قد مضى زمن بعيد على سقوط تلك الفتاة ، بُعَيد رحيل الصيف .
أذكر الآن – بعدما أيقظتني من النوم بقبلتها الحانية - كم غُصتُ في تفاصيلها قديما عندما ألقيت عليها النظرة الأولى وقت ارتياحها بالموت وافتراشها سُحُب التّراب .
لم أكن أعلم أن هيبة الرّحيـل تلك ما هي إلّا وهم ضئيـل قليل ، وأن المهابة الحقيقية تأتي فيما بعــد !
ظننتني تعلّمت درسـا رفيع الشأن على يـد السّراب ..
ولكنّني بعد مجيء المطر .. أبصرتُ كلّ شيء .
~~~~~~~~
كان ذلك قديمـا ..
تصيبني القشعريرة حين أبتدىء الكلام بتلك الغريبة " قديمـا " !
أكان ذلك قديما ؟ أحقّا ؟
كنت حين أُنصِت بخوف لهلوساتِ العجائز وتخاريفهم القَصصية ، أحسّ حالة مماثلة من الجمود والقشعريرة ، بالأخص عندما يبدؤون خيالاتِهم بـ" كان يا ما كان ، في قديم الزمان " .
قد كان "قديم الزمان" يعني لي – في ذلك الوقت – ما هو بعيـد .
أما الآن فلم أعد قادراعلى فهم الفلسفة الشائكة وراء معضلة الزمن !
تعطّل عقلي تماما عن اقتفاء أثر الوقت !
أترون ..
لقد تعلّمت دروسا كثيرة في الماضي ..
واختبرت كذلك أحاسيس متعددة .. ومعارف شتّى .
ولكنني الآن – كما أسلفت – أبصرتُ كل شيء .
~~~~~~~~
" بدّي أسألك سؤال .. إنتَ ليش عايش ؟ "
كان ذلك قديمـا ..
عندما حيّرني أحدهم بمسألة الوجود ، وأدخلني دوامة فلسفية لم أخرج منها .. إلاّ قديما !
" شو ليش عايش ؟ عايش علشان ربنا خلقني ! "
أذكر رعشتي حين ألقيت على سمعه ذاك الجواب ..
ولكنـه بدا – لي - ردّا منطقيـا للوهلة الأولى !
" بعرف علشان ربنا خلقك ! شو شايفني حمار !؟ "
لطالما أحببت فَهم الحمير .. واحترمت وجودها ، بل وفضّلتُها – في بعض الأحيان – على كثير من البشر !
أذكر حينها أنني دقّقت بملامحه جيدا ، ولكن لم أعثر فيه على ذاك "الحمار" الذي اتّهمني برؤيته !
" لا .. حاشَ الحمير ! "
تراودني الآن رغبة بالضحك .. فقد اكتشفت صِدق ردّي !
" ولّك عن جد بحكي ، يعني إنتَ حاسس إنّك إذا متّ رح تتأثر الدنيا بشيء ؟ "
على الرغم من أنني أحسست عاصفة هوجاء تقتلع كل رسوخ في كياني جرّاء ذلك الاستفهام .. إلّا أنني أحببت التقليل من شأنه وتفاديه ، لا شيء .. إنما كي لا أشغل عقلي الرضيع بما هو ناضج !
فقد كان للمقولة العريقـة " اللي فيني مكفّيني " أثر كبير على حياتي .. أنا وغيري !
~~~~~~~~
قد كان ذلك قديمـا ..
عندما بدأت أتأمّل بِنَهم دهاليز ذلك السؤال الفلسفي الكبير ، الذي قيّدني بعِقاله زمنا و ألهمني الكثير ..
ومنحني فيما بعــد .. بعض عِلم .
كان سؤالا يستحِقّ الطّرح ، ويستحقّ عناء الإجابـة .
" بتعرف .. الواحد حاسس حياته فاضيـه "
أذكر تلك العبارة جيّـدا ، حين كنت في خِضَمّ الصّراع لمعرفة الفرق بين الحقيقة والسراب .
