د.هوستن سميث،تر: الأستاذ سعد رستم([1])
نشر: دار الجسور الثقافية، سوريا.ط1، 2005
(1)
الفكرة:
تسجيل بعض العبارات التي تشدّني أثناء المطالعة ثمّ تحليلها والإضافة إليها بما يتوفّر لديّ من معلومات وما تثيره من أفكار.
الزمان: 20رمضان 1430، الموافق ل10 سبتمبر2009
الساعة: 07:30 بعد صلاة المغرب
صفحة: 98
يقول الدكتور هوستن سميث: أعلن عالم الأحياء البريطاني "جوليان هوكسلي"([2]) حوالي منتصف القرن الماضي أنّه: "عن قريب سيصبح من المستحيل لأي رجل (أو امرأة) ذكيّ ومتعلّم أن يعتقد بوجود الله كما هو من المستحيل اليوم الإعتقاد بأنّ الأرض مسطّحة."
طبعا، هذه العبارة تعتبر مثالاً واحداً فقط من بين الكثير من التصريحات التي أطلقها ولا يزال يُطلقها من يُحسبون على العلم. ومثل هذه الكلمات -الصادرة من أحد علماء الأحياء- تُـثْلج صدور الملحدين وتزيد قلوبهم إيمانا وعقيدتهم الشركِيّة رسوخا.(ذلك لأنّهم في الواقع ليسوا أحراراً،كما يدّعون، بل عبدةٌ لأهواء أنفسهم.). بينما تثير حفيظة المؤمنين –أيّا كان إيمانهم- لأنّها تنبّئ بمفهوم المخالفة؛ أنّ الإنسان البليد والجاهل هو الوحيد الذي سيبقى متشبّثاً بإيمانه. وهناك من لا يكترث بمثل هذه الشتائم مقتدياً برسوله-مختلف الرسل- الذي تعرّض لشتائم أكبر من هذه وصبر وما استكان فكان هو الأقوى. أيّا كان الموقف فالضحية هم أولئك الذين-المؤمنين أو غيرهم- ينقادون بسرعة وراء ما يسمعونه ويتأثرون به، وذلك لهشاشة الأرض التي بنوا عليها إقتناعاتهم.
ما يهمّنا في هذا الأمر هو هذا التفكير المادي المتسلّط الذي تُقلقه أفكار أو مواقف ثلاث – حسب تحليل د.هوستن سميث- وهي:
- انتقاد النظرية الداروينية.
- الإستدلال على أنّ الكون تمّ تصميمه بتخطيط عقلي ذكي.
- القبول بإمكانية أن يتدخّل الله أحياناً في التاريخ بطرق خارج القوانين التي تعمل معها الطبيعة.([3])
فهذا التفكير المادي، الذي لا يتجاوز النظر فيما هو مادي محسوس إلى ما هو معنوي مُجرّد، يُذكّرني دوماً بما يجده الدارس في – علم نفس الطفل- وبالتحديد في ما يميّز السنوات الأولى من الطفولة المبكّرة حيث يتميّز النموّ العقلي للإنسان في هذه المرحلة بتعلّقه بالمحسوسات في سبيل استيعاب العالم من حوله وذلك أكثر من فهمه للمعاني المجرّدة. ثمّ بالتقدّم في العمر وصولاً إلى مرحلة المراهقة؛ يصبح عقل الإنسان أكثر استعداداً ممّا مضى لفهم المعاني المجرّدة.
من خلال هذا الربط نتساءل: هل يعني هذا أنّ الملحدين لا زالوا يعيشون طفولة فكرية وعقولهم لم تنضج بعد؟؟ وأنّ المؤمنين يعيشون عمرهم الحقيقي الذي فيه قد تمكّنت عقولهم من استيعاب المعاني المجرّدة؟ سؤال مطروح.
