تابع ..... رواية
قصعة الخلافة
دكتور/ خالد محمد أبوالحسن
وفاة الأخ الأكبر
***********
دخل عبد الحميد الابن الأكبر غرفته؛ ليسكن آلام الخوف من مصير تلك المناقشة الحادة التي دارت بين أبناء القصر, و التي لم تغب عن ذاكرته رغم مرور شهور طويلة عليها, و لكنه لم ينتبه لما حدث بينه و بين حسين و إدوارد و لم يعر ذلك الأمر اهتماماً, و ظل كمال و أمره شغله الشغال الذي يطارد نومه و يقض مضجعه و يتسلل إلى ذهنه كثيراً:
- ما الذي يجعل كمال, أخي الأصغر يصر على تقسيم التركة, و يطالبني ببيع قصورنا الأخرى الموجودة في بلدان كثيرة؟!
- كان الجد قد تعب في بنائها, و تأسيس أعمدتها الرواسخ.
- ما الذي يجعله قانطاً على تلك القصور؟
- نحن نجد راحتنا فيها كلما سافرنا من بلدٍ لآخر.
ثم انتبه فجأة لأمر حسين و رفاقه, و ربطه بأمر كمال, و فكر بصوت عالٍ و هو يقول:
- يال الكارثة.
- ماذا لو وقع كمال في يد حسين؟
- كيف لم أفكر في هذا الأمر من قبل؟!
- ماذا لو وصل كمال لحسين؟
- لا لا أخي كمال لا يفعل هذا.
- و ماذا لو فعل؟
- و ماذا لو استدرجه حسين؟
- لا لن يجرؤ على فعل ذلك.
- و ماذا لو تجرأ؟
- آهٍ يا رأسي, لقد تعبت من كثرة التفكير في هذا الأمر.
- يا رب سلم, سلم.
و بينما كان عبدالحميد, يحاول أن يلتمس النوم عبر حبات ذلك النهر الغادق, التي تشبه اللؤلؤ في انعكاس القمر عليها, و بينما كان يرقب تشابكها و تضافر سيلانها المتآلف و هو يرقبها من نافذة حجرته, تمنى أن لو يرى إخوته هذا المشهد؛ ليبث في قلوبهم وحدة تلك الحبات التي ترسم على النهر لوحة من النور الرباني, الذي لا ينقطع في ذلك النهر, إلا بجفافه, و هيهات أن يجف, و مداده الحب و الود و الصفاء! بينما هو كذلك, إذ غزا أخوه كمال هجوع ليله, ليفزع قلبه بقوله:
- قد نمت و قرت عينك, و نحن نتحارب و نتقاسم الصراع فيما بيننا.
- و ماذا عساي أن أفعل, و أنتم تصرون على تقسيم كل ما تركه الجد؟
- أخي الحبيب ألا ترى أننا لسنا في حاجة إلى تلك القصور الممتدة شرقاً و غرباً؟ ألسنا أولى بنقودها؟ و أنت تعرف أننا في فقر شديد و فاقة لا إخالنا نفيق منها إلا بالبيع.
- ما رأيك في أن نبيع قصرنا الموجود في الجليل؟
- لقد عرض حسين, ذلك المسكين الذي يجاورنا, و يقوم على خدمتنا أن يدفع فيه أموالاً كثيرة, فهو يريد أن يسكن أرض الشام, فقد أقلع عن فكرة البقاء هنا, و ربما سوف يشتريه لحساب أهله هناك.
- تبت أيدينا إن فعلنا هذا, و الله لا أفرط في هذا القصر و لو عرض على ملئه ذهباً, ثم إنه أقسم لي أنه لن يعود لمثل هذا الكلام, فلماذا يحدثك أنت؟
– كفانا من هذا التمسك بالحبال الواهية التي ضيعتنا.
- في كل مرة تقول لنا: التراث, الأرض, العرض, التراب, الجد, الحبل المتين.
- أين ذلك الحبل المتين الذي تقطعت بسببه أحبال أمعائنا جوعاً و صياماً عن ما لذ و طاب من لحوم و حلوى و غير ذلك من نعيم؟
- لقد خوت حظائرنا من المواشي و الدواجن, بعد أن أنهكتنا الديون, و لا زلت تصر على أن نمسك عن المصروفات لكي نرأب صدع هذا الخلل المالي الكبير.
- يا أخي دعك من هذا التقشف, الذي لا طائل منه.
- عش حياتك.