" صادق والله ، بس لازم نحاول نلاقي معنى لحياتنا أو موهبة معينة ترفعنا "
أصابتني تلك الكلمات بِهَمّ إضافيّ !
" بس كيف ؟ والله حاسس الشّغلة صعبة ! "
أشعر الآن بغبائي الماضي ..
وأعترف لنفسي .. بضِيق فَهمي !
" إنتَ حاسس إنها صعبة لأنك ما بدّك تتعب حالك ! إنتَ بدك تقعد مثل البقرة وجودك وعدمه واحد ! "
لم يكن ذلك شخصا واعيا كما قد ترون ، قد كان شخصا .. فارغا !
كان يعشق التنظير والفلسفة الفارغـة .. متكبرا بعض الشيء !
ولكنني أذكر أن فكرة ما راودتني .. فقد التمعت في ذهني صورة لبقرة جالسـة !
وتساءلت " كيف جلست ؟ "
ولكنني تجاوزت تلك الفكرة كعادتي مع جميع الأفكار الأخرى ، التي قد تستدعي مني ولو قليلا من القلق !
" لا يا رجل ، بس حاسس إنّي الأصل بدأت البحث من زمان ! "
هي جملة استعنت بها لطرد تلك الأفكار الخبيثـة !
" والله ما بعرف .. الله بيعين "
كان وقعُها عليّ كبيرا .. " الله بيعين ! " ..
لم أدرِ حينها لِمَ أحببتها .. ولكنني الآن أدري ..
فطبيعتي المتواكلة أحبّت أي وهم قادر على منحها الراحـة .. وإن كانت راحة زائفـة !
~~~~~~~~
كان ذلك قديمـا ..
حين انتهت بي فلسفتي إلى خيط أوصلني بالتدريج .. إلى المعنى .
أذكر جيّدا نبرة صوته المتحمّسـة ..
" صحيح ، إنتّ كتبت خاطرة اليوم ونشرتها على الفيس بوك صح ؟ عجبتني ، حلوة كثير "
أسعدني الإطراء ، وأثار في نفسي تأكيدا لما كنت أظن .
" شايف ، اكتشفت إني بعرف أكتب ! "
كنت سعيدا ومبتهجا لوجود موهبـة ما داخل قلمي ..
وسعيدا أكثر لقدرة غيري على رؤيتها وإثبات وجودها !
" طيب تمام ، حاول تطوّر حالك وتزيد قدرتك وجمالية كتاباتك أكثر وأكثر "
أذكر أنني توقفت عن البهجة برهـة ، وفكّرت " لم تكن الخاطرة جميلة إذا ! " ..
ولكنني تجاوزت تلك الفكرة – لسبب تعرفونه !
" الله بيعين "
قلتها لأرتاح – لسبب تعرفونه أيضـا !
~~~~~~~~
وساقتني أمواج الخواطر والأشعار إلى يابسة ذبت شوقا إليها طويلا .
هناك عالم فيه كل شيء واضح جليّ ، ولا حاجة فيه إلى تبعيّـة أو نِفاق !
أحسست بالنضج الذي ألَمّ بي ..
وبالعواطف والأحاسيس التي اعتملت برفق داخلي ..
أحببت عالمي الجديد .. وكوّنتُ بيننا رابِطة قويـة ، مثيرة للعشق .
وعزمت على المسير والعطاء ، إلى آخر قطرة عُمر .
كنت عندما أجلس مع الليل في تلك الأيام الخوالي ، مُقلّبا صفحات الأيام ، أصاب بدهشة عجيبة ورغبة جارفة بالضحك !
فقد كنت في تلك السّجلّات الرثّـة يافعـا ، طائشا ، يرافقني جهلي العِلمِيّ .
و بعدما تسلّقت الأسئلة سور حياتي ، تحوّلت شابّا عاقلا .. مليئا بالحياة الحقيقية .
كذلك أبصرت نفسي !
وها أنا الآن .. تصيبني رغبة عارمة بالضحك .. والبكاء أيضا !
~~~~~~~~
ما زلت أذكر ذلك اليوم ..
وأظن قطعـا ، أن ذاكرتي لن تصاب بالتلاشي كلما تقدم بها الزمان ..