أمر آخر ذكّرني به الإعلان السابق هو المفهوم السائد للقيم في عالم اليوم، حيث من الملاحظ أنّ هذه المفاهيم تلطّخت بالتفكير المادي الذي قضى على روحها الطاهرة، والأمثلة على ذلك كثيرة نأخذ نموذجين منها كي تتضح الصورة:
- مفهوم العمل: فبعدما كان مفهوم العمل مفهوماً واسعاً أصبح اليوم، بفعل تأثيرات الثقافة المادية التي ضيّقت مساحته، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعائد المادي من ورائه.([4])
- مفهوم الجمال: أصبح مفهوم الجمال اليوم مرتبطاً – في أذهان الناس- بالجمال الظاهري أي جمال الصورة والمظهر؛ أي جمال الشيء المحسوس وهذا ما يفسّر لهث الكثير من الناس في عصرنا هذا وراء عمليّات التجميل. فالجمال أوسع من أن يحصر فقط في المظاهر لكنّه التفكير المادي الطفولي الذي لا يريد أن يفهم إلاّ بما يراه واضحا أمامه.
---
بعد مرور ثلاثة أيام من كتابة هذه الأفكار، صادفتني عبارة في صفحة 129 من نفس الكتاب، أعدّها من غرائب المفارقات وها هي ذي: نقل د.هوستن سميث هذه العبارة: "قال الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي أوغست كونت: "إنّ الدين يُمثّل مرحلة طفولة الجنس البشري"، يستنتج د.سميث ما يلي متهكّما: "من الجيّد أن يعرف الإنسان الحقائق المتعلّقة بالطفولة لكن احتفاظه بوجهة نظرها يُظهر أنّه لا يزال طفلاً"..في الحقيقة لم يذكر كونت سبب ادّعائه هذا، أو على الأقل لم يعقد مقارنة كالتي قمنا بها من قبل كي يبرّر وصوله إلى هذه النتيجة، لذلك فالأمر يحتاج إلى مزيد بحث....
صفحة: 105
يقول الدكتور هوستن سميث:"...في الواقع هناك نقاش مشتعل بشراسة بين العلماء أنفسهم حول نظرية داروين، وتغذّي ذلك النّقاش تعليقات مثل: "فرد هويله" المشهور اليوم، والذي يقول إنّ فرصة الاصطفاء الطبيعي لإنتاج إنزيم واحد تماثل فرصة أن يؤدي إعصار يهبّ على فناء صناعة إلى إنتاج طائرة بوينغ747 ! أولئك العلماء أنفسهم، تجدهم عندما يدخل الدّين في الصورة يرصّون صفوفهم ويتّحدون في دعم الداروينية."
توَحُّـدٌ رُغْم اختلاف في الآراء؛ فالوحدة، انطلاقا من هذا النموذج، لا تعني دوماً اتّفاقاً على كلّ شيء كلّي كان أو جزئي، أصلي كان أو فرعي. المهم أنّها وحدة، ولو شكلية، تأتي في الوقت المناسب الذي لا يحتمل فيه الإختلاف أبداً لخطورة الأمر. فالمسيحيون مثلاً – عندما يتعلّق الأمر بالمصالح المشتركة- يتوحّدون مع اليهود في كتلة واحدة رغم أنّهم يحملون أحقاداً دفينة على اليهود الذين قتلوا نبيّهم عيسى – عليه السلام- حسب زعمهم.
فهناك مواقف عديدة تأتي لتُوحّد الجميع وتجعلهم ينسون خلافاتهم أو بالأحرى يضعونها جانباً لبعض الوقت. لكنّها في نهاية المطاف وحدة مؤقّتة، إلاّ أنّها فعّالة في ظلّ تلك الظروف التي أنتجتها فقط. أمّا إذا جئنا لصفوفنا، نحن المسلمين، ونتساءل: هل نحن موحّدون حقاً؟ أو على الأقل: هل لدينا وحدة مؤقّتة تنفعنا في الأيّام الحالكات؟ بعبارة أخرى: هل مجازر إخواننا المسلمين هنا وهناك وأزماتهم كانت كافية لجمع شملنا في عزّ ذلك الذلّ والهوان فنجحنا في إفراغ تلك الشحنة من الطاقة الموحّدة في سبيل استرجاع كرامتنا جميعاً؟
والجدير بالسؤال هو مايلي:
ما هي الوحدة التي يجب أن تكون والتي أرادها القرآن لنا في الأصل؟، هذه بعض الآيات القرآنية التي تجيب على ذلك وهي جديرة بإعادة النظر فيها مرات ومرات:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران/103-105][5]
﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج/78].