- انظر إلى المرآة, لقد اهترأ وجهك, الذي أثقلته تلك اللحية السوداء البيضاء, و ما عاد بياضه ينير حياتك التي كادت أن تنتهي بسبب ما أنت فيه من زهد.
رد عليه عبدالحميد, و هو يضحك ضحكات يخالجها البكاء و الأسى:
– أنت تقول ذلك لأن السعادة عندك تكمن في الحياة المترفة, و الوسائد الناعمة!
- لقد علمتك أمك, القادمة من البلاد البيضاء, هناك في "موسكو" أن النعيم يخلد في بياض الوجه, و الستائر الحريرية و الوسائد البيضاء المطرزة باللون الأحمر القرمزي, و الورود البيضاء.
- لم تعلمك أن السعادة تكمن في بياض القلوب, و ما تراه من نور, لو علمه الملوك, لجالدونا عليه.
كمال, و قد ثار لذكر أمه:
– صه يا عبدالحميد, و لا تذكر أمي بسوء.
- هي أعظم من أن تتحدث عنها و يلوكها لسانك بكلماتك الحادة.
- دعك من حقدك الدفين على أمي, فهي لم تكن سبباً في موت أمك, كما تزعمون.
- على كلٍ ماذا تريد مني الآن؟
- أترك لي قصر الجليل, و أنا أبيعه على اعتبار أنه جزءٌ من ميراثي.
- لو اجتمع كل أهل الأرض, فلن أبيع هذا القصر.
- لماذا؟
- لأنك لا تعرف قيمته.
- لسوف أموت دون هذا القصر.
- لقد كان من القصور الثلاثة المحببة لدى جدنا.
- هو أول بناء شهد عزنا و مجدنا, حينما بايعه إخوانه بزعامة القبيلة, و تولي شؤون العائلة الكبيرة,
- و اليوم تطلب مني أن نبيعه لأسوأ خلق الله.
- أكاد أشتم منك رائحة الخيانة يا كمال.
- لقد عجبت لأمرك.
- هل أنت أخي, أم أنك أخٌ لهؤلاء, الذين وضعهم الله, و رفعهم المال؟!
- هؤلاء, الذين كانوا يموتون في جلودهم؛ حينما يتسمعون إلى صوت الجد الحبيب.
كمال و قد استشاط غضباً:
– أنت لا تريدني معك, أنا أعلم ذلك.
- لماذا لا أريدك معي؟!
- أنت لا تريد لي عزاً أو مجداً.
- أنت في عزة و مجد طالما أنك مرتبط بهذا القصر.
- لكنك تريد أن تستأثر بكل شيء.
- أنا لا أستأثر بشيء.
- أنت تستأثر بالمال و العزة, و الجاه, حتى السمعة و السيرة الحسنة تريدها لك وحدك.
- من قال لك هذا؟
- أما المال, فأنت تناقض نفسك, لأنك تعرف أننا نعاني من أزمة مالية طاحنة.
- هل نسيت ما قلت؟!
- أنت الذي يريد أن يسلك طريقاً وعراً, تريد أن تتزعم بجبروتك و سطوتك, لا بالحكمة و الحب و الإخاء.
- دعك من كل هذا.
- أنا أريد ما يفيد من كلام.
- إما أن تمنحني قصر الجليل, أو يكون لي معك شأن آخر.
- افعل ما بدا لك.
- لن يكون لك ما تريد, إلا إذا فارقت روحي جسدي الضعيف.
انطلق كمال مهرولاً و قد ولي وجهه عن أخيه و هو يتمتم بكلمات غير مسموعة, متجهاً إلى صديقه و حبيب قلبه حسين, ليصبَّ كأس غضبته في أحضانه, فقد استطاع حسين أن يستقطبه إليه بعد أن عرف ما بينه و بين أخيه من شقاق و فرقة, فغرر به, و أوهمه أنه سوف يجد سعادته في المال الوفير, أما الأرض فلا طائل من ورائها سوى الشقاء و البؤس و المعاناة.
و ما أن التقيا حتى تعانقا, تعانق الأحبة, عناقاً لم يحدث بينه و بين أحد إخوته من قبل, و البسمات العريضة المنطلقة من وجهه ترسم بسمة الأمل على وجه حسين, الطموح المتطلع لهذه القصور, الذي بادره بسؤال عاجل, و هو متلهف, ليسمع ما يثلج صدره:
- هل أجهز لك المبلغ؟؟
- ليس بعد يا عزيزي.
