ظل الجدار
في
ساحة رحبة على مقربة من منزل طيني قديم يقف جدار مبني بحجارة مرصوفة بحساب و بفكر
فنان بارع تمت هندسته ليعطي انطباعا بالشموخ و الخلود.الجدار له طول محدود و ينتهي
كأنه سور غير مكتمل أو كأن بانيه إنما شيده ليقال: انظر إلى هذا الجدار الشامخ.
علوه ثلاثة أمتار أو يزيد، وعلى نتوء مستدير بارز منه يجلس رجل مسندا ظهره له
منكبا على قراءة كتاب ضخم مغلف بجلد تفوح منه رائحة الماعز.قلب صفحة أخرى و أحنى
رأسه قليلا شأن من ذاب في محتوى المجلد. من ناحية المنزل العتيق يتقدم رجل بخطوات متسارعة حينا و
متباطئة أحيانا ، وئيدة يمشي و كأن الأرض غلاف من السيلوفان يخشى أن تغيب فيه
قدماه. لحظات و يصل للجدار، يتوقف ثم يسلم على صاحب الكتاب. هذا الأخير لم يتململ
و لم يحرك شفة، كان و كأنه قد من حجر الجدار.
كان
فعلا مضايقا، لكن الرجل الآخر لم يزد عن أن ابتسم و انتظر صاحب الكتاب ليتكلم.
هنيهة أخرى في صمت ثم تكلم صاحب الكتاب:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->أنت تقتلنا بتحاياك هذه ضحى و
عشية، يا أخي ما لزومها؟ أنا أراك مرات كثيرة و أنت بالمثل. تحية واحدة تكفيني طول
اليوم.
جاوبه
الرجل الآخر بالصمت، و على جانبي فمه تتكون ابتسامة أخرى. صاحب الكتاب لم يستسغ
منه هذا التصرف، لكنه لم يعلق بل طفق يقرأ برهة ثم ما لبث أن قال:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->أود أن أسألك و أنت تعرف أنني
أحب التساؤلات و أعيش في مملكة التساؤلات التي ليس لها إجابات.
الرجل
الباسم رد بلطف بالغ و كأن هذا ما كان ينتظره منذ البدء:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->اسأل ما بدا لك.
قال
صاحب الكتاب و قد أمال رأسه قليلا ناحية الجدار:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->أترى هذا الجدار، قل لي لماذا
يلقي علي بظلاله؟
اتسعت
بسمة الرجل الآخر حتى كادت تلتهم وجهه، قال:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->هذا بسيط، لأنك تجلس تحته.
بحركة
هرش لرأسه بدا و كأن الجواب لم يقنع صاحب الكتاب لذلك أسرع بالقول :
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->لكن يا محمد، لنفرض أنني لا
أملك غير هذا المكان، و أنني مجبر أن أجلس تحت الجدار. في هذه الحالة لماذا يلقي
علي بظلاله؟
نظرة
من محمد للجدار من أسفل حجر إلى أعلى كافية أن توحي إليه بفكرة عدها مستنيرة، قال:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->لأنه شامخ عال و أنت بالنسبة إليه
قزم حقير، لذلك يلقي عليك بظله.
من
ملامح وجهه التي لم تتغير عرف مجمد أن صديقه لم يتأثر بالجواب، لذلك انتظر منه
مزيدا من التساؤلات، و هذا ما حصل إذ قال صاحب الكتاب معقبا:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->هذا أيضا لا يكفي، لماذا لا
يكتفي بشموخه و يدعني أنا و شأني الحقير دون أن يلقي علي بظلاله؟
في
هذه المرة، لم يبتسم محمد و لم يحاول، و إنما بدا عليه نوع من التفكير العميق الذي
لم يدم طويلا. نظر إلى الجدار ثم إلى السماء. هنا فقط بش في وجه صاحبه قائلا:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->لنقل إن الجدار نفسه مجبر أن
يلقي عليك بظلاله.
كان
صاحب الكتاب غارقا في لجج التفكير فلم يسمع صوت صاحبه، و برغم ذلك علق:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->دع عنك مسألة الشموخ تلك، و لكن
الجدار بحاجة لأن يلقي بظله، فلماذا؟
غضب
طفيف أصاب محمد، أحس كأنه آلة تجيب فأحس بالضآلة. لكنه أجل الخوض في هذا الموضوع
واستثناه لأن هناك ما هو أهم. تجاوز الغضب ثم استأنف الحديث بتفسير عبارته
السابقة:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->قلت لك إن الشمس تجبر الجدار أن
يلقي عليك بظلاله.
هنا
انتفض صاحب الكتاب و كأنه أرخميدس و قد عرف سرا من أسرار العلوم المستغلقة على
الأفهام حتى كاد الكتاب يسقط من يده. نظر إلى صاحبه و كأنه يراه لأول مرة. قال :
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->أحسنت، هذه الشمس إذن من تجبر
الجدار أن يلقي بالظل و كأنه محكوم عليه من قبل جهة نافذة و الشمس من تنفذ الحكم
فيه. لو خضنا في الأمر لوجدنا أن التنفيذ نفسه نوع من العقاب أو التكليف المرهق
المستمر الذي لا يحده زمن. لكن أليس في جعبة الجدار غير هذا الشيء الأسود ليجود به
علي؟؟
كان
محمد يعرف أن صاحبه نهر من التساؤلات التي لا تنتهي. كان عليه أن يسايره طرفا بطرف
و يبتغي مرضاته حتى يفوز بمراده. كان مجبرا هو الآخر أن يجيب، لذلك فكر قليلا و أدار الفكرة المدعاة التي سقطت على صديقه في
رأسه. لما لم يصل لإجابة، قال مداورا:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->اسمع، في هذا العالم نوع من
التتام و التكامل المنطقي الذي تفرضه الطبيعة على الأشياء. فبوجود شيء مبهر لامع
يوجد شيء معتم أسود، ثم عن الشمس بضوئها المشرق تجبر الجدار أن يلقي عليك بظله
الأسود الذي تحتاجه أنت لتتقي ذلك الشيء الباهر المسلط عليك من الشمس.
