- 1 -
الريح تزأر ، وتضرب بمخالبها الأبواب الخشبية لبيوت طينية مبعثرة بين الحقول ، والنهر يخترق خاصرة القرية النائمة ، والأشجار يحولها ديجور الظلام إلى أشباح .. فتختلط دمدمتها بقهقهات سكيرين.
ثمة أصابع يابسة كـأعواد القصب تشير إلى زجاجة سابحة في النهر ، بينما العيـون الثملة ترنو إليها.
- أتراهن ..؟
- نعم. لكن على أيّ شيء وعلام ..؟
-أن أنزل في الماء ، وأعود بتلك الزجاجة والمارد الذي بداخلها (شبيك لبيك..ها ها ها....) .
-لا تنزل يا صطوف. إنك مخمور، والنهر غدّار .
كانت برودة الماء مساميرَ تخز جسد صطوف لكنّ صطوف أبى إلا أن يعود بالزجاجة الخاوية ، ولمّا خرج من الماء كان جسده يرتعش كورقة خريفية ، ومن عينيه يتطاير شرار أحمر ، ولسانه البدائي يحاول تجميع الأصوات لتصل إلى أذني حمدان كالرعد حينما اجتمعت
في كلمة واحدة (جثة) .
- 2 –
كان الموقد الذي أشعله السكيران عاجزاً عن قتل القشعريرة التي تسري بجسديهما كأفعى. سأل حمدان صطوف وهو يقلّب يديه فوق لهيب النار :
- جثّة من تلك التي رأيتها...؟
- لا أعلم ، لكنني متأكّد من أنه شخص له رأس ، وشعر ، وبطن ....ربما تكون جثة جاسم .
- جاسم . من قتله ..؟
- أنت.
- أنا . ماذا تخرّف يا صطوف..؟
- أنت الآن سكران . ربما عندما تصحو تتذكّر أنك من قتله. تذكّر أرجوك تذكّر يا حمدان .
- أنت تقول عني : سكران يا سكران .
- الزم حدودك يا حمدان . أنا لا أسكر ، حتى لو كان المحيط خمرة ، لشربته دون أن أسكر .
- لماذا لا تقول : إنها جثة فاطمة ، وليست لجاسم..؟
- فاطمة..........؟!!!!
- أنسيت حبك لها وزواجها من عرفان ..؟!
- أنا لم أقتل فاطمة . الجثة لجاسم ،وأنت من قتله .
علا صوت السكـيرين . التحـم الجسـدان .انغرزت الأسنان والأظفار باللحم . كان صراع الديكـة دامياً ، والليل يطرق كلّ باب . وقبل أن يتعشّى حمدان بصطوف تغذّى صطوف به ، فأشار للجموع التي احتشدت للضفة الأخرى ، وصاح بهم :
- هناك جثة جاسم . ألم يخرج جاسم إلى المدينة منذ يومين ولم يعد..؟ لقد قتله حمدان ولن يعود أبداً.
- كاذب . إنها جثة فاطمة ، وأنت من قتلها .
وصل عناصر الشرطة يتقدّمهم ضابط نحيل .. أشقر ، طويل ، قاسي الملامح ..لذا فإنّ أهل القرية يسمّونه ( هترر) .أمر الضابط بأخذ المتهمين ، واستبقى عدداً من رجاله في المكان لحراسة الجثة ريثما يحضر الطبيب الشرعي ...وغادر المكان وهو يردد للحاضرين عباراته بديناميكية :
- خير إن شاء الله . سنحدد سبب الوفاة .سنعرف القاتل.
- 3 –
كانت ليلة فريدة من نوعها في تاريخ القرية كلّه فلم ينم أحد من أبنائها تلك الليلة.الكل يتحدثون عن الجريمة التي ارتكبها أحد السكيرين بحقّ الشخص الذي ما زال مجهولاً ، إذ لم يستطع القرويون إلى الآن معرفة القتيل ..أهو فاطمة ، أم جاسم ، أم شاهر صاحب الثأر القديم مع حمدان ، أم زينب زوجة حسنين.. أم لوسي..؟
- لوســــــــي...؟؟؟!