- لعلنا ننتظر أياماً أُخَرْ, فلقد.....
ثم داهم حسين حديثه مقاطعاً:
- فلقد رفض عبدالحميد.
- أوليس كذلك؟
- إن ما يغيظني في الأمر تلك السيطرة التي يمتلكها, فهو يقبض على زمام الأمور في العائلة, و على الرغم من الأموال الطائلة التي تثقل كاهل الأسرة بالديون, فهو لا يعبأ بذلك.
- إنه يصمد صمود الصخور الباذلتية أمام الأمواج العاتية.....
ثم قاطعه حسين مرة أخرى قائلاً:
- هو صامدٌ دائماً, حتى و لو كان على خطأ, حتى و لو نزع الأرواح من أجسادها, و هو لا يتورع أن يلطخ يديه بدماء زوجات أبيه, في سبيل عزته و كرامته, و قد كانت أمــ........
ثم سكت فجأة و كمال بجانبه قد انشق فمه في وجوم طويل, تلته كلمات متلهفة لمعرفة تفسير ما قال:
- ماذا تقصد؟ ما معني كلماتك تلك؟!
- يا كمال لم أكن أرغب في ذكر ذلك, و لا أحب أن أزرع بذور الشقاق بينك و بين أخيك, و أمسكت الأمر, ريثما يذوب في ذاكرة التناسي, و لكن أخاك يؤجل فينا فرحة التآلف فيما بيننا, و يحبس عنا ما حبسه جدك مذ تباغضت فينا الدماء, و خضبت نبت الكراهية, و أنت تعلم أننا إنما نريد التعايش معكم, ليس إلا, و لكنكم لا تنسون أنكم السادة و نحن العبيد الذين يقومون على خدمة أسيادهم, بلا تقصير.
- أرجوك يا حسين لا تحاول أن توجد لنفسك تَعِلةً؛ لتغييب الحقيقة عني.
- انطق بما حفظ قلبك من أحداث لم تدركها سني الصغيرة.
- لعلك تذكر أخوالك و أبناءهم, الذين جاءوا من على حدود روسيا؛ لكي يزوروا أمك, و يروا ما بذرته ذراعهم من غرس النسب الذي وصلوه بأبيك.
- كان أخوك عبدالحميد هو القيم - في ذلك الوقت - على العائلة بعد وفاة والدكما, و كنت أنت رضيعاً, تكاد أظافرك الناعمة لا تُري, و لما نزل أخوالك بالقصر دارت بينهم و بينه مشادة عظيمة, أغلظ لهم فيها الكلام, و انتهت بمأساة مبكية.......
- لكنني سمعت عن هذه القصة.
- علمت أنهم لقوا حتفهم في طريق عودتهم, حيث داهمهم اللصوص و نهبوا أموالهم و قتلوا الرضيع منهم و الكبير.
- نعم تلك هي القصة التي رويت لك, فأنت لم تدرك حتى أمك التي ماتت في نفس الحادث, بعد أن طردها عبدالحميد من القصر.
- ماذا تقصد يا حسين؟
- و رأس أمي, لئن تحققتُ مما يدور بخلدك لأذبحنه ذبح الخراف.
- تكلم يا حسين.
- لا تتعجل, و كن فطناً ذكياً, و لا تفكر في هذا؛ فأشقاؤه أشد بطشاً منه.
- أرجوك, لا تدخر الحقيقة, بغية إثارة جوارحي و اصدع بما تأمرك به نفسي الملتاعة إلى معرفة الحقيقة.
- كان ذلك في اليوم التالي من وصول خالك "موسى الأرميني" و أبنائه و بعض أقاربهم إلى القصر, حيث قام عبدالحميد بمهاجمتهم, و اتهامهم بمحاولة إثارة الفرقة بينه و بين إخوته من أبيه و كيف أن أمك تسببت حتى في خلق روح الشقاق بينه و بين أشقائه, بسبب مطالبتها بالميراث, و كيف أنهم يأتون إلى هنا لكي يحرضونها على أخذ الميراث و الاستقلال بأراض تابعة للقصر على تخوم روسيا, و كيف أنهم يريدونها فتنةً في القصر,و لذلك فقد أبدى رغبته في عدم وجودهم في القصر, و طلب منهم الرحيل عنه, و أخذ أمك معهم, و أن يتركوك أنت له لكي يقوم على تربيتك, و تتفرق الأم عن رضيعها, فقد أعد لهذا الأمر, و أرسل في طلب مرضعة تقوم بإرضاعك, حتى لا تموت جوعاً, وبذلك يضمن استحواذه على نصيبك في الميراث.
