شجرة حبّهما
بقلم: بثينة غمّام
" ليست بذكاء و عبقريَة أختها، قدراتها محدودة و نتائجها متوسَطة على خلاف أختها، لن تنجح في الالتحاق بالمعهد النَموذجيَ كما فعلت من قبل أختها... ". ملت مقارنات والديها الدَائمة لها بأختها، سئمت استصغارهما المتواصل لشأنها و استنقاصهما الدَائم من قدراتها، ضاقت بنظرات الخيبة الذريعة المرتسمة على ملامحهما كلما تلقيا بطاقات أعدادها، تاقت نفسها لسماع جملة مفاخرة وحيدة تكون هي محورها و أحبت صادقة إدخال الفرحة على قلبيهما فاتخذت قرارا حاسما: يجب أن تنجح في الارتقاء إلى المعهد النموذجيَ كأختها. وضعت خطة محكمة و شرعت في تنفيذها بكل صرامة: لا تلفاز، لا حاسوب و لا خروج مع الأصحاب بعد الآن، لا ترفيه، لا تسلية و لا إمتاع فقط دراسة و لا شيء غير الدراسة. دراسة منذ ساعات الفجر الأولى إلى ساعات الليل الأخيرة، لا استراحات لغير تناول الغداء أو العشاء و لا نوم لغير ساعات قلائل.
تبدأ نتائجها في التحسّن فيشرع والداها في إظهار الحبَ الصَافي لها و في إغداق الحنان عليها: يقتنيان لها أفضل الماركات لأرقى الثياب تشجيعا لها، يحضنانها و يقبلانها صباحا مساء و يفتخران و يفاخران بها في خلواتهما و في اجتماعاتهما بالأهل والأصحاب.
يا للفخر المتناثر عليها كرذاذ مطر الشَتاء،يا للثناء الهابَ من حولها كنسمات باردة في قيض الصَيف و يا للحبَ النَامي في قلبيهما نموَ شجر ربيع متفتح بعد سبات الشَتاء.
" كلها أيَام و تحين المناظرة. نعوَل عليك فلا تخذلينا. كلنا أمل فيك فلا تخيَبينا و كلنا رجاء فلا تحبطينا ".
" و كيف أخيَبكما؟ كيف أتخلى عن النَسمات الباردة و عن الظلَ الوافر لشجرة حبَكما. لا، لا تخافا لن يكون هذا أبدا أبدا ".
و يحين موعد الامتحان فتتناول ورقتها، تقرأ تمرينها، تحاول حله، تحاول فهمه و تبسيطه، تحاول إنجازه و تحاول.
" عشرون، لن نرضى بأقلَ من عشرين في امتحانات الموادَ العلميَة ". أجل يجب أن تكون عشرون يجب أن تكونه و لكن لما يستعصي عليها حلَ هذه المسائل العلميَة؟ لما تبدو لها معقدة رغم بساطتها؟ لما لاتفهم محتوياتها؟ لما تبدو لها كالألغاز و الطلاسم؟ لما تستحيل بلغة غير اللغة التي تفهمها؟.
و معلوماتها أين معلوماتها؟ لما اختفت كلها؟ أين اختفت و كيف اختفت و تلاشت؟ و العشرون من أين لها بالعشرين مع هذا العقل الفارغ المفرغ العاجز القاصر؟ و فرحة والديها، من أين لها بفرحتهما بهذه الورقة البيضاء الفارغة؟ و حبَهما، من أين لها بحبَهما بهذا الصَفر البادي في الآفاق؟ و ثناءهما و فخرهما، من أين لها بهما بهذا الفشل الذريع السَاحق المفاجئ؟. يجفَ حلقها، يلتصق به لسانها، ترتعش يدها و تصطك معها أسنانها، يصفرَ لونها و يبدأ معه دوارها، يطن رأسها طنينا قويَا مصدَعا و تفقد وعيها. تنهض بعد فترة لا تعلم مقدارها، تجد نفسها في قاعة التمريض بالمدرسة ممدَدة في إعياء
و والداها من حولها يرتسم على محيَاهما رعب حقيقيَ مدمَر لم تدر إن كان جزعا لحالها أو جزعا لورقة الامتحان التي ظلت فارغة.
يكتمان عنها غيظهما " لابدَ أنه الإعياء و الإرهاق " و في محاولة لإنقاذ الحلم من التلاشي يشجعانها بكلمات جوفاء خرقاء: " لا بأس. لا بأس في ذلك غدا و باقي الأيام تكونين أفضل. أجل يجب أن تكوني أفضل " و في غيض مكتوم يضيفان " يجب أن تحصلي على عشرين في كل مادة.لا تنسي ذلك. لا تنسي مطلقا ".
" طبعا، طبعا لا أنسى و كيف أنسى المناظرة و الامتحان و شجرة حبَكما بنسماتها المنعشة و ظلالها الوافرة. الليلة أدرس أكثر و أكثر، لا نوم الليلة، لا نوم و لا استراحة ".
تنفذ وعدها، تسقي غرسة حبَهما و حنانهما بليلة بيضاء تنذرها للدرس و تجعل فيها النوم قربانا.
من الغد تحاول مع الامتحان، تحاول مع المسألة و مع التمارين و لكنها لا تفهم، لا تفهم مطلقا لما ترى حيوانات غريبة مقزَزة و لما ترتسم خيالات مروَعة أمامها و لما تتملكها رغبة ملحَة في الهرب منها و في الصراخ عاليا. تحاول التغلب على مخاوفها، تحاول كتم صراخها و لكن عبثا و هباء تحاول فتصرخ و تصرخ وتغادر قاعة الامتحان جارية صارخة كمجنون فقد عقله:" أبعدوهم عنَي،أبعدوهم عنَي. أرى حشرات مقزَزة تلتهم شجرة خضراء باسقة مورقة و بعدها تهاجمني تريد افتراسي. النجدة، النجدة. أنقذوني منهم. أنقذوني ".
و تظلَ على تلك الحال إلى نهاية عمرها، لاتهدأ إلا لتصرخ ثانية و لا تستكين إلا لتضطرب و يظل الوالدان في بؤس مستمر و حداد دائم عليها مرددان في كل حين و لحظة " ثوبي إلى رشدك يا عزيزتي. ثوبي إلى رشدك لا حاجة لنا بالمناظرة و لا بالمعهد النموذجيَ و لا حتى بالدراسة فقط ثوبي إلى رشدك، ثوبي " و الفتاة لا تثوب إلى رشدها
و كيف تثوب و قد قدمت عقلها قربانا لشجرةحبّهما.