ربّما .. لأن الزمان هنا ليس حيّـا كما الماضي .
أو ربمـا .. لأن بقعة سوداء ابتلعته للأبــد !
كنت يومها أتجوّل وحيـدا في إحدى صور الطبيعة الساحرة .. في رحاب الجامعـة .
كنت أشاهد الحياة ..
كنت خائفـا .. وضعيفـا .
فكلما تذوّقت قدرة الحياة وقوّتها .. أحسست بضآلتي .
وكلّما بدت لي ضآلتي ، وبان لي حجم ضعفي ، تذكّرت نداءاتِ بعضِهم حين يخاطبونني ..
" كيف حالك يا كبير " !
وأبتسم .. دامِعـا .
أذكر أنني حلّقتُ كثيرا في سماء تلك الصورة ، وتأمّلت تفاصيلها طويلا .
لم أكن أعلم أن هذه الصورة ستتشبّث بي .. إلى الآن !
لم أقوى على المغادرة ..
أحببت أن أبقى ، أن أشتري خيمـة وأنصُبها في خريف الطبيعـة ..
أن أعيش هناك أبدا .. في قلب الحقيقة .
" قلبُ الحقيقة ! " أءسفُ الآن على مثل ذاك الاعتقاد !
~~~~~~~~
أذكر حينها – وبعد ساعات من التجوال – أنني سُرِقتُ ناحيـة تلك الشّجرة المتهالكـة ، التي أثكلتها قبضـة الأيام فأماتت أوراقهـا .
أذكر تلك اللحظة – بالذات – بوضوح استثنائي .. فقط لأنني لم أكن أعلم وقتها أنني سأُسرَقُ للآن !
وسقطت عيني على واحدة من بناتها الساحرات ..
فامتدّت إليها يدي بحنان ، واحتضنَتها برفق ، وقرّبَتهَا من فمي لتُقَبّلها شفتاي بحُرقـة !
هي حُرقـة لم أختبرها في حياتي قبل ذلك .
أذكر أنني تأثرت كثيرا ، وشارفت حينها على البكاء .. لم أدرِ لِمَ .
ولكنني لم أبكي ، لأنني – كما تعلّمنا قديما – " رَجُـل " !
أبحرتُ طويلا في تفاصيل تلك الفتاة ، وهي ملقاة – بغير حَول – بين يديّ .. صفراءَ شاحبـة .
أحببتُها ..
وصوّرتُ لها في مخيّلتي أجمل تاريخ ..
أغرِمتُ بها كثيرا ، وخاطبتُها أيضـا ..
" لماذا لم تَسرقي عينيّ قبل الآن ؟ ولماذا فعلتِها الآن ؟ "
ولم تُجِبنِي ..!
" لكنّني أسامحكِ ، فقد كنتُ أعلم أنّكِ خجلَى .. لا تحبين لفت النّظر – كما الأخريات - ، أنتِ عذراء صافيـة "
وتذكّرت إحداهُنّ - كنت قد أحببتها قبلا - وظننت أنّي لن أفارق حبّها أبدا .
ولكن .. بعد أن بانت فتاتي المستريحـة فوق كفّي ، نسيتها ونسيت كلّ الباقيات ..
فهُنّ لسنَ كمِثلِها .. أبـدا .
حفِظتُها على كفّي ، ومشَيت بهـا ..
ضحِكتُ معهـا ، ووعدتها بالسّعادة والهناء .. معي .
~~~~~~~~
ما زلت أذكر ذلك اليوم .. ولن أنسى .
حين دخلتُ – بِرِفقتها – حافلة الرّحيـل !
وجلستُ بوقار على أحد المقاعد المتهالكة ، وأجلّستُها بهدوء فوق قلبي .
لم أدرِ لِمَ راودتني تلك الرغبـة العاصفـة بالقراءة !
فقد حرصت على أن أمَتَعها بكلام عَذب من بنات قلبي ، ولكنني لحظتها افتقرت إلى البيان .
فأخرجتُ من حقيبتي كتابا لطالما أحببتُه .. ورحت أقرأ – لها – صامتـا .