- غير أن أخوالك أغاروا على كرامتهم, و راحوا يهجمون على أخيك, و يضربونه ضرباً مبرحاً, حتى كاد أن يسقط مغشياً عليه؛ لولا استغاثته بإخوته, الذين هبوا لنجدته و إثخان أخوالك بالضرب, حيث خرجوا مهرولين, خوفاً من بطشهم........و قاطعه كمال قائلاً:
- و ماذا في ذلك يا حسين؟
- تلك كانت مشاجرة عادية.
- نعم لقد كانت كذلك حتى, أرسل عبدالحميد – الذي خامره شعور بالمهانة جراء تلك الحادثة – من يتعقب مسيرهم, و يستأصل شأفتهم, و يحول آثار أقدامهم إلى برك من الدم.
- آهٍ لو أنك رأيتهم يومها....
كمال, و قد بكى بعين غزيرة.
- ماذا حدث لأمي؟؟؟
هل.........؟؟!
- نعم ذبحت هي الأخرى, لقد حملتها بيدي هاتين, و الدم يتقاطر من جسدها الطاهر, كأنه الزمرد الباكي, و أخوالك حولها و قد لج كلٌ منهم في دمائه, و لم ينج منهم إلا القليل ممن لاذوا بالفرار.
- آهٍ يا أمي الحبيبة, آه يا أخوالي الأحبة.
- لقد غدر بكم ذلك الدموي السفاح.
- لم يرحم خوفكم و فزعكم منه.
- هدئ من روعك, و لنذهب إلى بيتي الصغير؛ فقد أعددت لك ما يسكن جراحك, و ينشر البرد في نار صدرك.
و مع انهيار ظلمة الليل كان الصديقان قد احتسيا من الكؤوس ما تتسع له بطون عشراتٍ من الرجال, و كانت ابنة حسين "روكسلان" قد أعتدت لهما طعاماً شهياً يدرك سغبهما, فانطلقا يأكلان, لكن كمال كان لا يزال يرقب ابنة صديقه الجميلة, و يود أن لو يستعر بينهم اللقاء, كما استعر ذات مرةٍ في جوف ليل بارد امتزجت ظلمته بحمرة الخمر.
و قبل أن يفيقا من خمرهما بادره حسين قائلاً:
- ما الذي تنوي أن تفعله مع أخيك؟
- سأقتله.
- ماذا؟!
- كما سمعت مني.
- لن أتركه يحيا على وجه الأرض بعد الذي عرفت.
- لكن إخوته لن يتركوك.
- لا يهمني.
- عليك أن تتصرف بحكمة و تؤدة و يجب أن تتروى.
- ماذا عساي أن أفعل؟ و قد عرفت ما عرفت.
- لا أدري ماذا أقول لك؟
- هل أنت مصرٌ على هذا؟
- نعم, و لن أتردد لحظة.
- ماذا لو فعلت ذلك دون أن يدري أشقاؤه؟
- كيف؟
- علينا أن ندبر الأمر سوياً.
ثم بادره حسين – و مراجل الغل تستعر في صدره – قائلاً:
- ماذا لو وضعنا له السم في الطعام.
- لا, لابد أن أرى دماءه تسيل من أوردته.
- إذن, فلنستدرجه.
- كيف يتم ذلك؟
- أنت تعلم أنه ذا حمية و يراعي هيبة العائلة, و لا يرضى أن يهان واحدٌ من أبناء القصر.
- نعم هو كذلك, و هذا سر تمسكه بكل قصور الجد.
- نبعث من يخبره أن لصوصاً اختطفوك.
- و ماذا بعد؟
- نقول له إنهم يريدون فدية, و يجب أن يحضر هذه الفدية بنفسه.
- و ماذا لو اصطحبه الجيش الجرار من إخوتي؟
- نشترط ألا يصطحب معه أحداً, و إلا تكون أنت ثمناً لهذا.
- ثم ماذا؟
- و هناك نستعد له بعصبة من الرجال الذين يحملون السلاح, لكي يتخلصوا منه.
- فكرة جيدة.
- ثم يذبحونه, و تكون أنت بعيداً عن هذا الأمر.
- أقسمت ألا يقتله أحدٌ غيري.