في
شبه اقتناع حرك صاحب الكتاب رأسه موافقا، لكن دماغه مازال يموج بالتساؤلات. قال:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->هاك تساؤلا آخر. أنا الآن مستند
للجدار و ملتصق به و كأنني جزء منه و رغم ذلك فظله لا يكاد يغطيني، أنظر... لماذا؟
محمد
رغم هدوئه وبروده المعروفين، بدأ يضيق بتساؤلات صاحب الكتاب. زوى ما بين حاجبيه
مفكرا ثم أجاب:
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->ظل الجدار لا يغطيك الآن لأن
الشمس ما تزال فتية لم تصل إلى نقطة النضوج الكافية لتجعل الجدار يغطيك كلك بظله.
تمنى
أن تنتهي أسئلة صديقه الفضولي ليدخل في الموضوع الذي جاء من أجله. هو يعلم أن أنه
ما لبثت رأسه تعج بالتساؤلات فلا مجال لحديث آخر معه.
صاحب
الكتاب يتأمل جواب صاحبه محمد و يتمتم ببضع كلمات غير مفهومة. صمت للحظة غير قصيرة
استجلى من خلالها مكامن الضعف في إجابة صديقه، فأردف:
هذا
يعني أن الشمس هي من تتحكم في الظل و أن الجدار في وقت الزوال سيكون مجبرا أن يمدد
من طول الظل ثم يزيد و يزيد و بعدها يبدأ في النقصان من جديد.
محمد
الرجل الذي تشهد له حتى الطيور ببرودة الأعصاب فقد تماسكه و انفجر من سخطه قائلا:
ألا
تكتفي من هذه الأسئلة السخيفة، يا أخي ماذا يعلمك هذا الكتاب غير وجع الدماغ و شحنه بمتناقضات الدنيا و غمام الحقائق ،
استفق فالدنيا غير التفاهة التي تغرق نفسك فيها.
هذا
الصراخ و اللغط و الاحمرار الذي سال من عيني محمد لم يهز شعرة من رأس صاحب الكتاب
و كأنه غير موجود. كائن بجسد وروح لكن لديه القدرة على فصلهما وقتما شاء. هذه
اللامبالاة أججت من غضب محمد الذي بذل جهدا جهيدا في محاولة لمسك زمام نفسه.
قال
صاحب الكتاب و كأن حال صاحبه شأن لا يعنيه:
"
نعم هي الشمس و ضوؤها يمدان الجدار بقوة تخرج سوداء على شكل ظل يمنحني نوعا من
البرد و الأمان، لكنهما لا يكفيان. الجدار يعطي هذا الظل كما يريد، و لست أتحكم في
هذا الظل و لو أنني المستفيد. تعال الآن لنتساءل لو أردت أن لا يسلط علي الجدار
هذا الظل، فماذا علي أن افعل؟
كان
محمد قد استعاد بعضا من هدوءه و بدأت ابتسامته مجددا في التشكل حول شفتيه. رد
ببساطة و كان الجواب من بدهيات الطبيعة الأزلية:
لك
أن تختار: تحجب الشمس أو تهدم الجدار أو ترحل عن المكان.
نوع
من السكينة نزل عليهما فلبثا في صمت دون حراك. صاحب الكتاب ينقب عن ضوء جديد في
كتابه الضخم و محمد واقف ينظر إليه و يرقب
الوقت يمر و الموضوع الذي جاء من أجله خبا و لم يبق منه غير دخان. فكرة كانت راغبة
في الخروج من غيهب يحتويها فوأدها بصبره اللامتناهي و إنصاته لصاحب الكتاب. هذا
الأخير وجد الضوء أخيرا فنهض من النتوء و استقام، تأبط الكتاب و قال:
"
حجب الشمس غير ميسور و الجدار من الزمن مقهور، أما أنا فمن الرحيل غير معذور..
ثم
تذكر بشكل فجائي أمر صاحبه فوجه إليه الكلام بعدما كان يتحدث و كأنه يخاطب جمهورا
غير مرئي:
و
أنت، لم جئت تزعجني في خلوتي؟
فضم
صاحبه يديه ثم بسطهما في إشارة لبعد الحديث:
كان
مخاضا أوجعني و سبب لي نوعا من الأرق، لكن الآن أشعر أنه زال.
كانت
نفسية محمد متذبذبة بعد ذلك الخضم من التساؤلات، اضطرب فكره و تشوش، لكن فكرة
الخيارات مازالت تراوده و تفرض سؤالا من نوع جديد: أفعلا ليس هناك خيار ثالث؟
كان
يود طرح السؤال على صاحب الكتاب، لكن إشارة هذا الأخير وضعت حدا لهذه الرغبة، إذ
أشار إليه أن اتبعني. تبعه سائرين إلى البيت العتيق و تركا الجدار في عليائه يلقي
بظلاله على الفراغ.
إبراهيم
البوزنداكي