بدأت بالفصل الأخير من المسرحيـة .. لم أدرِ لِمَ !
لكنني أقنعت نفسي حينها بظّنّ مـا ، أنّ الفصل الختامي لمسرحيـة " روميو و جولييت " هو الأجمل .
هكذا ظننت .. وهكذا جهِلت !
أعلم الآن .. أن مصيرنا أشبَهَ – إلى حدّ ما – مصير البطلين ..!
فالحقيقة أنني قرأت ذلك الفصل الأخير لِشَبَه ما بيني وبين "روميو" وبينها وبين "جولييت" ..
أن الحبيب يموت مُرغَما حين – يظُنّ – رحيـل الحبيبة .
~~~~~~~~
ما زلت أذكر ذلك اليوم .. ولم أنسَى .
قرأت لها كثيرا ..
وكنت أحِسّ فرحـة خفيّة تقتحمني كلما تقدّمت بالقراءة ، فقد استولى عليّ شوق الوصول إلى الخاتمة ..
و أحسستُ فرحتها .. فشاطرتها الإحساس .
ولكنني لم أكن أعلم أنّ شِدّة الحُبّ سَتُجبِرُ الأقدار على أخذِي .. لأشاطرها ذات المصير أيضا !
كم أحببتُ أن أتمّم اللقطة الختاميـة قبل الرحيـل !
ولكنّها الأقدار شاءت أن تُتَمّم ذاك الختام حقيقة ، وتَعرِضَهُ ببعض التحريف .. في بطلين جديدين !
~~~~~~~~
ما زلت أذكر ذلك اليوم .. وتِلك الظُّلمةُ الأخيرة .
إنّني سعيـد الآن ..
فأنا لم أعاني في تلك اللحظـة الكثير .
فقد رَحِمتني الأقدار سريعـا .. بلا ألم - أنا وغيري من المسافرين في حافلة الرحيل تلك !
ولكن .. هناك سبب آخر يستثير سعادتي .
فحبيبتي وأنا .. هنا !
هي أيقظتني مرتين ..
قديمـا .. عندما علّمَتني درس المحبّة .
والآن أيضـا .. أيقظتني .
فقد كنت لدى وصولي نائمـا ، سابحا في متاهات الفراغ ..
حين أحسستُ عذوبة شفتَيها ، إذ ترسمان على وجنتي قُبلة دافئة فريدة ..
وتُريني صورة ثانية للمكان .
هو ذات المكان ..!
وهذه خيمـة .. كنتُ قد فكّرتُ فيها قديما .
وهذه الشّجرة الأم .. قويّة ناضرة من جديد !
وها هي البِنت .. مبتهِجَة خضراءُ على وجنتي كما لم أرها قديمـا .
وهذه هي الحياة .. التي أشاهدها للمرة الأولى كما لم أشاهدها قديما .
سعيـد أنا الآن ..
وتداعبني رغبـة بالابتسـام !
فعندما تعود بك الأيام إلى حيث السراب .. ترى نفسك ساذجا !
وتبتلعك البهجـة حين تُشفى ..!
وقد شُفيت .
~~~~~~~~
ولكنني .. أسترجع بعض الذكريات .
وأنظر من هنا .. إلى هناك .
فأرى " أحَدَهم " و " إحداهُنّ " بعد رحيلي ما جرى بهما ..
كيف عادوا للسرور ، وكأن قلبي لم يذُب في بعضهم .. زمنا قديما !
لقد رحلتُ .. وانتظروا !
لم أعُد أبالي ..
قد اكتسبت من العلم ما هو حقّ .. وتخلّصت – أخيرا – من عذابات الصراع .
وطهُرتُ من درن السراب .. بالمطر !
وها أنا الآن .. وحبيبتي .. معـا .
ماذا أريد أكثر !
هنـا .. أقلّبُ العُمر .
وأكتُبُ .. لا لشيء .. إلّا لأنني علِمتُ الحقيقة بعدما فات الزمان .
وبعد كل علم قديم جمعتُه .. أوَقّعُ في حاشية اليقين :
" على قارعـة الخريـف ..
تعلّمتُ .. جَهلِي " !