- أنا لا أريدك أن تقتل أخاك بيدك.
- لكنني أريد أن أثأر لأمي.
- ليكن لك ما تريد.
- من سينقل له هذا الخبر؟
- لتكن "روكسلان" ابنتي.
و انطلقت روكسلان تطوي الأرض طياً حاملةً حقد أبيها في قحف رأسها, حتى إذا شارفت على أبواب القصر استوقفها أحد أبناء القصر قائلاً:
- ماذا وراءك يا ابنة حسين؟
- عندي خبر عاجل أنقله إلى سيدي عبدالحميد.
- هاتِ ما عندكِ.
- لابد أن أبلغ الأمر لأخيك بشكل شخصي.
و اخترقت أبواب القصر مسرعة يميناً و شمالاً, و هي تتذكر طفولتها البائسة, حينما كانت تدوس أقدامها ذلك السجاد العجمي الجميل؛ طالبة العطية و الفيء لأهلها, و ما أن وصلت إلى تلك الحجرة التي يتهالك فيها عبدالحميد توجهاً إلى ربه و عبادة له, حتى وجدته ساجداً يصلي, و ما أن فرغ من صلاته, حتى بادرته – دون تحية أو سلام:
- أدرك أخاك, كمال.
- ماذا حدث لأخي كمال؟
و سمع كلماتها, و هو لا يكاد يعي ما تقول من هول ما سمع, فالأمر عنده ليس باليسير, و لم يدر متي فارقت المكان, و تهاوى جسده الضعيف على أريكة له, و صرخ في إخوته مستغيثاً, حتى أحاطوا به, ثم صرخ فيهم مرة أخري:-
- لندرك أخانا.
فقال له أحد الأخوة:
- أيهلك أخونا و نحن أقوياء؟!
- الأمر لا يحتاج القوة.
- ما الذي يحتاج إليه الأمر, إذا لم نستخدم القوة؟!
- أعطوني كل ما معكم من أموال.
فرد عليه الأخوة في صوت واحد, و هم ممتعضون, مغتاظون:
- كل ما معنا من أموال؟!
- نعم يجب أن نفتديه, و لو فرطنا في كل أموالنا و ملابسنا, فلا يجب أن نفرط في دمائنا.
- دماؤنا؟!
- هل نسيت أن أمه فرطت في دم أبينا و وضعت له السم في طعامه؟!
- هل نسيت وصية أبيك لك؟! و هو يعاني من سم جسده البطيء, و قد عرف أنها وضعته له في طعامه, و سكت على الأمر للحفاظ على تماسك القصر:
- انتبه لكمال, فإنني أخشى على القصر منه, فلئن كبر و ترعرع في حجر أمه؛ ليفعلن فعلها و ليغدرن غدرها.
- هل نسيت أن أمه – زوجة أبينا – كانت.......؟
- اسكتوا و لا تتكلموا.
- من أراد أن نتماسك و نظل أخوة مهما حدث؛ فليصدع بما آمره به.
ثم صرخ فيهم:
- دماؤنا يا إخوتي .............................. غاليةٌ علينا, فلا تتركوها تُراق.
- دماءنا يا إخوتي ................................ احقنوها فهي أغلى من قبلتنا.
- دمائنا يا إخوة................................. لها حرمة لا يعرف قيمتها سوانا.
و انطلق الأبناء إلى حيث يستنقذون أخاهم بما تبقى لهم من أموال. و مدوا أيديهم لأخيهم الأكبر بما جادت به خزائنهم الخاوية, فشكر لهم و قبلهم جميعاً, و قال لهم – و كأنه يشعر بدنو أجله:-
- ذمة القصر في أعناقكم.
- لا تفرطوا فيه.
- إن أنا مت فلا تبيعوا الأرض بعرض من الدنيا زائل.
- حافظوا على كرامة العائلة.
و هرول ابنه الصغير عدنان متخذاً سبيله إلى أحضان أبيه و كان عمره في ذلك الوقت لم يتجاوز الرابعة, شعر عدنان بعاطفة جياشه تجاه أبيه, و دموعه لم تتوقف, حتى مسح عبدالحميد بكل رفق على رأسه, و قبل ابنه قائلاً:
- عليكم برعاية عدنان.........
لكن أحد الإخوة قاطعه قائلاً:-
- ألا يأتي أحدنا معك يا أخي؟
- لا, هم يشترطون أن آتي بمفردي, لعلهم يخشون بطشكم.