في الوقت نفسه نجد هناك من يعتبر التعايش بين المسلمين ممكناً لا التقريب، في هذا نرى أنّ التوحّد في الأمور الأصلية العقدية واجب على المسلمين أن يسعوا لتحقيقه بينما الفروع والإجتهادات الفقهية تتحكّم فيها عدّة عوامل تجعلها مرنة وفق حياة الناس. لذلك وجب إعادة النظر في الموروث العقدي بصفة خاصة، لما له من تأثير بليغ في حياة الناس وكيفية تفاعلهم مع المواقف المختلفة. فالوحدة الدائمة ضرورة يجب تحقيقها قبل كلّ شيء. لكن هل يمكن لـ"العلماء" من شتى المذاهب أن يتنازلوا عن إرث آبائهم ويحتكموا إلى كلام ربّهم في سبيل بناء معتقداتهم على أسس متينة لا تعرف الإختلاف؟ ليس من السهل وضع الموروث - اليسير المنال - جانباً والإتّجاه نحو البحث والتحقيق - صعب المنال واليسير على من يسّره الله عليه -، لكن هو السبيل الأوحد لتوحيد الصفوف وجعلها أكثر متانة وقوة في وجه الأعاصير التي تعصف بها من حين إلى آخر.
الحاجة إلى بديل
ص226
لا شكّ أننا نحتاج إلى بديل...
" يُخبرنا توماس تشارلمز أنّ فكرة هذه الخُطبة- خطبة أشار إليها سابقاً- أتتْه عندما كان على متن عربة خيول تسير بهم في طريق جبلي. عندما وصلت العربة إلى طريق ضيّق على حافة منحدر شديد، بدأ الحوذيّ (سائق العربة) بضرب خيوله بالسوط بشدة، الأمر الذي بدا لـ"تشارلمز" عملاً خطيراً، لكن قائد العربة أوضح له أنّه كان عليه فِعْل ذلك ليصرف انتباه الخيول عن الخطر المُحدِق بهم في ذلك الطريق. إنّ لدغة السياط جعلتهم ينشغلون بشيء آخر يُفكّرون به.
ومضى تشارلمز يقول في عِظته: إنّ الأمر لا يختلف بالنسبة للبشر. إنّ الناس لا يتخلّون أبداً عن عاداتهم المألوفة (السيّئة) بقوّة العقل ولا بقوة الإرادة، إنّهم يحتاجون إلى شيء جديد يُفكّرون به ويستجيبون له."
تبدو هذه اللفتة منطقية إلى حدّ بعيد.. وقد أوردها د.هوستن في معرض استدلاله عن رأيه القائل: بدلاً من تضييع الوقت في تفنيد نظريات فرويد، فإنّ في فهم روعة البديل الآخر ما يُغنينا عن ذلك تماماً كما فعلت لدغة السياط بالخيول.
لكن مامدى واقعيّة هذا الكلام؟
- في دعوة الأنبياء: قام الأنبياء عليهم السلام – بأمر من ربهم- بدعوة أقوامهم إلى دين التوحيد (البديل الصحيح) في سبيل التخلي تدريجياً عن دين الشرك.
- في سبيل تغيير المفاهيم الخاطئة والسلبية التي هي متطفّلة على الإسلام وفي سبيل إزالتها من أذهان الناس: نجد العلماء أصنافاً؛ منهم من يكتفي بمجرّد النقد ويبدي السخط على الواقع وعلى الحال الذي وصل إليه بنو جلدته، ومنهم من يواصل التقدّم خطوة نحو الأمام بعد النقد فيبحث عن منبع تلك المفاهيم السلبية والأسباب التي جعلتها منتشرة بين الناس. لكن الوقوف عند هذا الحدّ لا يُجدي نفعاً. فمن العلماء القلّة من يجاهدون في سبيل تقديم فهم أصحّ وأنسب مع واقع الناس وروح عصرهم. وفي تقديم بديلهم هذا يكونون قد وضعوا أقدامهم على الطريق الصحيح في سبيل تحفيز الناس على ممارسة إسلامهم بشكل أفضل بعدما يكونون قد تخلّوا – لاشعورياً- عن مفاهيمهم الخاطئة والسيئة.
لكنّه جدير بالتذكير أنّه ليس كلّ حلّ جديد يمكن أن نسمّيه بديلاً. فيمكن أن يكون البديل سيّئاً وأكثر ضرراً مقارنة بالوضع القائم. كلامنا هنا عن البديل الصحيح المُخلص دون غيره.