- الراقصة التي أحضرها رئيس البلدية لتحي حفلة لابنه شعلان عندما حفظ { قل هو الله أحد}.
- ذكرتها...جميلة ووجهها مثل رغيف الخبز ..وحركاتها مثل القرد...أما صدرها...
- أطلب منك وصفها ، ولكن أريدك أن تسمعي وتفهمي ما سأقوله لك : لقد جمعها الشيطان برئيس البلدية ن ولما خشي أن يفتضح أمره في القرية فيَصل الخبر إلى زوجاته الأربعة ، قتلها .
ضربت زوجة صالح على صدرها بقبضتيها
- لا تخافي لن أسكت عن الحقيقة
- وماذا ستفعل ، هل ستشي بسر رئيس البلدية..؟ ابلع لسانك ، ولا تفتح علينا أبواباً ،و مع من ...؟ مع رئيس البلدية . الله يصلحك يا صالح . ألا يوجد في القرية سواك يعلم الحقيقة ..؟
(الشباك اللي يجيك منّوا ريح سدّوا واستريح ). اقترب صالح من الشباك . راقب الطريق برهة ولما تأكد أن ما من أحد يسمع كلامه سوى زوجته.. أغلق الشباك وصاح بوجه زوجته :
- سأقول الحقيقة ولو على قطع رأسي.
- 4 -
عينا الضابط تحد قان بفنجان القهوة الخاوي تحاولان استقراء الخطوط لمعرفة ما يخبئه له يومه الجديد. عن يساره باب غرفة التحقيق الذي كان يُسرّب استغاثات
صطوف وحمدان، وأنينهما. ارتسمت على شفتي { هترر} ابتسامة صفراوية ، بينما أصابعه تلهو بقلم ، وتقرع به طرف الطاولة الخشبية .
- اعترف أيها النذل .
- أقسم يا سيدي ...
- اخرس .تفو.
- لقد كسرتم قدمي.
- وسنكسر رأسك ، إن لم تعترف.
لم يسمع {هترر} ضجيج الغرفة المجاورة . إذ كان يسبح في بحر خيالاته ، يصطاد الترقية التي ستكون ثمن اكتشافه المجرم في قضية له شرف فضحها. فُتح باب غرفة التحقيق وخرج منه رجال الشرطة يجرون جسدين منهكين بثياب ممزقة مضرجة بالدم والعرق.. وبعد أن أدّى التحية العسكرية قدّم أحد الضباط تصريحين من المتهمين بقتلهما جاسم وفاطمة شارحين خطوات جريمتهما ومكان إخفاء الجثتين .حدّق الضابط بالتصريحين ملياً ، ثم رفع بصره إلى عصفورين تمكّن الصياد منهما :
- لا يمكن لأحد أن يخرج من هذا المكان...قبل أن يعترف .
- 5 –
صباحاً تسلّلت الشمس من بين الأشجار ، لتصل مع القرويون إلى ضفة النهر .الجميع عيون موثقة بقارب يتجاذبه الموج غير آبهين لـ (هترر) الذي أخبر المختار بضرورة تسلّم جثتي صطوف وحمدان من المخفر :
- تصور يا مختار . لم يحتملا التوتر العالي . الناس طلعوا إلى القمر ، وما زال متهمونا لا يحتملون التوتر العالي ..
وأخيراً وصل القارب الذي يقل الجثّة ، فالتفّ جاسم وفاطمة وَ القرويون حول القارب ،لكنهم ما لبثوا أن تفرّقوا مشدوهين بينما هترر يعلن لفلول القرويين :
- انطلاقاً من مبدأ الرفق بالحيوان ، ستستمرّ القضية لمعرفة من الذي قتل الـ ...جحش...؟.