و انطلق عبدالحميد بفرسه يطوي الأرض طياً, و قلبه يكاد ينفطر من الخوف على أخيه, و بينما هو يصارع الزمن ليصل إلى حيث يحقن دماء واحد من أبناء الأمين؛ إذ خرج عليه أحد الرجال الذين يسكنون بالقرب من أراضيهم, و قد وجده مذعوراً يتبلل ثوبه من شدة العرق المتصبب من جسده, فاستوقفه الرجل و هو يقول:
- على رسلك يا عبدالحميد.
- من أنت؟
- أنا مصطفي, جارك, و صاحب هذه الأراضي التي تجاور أراضيكم.
- نعم أسمع عنك, و أنت غني عن التعريف, و لكن اعذرني, فيجب أن أنطلق الآن.
- فيمَّ العجلة؟
- لدي أمر جد خطير.
- كرامتكم محفوظة يا أولاد الأمين, فماذا بعد ذلك من خطر؟!
- أخي كمال.
- ماذا به؟
اقتضب عبدالحميد الكلمات و امتنع عن سرد كل القصة, ليحكي للرجل أمر أخيه في عجالة من أمره, لكن الرجل قابل خبره ببرود شديد و هو يقول:
- لقد رأيته خلف البحيرة السوداء يـــ....أقصد أنه بخير.
- ماذا يفعل؟
- رأيته, يحتسي الخمر مع صديقه حسين.
- الخمر! حسين!
- نعم.
وقف عبدالحميد هنيهة يفكر في الأمر, حتى قال له مصطفى:
- أخشى أنك أنت الذي يواجه الخطر يا عبدالحميد.
استدار عبدالحميد بظهره ثم استمر في سيره, و لم يكلم مصطفى, الذي ضرب كفاً على كفٍ, و هو يقول:
- مسكين هذا الرجل, إن أخاه يفعل به الأفاعيل من أجل الأموال.
و أبطأت خطوات فرس عبدالحميد, و ظل يحدث نفسه:
- أتكون هذه لعبة من ألاعيب كمال؟!
- لقد توعدني بأن يفعل و يفعل و ............
- لا, لا إنه أخي, لا يمكن أن يفعل ......
- لعل مصطفى أخطأ في أخي, ربما رأى من يشبهه من أتباع حسين.
- و لكنه قال: خلف البحيرة السوداء.
- هو نفس المكان المحدد.
- إذا لم يكن كمال موجوداً هناك, فلماذا رأى حسين هناك؟
- إذا كان مصطفى قد أخطأ في رؤية أخي كمال, فهل أخطأ في رؤية حسين أيضاً؟!
ظل عبدالحميد يفكر في هذا الخلط الذي أربك تفكيره, حتى وجد نفسه أمام تلك البحيرة, التي حددها المختطفون للقائه, و ما أن ترجل عن فرسه, حتى أجفلت, و كأنها ترى خداعاً يحيط بها, و ما هي إلا دقائق حتى انقض عليها رجل جسيم, كالح الوجه, لا يكاد أحد يميز سواده من سواد عمامته, لولا تلك الأسنان التي تفتق عنها الغل و الغدر, و راح يضربها بخنجر حاد, في بطنها حتى بقرها, و لم ترو دماء أمعائها فؤاده الأسود, المتعطش للدماء, فراح ينزع جيدها و يفصل الرأس عن الجسد, و الدماء تنهمر منها, حتى كست عباءته السوداء, و هو لا يبالي, حتى رباط الخيل قطعه و حرقه.
أما عبدالحميد, فقد قبض عليه ثلاثة من رجال هذه المكيدة, و انهالوا عليه بالضرب و التوبيخ؛ حتى انتزعوا عمامته من على رأسه, و تمرغت العمامة بالتراب, و قيدوه بالحبال, و غلوه بالسلاسل, انتظاراً لموعد محتوم, و لسانه يلهج بكلمات العتاب و الاستهجان:
- ما بالكم تفعلون ذلك بي؟!
- ماذا فعلتم بأخي؟
ثم رد عليه أحد هؤلاء الرجال, و هو يركله برجله و يلكمه بيده.
- صه و لا تنطق.
و في مشهد مهيب و لحظة دامية, تزرف لها العيون دماءً, يظهر كمال و معه حسين, و الضحكات تنطلق من فيه أخيه كمال و هو يقول:
- أرى الأسد يسقط من فوق عرينه, و يتهاوى عرشه.
