المرارة كانت في
لساني..اليوم صارت في قلبي في كياني وفي وجداني.. كانت الأيّام حنظلة أقطّعها ثمّ آكلها , وكانت اللّيالي علقما أعصره ثمّ أتجرّعه..اليوم أصبحت أنا الحنظلة وأنا
العلقم..مرارة تعقب مرارة ومرارة تخلّف مرارة.. ليلي طويل ونهاري قصير..
صمتي كثيب وصوتي شاحب كئيب..نظراتي سهام لا تنطلق.. كلماتي سجينة نفسي ونفسي
مكبّلة بالقهر والقحط.. كلماتي زفير و صفير أطلقها فترتدّ أفكّها فتنكسر.. الطيور
في السماء و أنا في الأرض لا أستطيع المشي لا أستطيع السعي جناحي يقطر بدمي و دمي تشربه الحياة .. أطير عبثا , أرتفع وجعا,
أرفرف ألما, لكنّي سرعان ما أسقط .. رصاصة أصابتني, بندقيّة تعقّبتني, عيون رصدتني
ومن فوق سطح المنزل رمتني.. يضحكون ,يتضاحكون يتصافحون وعلى موتي يشربون..
تجوّلت في المدينة
تقيّأتني شوارعها, لفظتني طرقاتها, صفعتني واجهات المباني الشاهقة.
صدمتني كتل الحجارة,
صدّ متني ردّتني خائبا خاويا.. عرقي يتقاطر منّي يحرق عيني,
يملّح شفاهي أشعر
بالعطش, أشعر بالمرارة, أشعر بالتهافت..
السيّارات تنهب الطرقات.. الطرقات تلتهب والشّمس
تحترق وتصبّ حميمها على رأسي.
ورأسي ينتفخ وينتفخ
يصير أجوفا مجوّفا, فارغا مفرّغا. عينايّا هوّتان, كوّتان تطلاّن على الجحيم.
أّذناي تختفيان لا تسمعان غير فحيح الأفاعي وصهيل الأحصنة وفرقعة الأوهام..
شارع الشهيد.. شارع
الرشيد.. شارع السلطان عبد الحميد.. شارع خالد بن الوليد.. نزل العروبة خمس
نجمات.. فندق الإتّحاد وسبع نجمات والرّاقصة نجوى.. نزل هلتون
نجومه لا تعدّ ولا
تحصى.. فندق الصحراء والرّبع الخالي والشفاه العطشى واللّيالي..
الملك يعود من أمريكا
بعد أن أجرى عمليّة ناجحة فحمدا لله على السلامة.. العشرات يموتون جوعا وعطشا في
الصومال .. ذبابة تحطّ على أنف الوزير فيعزل وزير البيئة والنظافة.. وجبال راسيات
من القمامة, وقطط تولد كلّ يوم بالآلاف تجوب طول البلاد وعرضها, كلاب تعوي وتنبح وسط
السكّان.. هديّة السلطان للبطل سرحان الذي سرق أموال الشعب واستقرّّبباريس.. اليوم
إفتتاح الدّورة عشرين لسباق الفئران والجوائز بالملايين.. في المستشفى الجامعي
بناموسة الفئران تهاجم غرف العمليات ولا إصابة.. السرعة خطر.. أيّ سرعة وأنا طول
عمري أركب نعلا كالحا صيفا وشتاء. ممنوع الوقوف.. لن أقف.. ممنوع الوقوف و
التوقّف.. طول عمري ماشي وأنا لا أعرف لماذا أنا ماشي.. الآن عرفت ممنوع الوقوف
والتوقّف.. المجاوزة ممنوعة.. فالأبقى في مكاني لا أتقدّم ولا أتأخّر صنما متحجّرا
متكلّسا...
أردت أن أسأل عن مكان
لا أعرفه, فلم أجد من أسأله.. أردت أن أذهب إلى مكان لم أذهب إليه, فلم أجد من
يرشدني إليه.. كلّمت أحدهم فأجابني بالأنقليزيّة, كلّمت الثاني فردّ عليّ
بالأرديّة.. فلمّا
خاطبت الثالث بالأعجميّة قال لي "كلّمني بالعربيّة"..سألته أنت عربي..؟
فقال..
ـ لا أنا كويتي.
فقلت له ..
ـ عفوا حسبتك عربي..
فردّ..
ـ لا..لا أنا كويتي..
ثمّ قلت له..
ـ أنا أنقليزي من تونس..
فضحك و ظننته تدارك
الأمر لكنّه قال..
ـ لذلك أنت تتكلّم الأنقليزيّة..
فقلت مازحا..
ـ كما تتكلّم أنت العربيّة..
فتبسّم وضحك وقهقه
فتركته ..
سألت صاحب المتجر ..
ـ هل لديكم حنظل..
ففرح وقال ..
ـ أجل أجل..
ثمّ أخذ ينادي ويصيح..
ـ حنظلة يا حنظلة..
فوقفت مندهشا منتظرا..
فقال الرّجل ..
ـ هل تريده في شيء..
فقلت أريد أن أقطّعه
وآكله..
فلم يفهم ما أقصد وراح
ينظر إليّ بغرابة شديدة..
ثمّ قال..
ـ هذا حنظلة..
فلمّا وقف بجانبه قال
له..
ـ الأخ يسأل عنك و يريد أن يقطّ..
فقلت رافعا صوتي..
ـ لا..لا أردت حنظلا حقيقة..
ـ أنا حنظلة الحقيقي, حنظلة بن مرّةبن حنظلة بن
..
فقلت..
ـ أريد حنظلة صغيرة هكذا مثل البطّيخ اللبناني..
قال صاحب المتجر..
ـ لا نعرفه..
تركتهم وخرجت..
الطريق يأخذني إلى الطريق.. طرق لا تنتهي وجع لا
ينتهي وألم لا ينفد.. أجوب الجحيم. أبحث عن شجرة فلا أجدها, أفتّش عن نافذة فلا
ألقاها, اتطلّع إلى أعلى السماء صفيحة محمرّة, قبّة ملتهبة.. طائر حطّ على كتفي
يسألني..
ـ هل لديك شربة ماء أبلّ بها ريقي؟.
فتأسّفت وقلت..
ـ عرقي مالح ودمعي أملح وأنا كجرح فيه حبّة
ملح..
فصاح في وجهي..
ـ بشر قلوبهم حجر..
ورفرف فوقي وطار بعد أن
أمطرني بوابل من فضلاته..
حقيبتي على ظهري وأنا
في طريق المطار....
حقيبتي على ظهري وأنا
أعود من المطار....
حقيبتي على ظهري بردعة
على ظهر حمار... هكذا جعلني وطني..
لطفي بن إبراهيم حتيرة
المطوية ... الجمهورية
التونسية..