً.
لا يوجد فنان حقيقي مقطوع الجذور عن تراث العالم الفني أو مغلق ضمن حدود إقليمه الضيق، وإلا دخل فنه في الفولكلور الخاص لمجتمعه. والفن الفولكلوري ضروري في تشكيل الهوية الثقافية لأي مجتمع، وجميل أيضاً، لكنه محدود في الإقليم. والانفتاح على الفنون الأخرى - على سبيل المثال: التبادل التجاري والاستعماري في حركة شعوب إلى مناطق أخرى- ساهم في نقل الفن الإفريقي والياباني وغيرهما إلى الفنون الغربية، والتأثيرية الانطباعية كانت متأثرة بالفن الياباني والصيني في بداياتها.
هنا سيقف حنون أمام سؤال آخر لم يكن يتوقعه!.
هل سيكتفي باللوحات الفنية التي أُنتِجت داخل ستوديو الفنان؟ (in door photography)، وأعتقد أنه سيكتفي بذلك الآن، فالانتقال إلى الطبيعة قد يكون فوق طاقته أو خارج موضوعه.. إذن، ضمن الإمكانيات المتاحة، سيقتصر الأمر على اللوحات الكلاسيكية المشهورة المرسومة في مرسم الفنان، فهذه أكثر قابلية للتجسيد العملي من غيرها من اللوحات المرسومة في الطبيعة أو اللوحات الحداثية الوسيطة كلوحات رينوار مثلاً ورفاقه من الانطباعيين، بالطبع لن نذهب نحو التجريد، فهو لغة بصرية أخرى لها فضاءاتها غير المحدودة.
ما تزال فكرة حنون تستفزني! هل سيحاول لصق تفاصيل شرقية في لوحة غربية؟ أي افتعال كولاج هجين وخلط ثقافات مختلفة في مشهد واحد.. وإذا فعل ذلك، هل يكون المشروع حقق غايته؟
أسئلة تبدو مشروعة ومُتخَيَّلَة قبل أن نرى النتائج، لكن المشروع بفكرته سيظل يثير هذا الجدل المتواصل بين أصناف الفنون، والكاميرا - هذا الاكتشاف العجيب - ستحاول أن تقول كلمتها، وربما سيكون هذا الهدف من وراء طرحه وتنفيذه..
سأتذكر بكثير من الامتنان الناقد عدنان مدانات الذي أطلعني قبل سنوات على الفيلم السينمائي الشاعري المذهل الأحلام للمخرج الياباني العبقري كيروساوا .. هذا الفيلم المرسوم بريشة في منتهى الحساسية والأناقة والإعجاز البصري. في الفيلم نشاهد رجلا وامرأة في متحف يتأملان لوحة لفنان فان جوخ ، وهنا يختلط الحلم بالواقع، ونجدهما في مسحة فانتازية يدخلان إلى اللوحة ويتجولان في فضاء اللوحة ويتنقلان في بيئة تحاكي عالم فان جوخ ، وكأن المخرج بنى بيئة كاملة من جسور وبيوت وأزهار وأنهار تشبه لوحات جوخ ! الفيلم قديم. ولا أعتقد أن الكمبيوتر من قام بهذه اللعبة..
هي من مهارات كيروساوا العجيبة، وكأن المخرج كان يلون الطبيعة بفرشاة الفنان جوخ!.
الكاميرا هي عين الفن الرائي، ومجرد وسيط في نقل الفكرة، إنها فرشاة الفنان الضوئية، وتظل الموهبة هي الأساس، والعين الثاقبة من تصنع المشهد أكثر من التقنية، وقبل كل ذلك الرؤية الخاصة للكادر البصري وما خلفه من فكر ومفهوم، أي ما وراء الكادر، الهدف الذي يسعى إليه الفنان.
كنت أترقب بحذر وشغف، نتائج هذه المغامرة التي نرى أول نتائجها هنا، لكنني في كل الحالات أحيي هذه التجربة، فنياً وفكرياً وتقنياً، وصاحبها الفنان الطموح لشيء مغاير عن المألوف: محمد حنون .
عن الرأي الأردنية