- كم كنت اشتاق لهذه اللحظة.
ثم يجيبه عبد الحميد و قد بدت النواجذ منه, و هو يضحك من نفسه, و من حاله, و قد انكشفت اللعبة.
- أهذا أنت يا كمال؟!
- أنت تفعل بي كل هذا؟!
- و لكن, لماذا؟!
- أي جريرة تراني اقترفتها في حقك؟
- يال جرأتك! ألا تعرف ماذا فعلت, و ما الذي تريد أن تفعل؟!
- أنظر إلى يديك الملوثتين بدماء أمي, و أخوالي.
- أنظر إلى أطراف عباءتك, و تشممها لعلك تشتم رائحة دمائهم الذكية.
- يالك من قاس, دموي أحمر, يحب الدماء!
- أهذا أنا يا كمال؟!
- يا ولدي لا تنخدع بهذا الرجل – و هو يشير إلى حسين – و تذكر أنك ابن أبيك, و حفيد جدك الوقور صاحب المثل و القيم و المبادئ.
- المثل ! القيم ! المبادئ !
- كم هي كلمات رنانة تجذب الآذان لسماعها, و لكنها في عرفي لا تسمن و لا تغني من جوع, ثم إنك تعلم أنني تربيت بين أخوالي, و ما كنت لأقتنع بما تقولون و ما يقول الجد.
- اسمع يا عبدالحميد, لقد قتلت أمي و أخوالي, و أنا أستطيع أن أسامح في حقهم بشرط......
و في تلك اللحظة بدت علامات الوجوم و الاغتياظ على حسين, الذي يريد أن يتخلص من عبدالحميد, لكنه يكتم حقده حتى لا تنكشف لعبته, ثم يستأنف كمال قوله:
- بشرط أن تسلم لي قصر الجليل و قصر استانبول و ترحل إلى حيث قصورنا العديدة في البلدان المختلفة......
هنالك خفق قلب حسين, و كأنه يخشى أن يوافق عبدالحميد و ساعتها يستطيع أن يرد ما سلبه منه كمال, و يفتك بهما, ثم انتظر جوابه بلهفة, لكن عبدالحميد انخرط في البكاء و تحشرج صوته و انحبست أنفاسه, و هو يقول:
- عبثاً ما تحاول يا كمال.
- ما كنت لأستبدل الحياة الدنيئة بالعزة و الكرامة.
- ما كنت لأبيع كرامة أبناء الأمين و لو كان الثمن هو حياتي, لبذلتها لهذه العائلة.
- افعل ما بدا لك.
- و مد كمال يده – و الشر يطل من عينيه, و هو يهمس في أذن حسين متسائلاً:
- كيف قتلت أمي؟
- ذبحها بسكين حاد, رأيت ذلك بعيني.
- إذن, فليمت بنفس الطريقة.
و انقض علي رأس أخيه ليقطعها, و يحز عنقه, فما تركه إلا, و الدم يشخب من أوداجه, و ما أن فارقت الروح الجسد, حتى قام حسين بفصل الرأس عن الجسد, و لكن أوصاله ارتعدت ذعراً, حينما لاحت منه التفاتة إلى عيني رأس عبدالحميد, و كأنه يخشى أن ترتد الروح إليه, و ساعتها سيموت ذعراً.
أما كمال فقد ظل يرتعد من الخوف, فلقد جال بخلده ما سوف ينتظره من رد فعل أشقاء عبدالحميد, و لم يجد أمامه سوى حسين الذي أدرك ما يدور برأسه, و رتب على كتفيه قائلاً:-
- لا تقلق, كل شيء معد و مرتب, سوف تعود إلى القصر و لسوف تكون أنت سيد هذا القصر.
- كيف؟!
- لا تسأل كثيراً, و اشرب هذه الكأس, و اروي ظمأك.
و لازالا يحتسيان الخمر ساعاتٍ طويلةً؛ حتى ينسيا جريمتهما, و هدأ حسين الذي أعد لهذا الأمر إعداداً جيداً؛ فقد استأجر رجالاً يفوق عددهم ضعفي أبناء القصر, حتى لا يقدروا عليهم, أما كمال فقد التقط أنفاسه, ثم انطلق مسرعاً إلى القصر و الدماء تخضب ثيابه, و ما أن رآه عدنان حتى صرخ:
- أبي! أبي! أبي! مات أبي.
و انبعث الصراخ من كل جوانب القصر, الكل يصرخ بلا توقف, الرجال و النساء و الأطفال, لقد مات حامي القصر, و سيده.
و انهال أشقاء عبدالحميد علي كمال, يحيطونه من كل جانب, و هم يسألونه بلهفة شديدة:
- ماذا حدث؟
- أين عبدالحميد؟!
- لقد قتله اللصوص.
- غدروا بنا.
- أين هم؟
- هنالك وراء البحيرة السوداء.
- و الله لن نتركهم أحياء.
خرج رجال القصر مدججين بالسلاح إلى حيث مكان الحادث, حتى وصلوا إلى البحيرة, و قد احمر ماؤها و اختلط بدماء عبدالحميد و فرسه, فقد ألقاهما حسين و رفاقه اللصوص في قاع البحيرة, و رفع الإخوة جسد أخيهم و انطلقوا به إلى القصر, و ما أن وصلوا, حتى وجدوا اللصوص قد استولوا على القصر, و طردوا من فيه من النساء و الأطفال, و لما همَّ بعضهم بمواجهتهم نهاهم أحد الإخوة عن هذا بقوله:
- لا تحاولوا أن تفنوا أنفسكم أمام هذه الجموع الغفيرة.
- لن يستطيع أحد أن يأخذ حقوقكم المسلوبة.
- تعالوا بنا نذهب إلى أحد قصور الجد الأخرى, ريثما نقف على ماهية الأمر و نحاول استرداد إرث الأجداد......
فبادره أحدهم قائلاً:
- لعلنا نمكث هنا بالقرب من القصر؛ لنرى ماذا سيفعل كمال؛ فقد قال أنه سوف يستنجد بأخواله و أصدقائه, و لعله يصدق و ينقذ القصر, و إن كنت لا أطمئن لهم.
- لكن, أين ذهب حسين و رجاله؟!
- لم أرهم.
- لعلهم ذهبوا مع كمال.
وقف أبناء القصر أمام جثمان أخيهم المسجى على خشبة الغسل و هم يبكون عميد العائلة, و زعيم الأسرة الكبيرة, و قد أغرقوا جسده بدموعهم المنهمرة, ثم صبوا عليه الماء صباً, و الدماء تتحدر عن جسده النحيف, و ما هي إلا ساعة حتى وضعوه في مثواه الأخير, و رفعوه إلى خشبة جنازته, و الحزن يحيط بالجسد من كل جانب, و يفصح عن غضبه:
- تباً لك, ألهذا جئتِ؟
- لماذا تسبني؟
- لأنك تأتين بما يفزعني.
- في كل مرة آتيك بما يفزعك, و لا تسبني.
- هذه المرة مجيئك مجيء شؤم.
- لولا أنني...... لأحرقت.
- خذ الوديعة و اتركني و شأني.
- ليتني لا آخذها.
- أتراك وحدك غاضب.
- إني مثلك غاضبة.
- غاضبة! ليتك ما أتيتِ.
- ما حيلتي و قد نفذ الأمر؟
- أعطني الوديعة.
- خذها و أرفق بها, و احتضنها جيداً.
- اتركيني و عودي من حيث أتيتي.
- لماذا تزجرها, ما ذنبها؟
- لقد تطيرت منها, و تشاءمت من وجهها العبوس.
- في كل مرةٍ تأتيني بودائع, لا تساوي ما تساويه هذه الوديعة.
- و ما قيمة هذه الوديعة.
- إنها وديعة الانهيار و الدمار و انتهاء أمر شيء عظيم.
- ماذا تقصد؟
- لقد تركت الوديعة أمراً عظيماً, و فراغاً كبيراً.
- في كل يوم تأتي ودائع كثيرة, و تملأ فراغاً, ثم تعود و يأتي غيرها.
- فلننتظر عشرات السنوات حتى تأتي وديعة تملأ هذا الفراغ.
- لا عليك احتضن هذه الوديعة, و دع أمر الودائع لصاحب الودائع.
كأن قبر عبدالحميد كان يعاقب الجِنازة التي حملت جسده لتزج به في جوفه الذي لا يضيء إلا بقدر قيمة هذه الوديعة, و كأن الشجرة المزروعة على رأس هذا القبر, تذب عن هذه الجِنازة الضعيفة, و تدافع عنها, فما هي إلا خشبة ضعيفة تحمل الأموات, إلى دار الأموات و يحملها أموات من بعد أموات و من ورائهم أموات, و الكل ودائع تسترد بكتاب موعود.