- البديل في التفكير: حولنا أشخاص يُفكّرون تفكيراً سلبياً للغاية، يُفكّرون في أخطاء وزلّات غيرهم- التي لن تنتهي للأسف-، يُفكّرون في كونهم مظلومين، محسودين...ماذا لو استبدل هؤلاء هذه الطاقة المُهدرة بالتفكير في قدراتهم الكامنة وفي مواهبهم الخاصة؟ ماذا لو صرفوا جهدهم نحو استخراج المكنون داخلهم وتفتيقه؟ ماذا ستكون النتيجة؟، الصنف الأوّل: إنسان عالة على الناس. الثاني: بعدما استبدل تفكيره الفاسد بآخر صالح أصبح شخصاً فعّالاً ونافعاً في عالمه.
أليس من الآثام أن يترك شخص الطاقات التي وهبه الله إيّاها، التي ليست عبثاً – حاشاه خالقي أن يفعل ذلك- بل دوماً لحكمة، ويصرف نظره إلى مشاكل صغيرة يبيت ليل نهار يُقلّب فكره – الخاسر- فيها. ألا يكون أكثر تعقّلاً حين يُحوّل (يُبدّل) تفكيره إلى المشاكل الكبرى التي تعتري أمته الإسلامية خاصة والإنسانية عامة؟
استبدل الرسول عليه الصلاة والسلام، الحاجة إلى نبذ جوّ الشرك الذي كان يُحاصره من كل مكان بممارسة رياضته الروحية الخاصة وهي التأمّل والإبتعاد عن الناس.
عندما يكون البديل أسوأ:
"إذا سعى شخص ما إلى صُنع مصيدة للفئران أفضل من المصائد المتوفّرة حالياً فإنّ هدفه مفهوم ومحترم ولا نملك إلاّ نتمنى له التوفيق. ولكن إذا سعى أحدنا إلى صُنع مصيدة للفئران أسوأ من الموجود حالياً، فإنّ مسعاه قد يحتاج إلى تفسير يُقدّمه لنا طبيب نفساني. إذا نقلنا هذه الإستعارة إلى الميتافيزيقيا، فإنّ المعنى هو التالي: سواء كان التصور التقليدي للعالم حقاً أم باطلاً فإنّه تصوّر واضح وقابل للفهم على نحو شفّاف. أمّا التصوّر العلمي للعالم فإنّه ليس كذلك، لأنّه طالما أقصى العلة الأولى والنهائية من حسابه مطلقاً، فإنّه يضعنا أمام طريق مسدود بشأن أسئلة ليس لديه أي إجابة عنها." ويعلّق المترجم على هذا الكلام شارحاً: لدينا تصور قديم للعالم يعطينا إجابة عن كل شيء. سواء آمن به العلميون أم لم يؤمنوا، لا يحق لهم أن يطالبونا باستبداله إلاّ إذا كانوا بصدد إعطائنا تصوراً أفضل منه.
في الحقيقة فإنّ البديل الأفضل ما هو إلاّ نتيجة منطقية يتطلّبها التخلّي عن العادات السيّئة. فبعد التخلّي يأتي التحلّي.
08-10-2009
الوقفة الختامية
من هو د.هوستن سميث؟
هوأستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية وصاحب مؤلّف "أديان العالم" الأكثر مبيعاً ورواجاً.
كان المؤلّف يُعرب عن رفضه الشديد لفكرة انحصارية النجاة في المسيحية التي تتردّد كثيراً في أوساط البروتستانتية، معتبراً إيّاها جهلاً ذريعاً بحقيقة أديان العالم الكبرى وما تتضمّنه من عُمق روحيّ أصيل، إذ كان يرى أنّها جميعاً طرق مختلفة توصل لنفس الحقيقة المطلقة وتُحقّق خلاص الإنسان ونجاته إن سار على نهجها بإخلاص، لأنّ جوهرها النهائيّ واحد يتلخّص في أن يُعامل الإنسان الآخرين بالمحبة والعدل والإحسان، تماماً كما يحبّ أن يعاملوه كذلك. وقد ذكرت حوارات أُجريت معه أنّه منذ 26 سنة يُصلّي باللغة العربية خمس مرات في اليوم، كما أنّه يمارس اليوغا كل يوم صباحاً، هذا مع استمراره بروتستانتياً ميثودياً. وعندما سئل عن ذلك أجاب مستعيراً التشبيه التالي: "وجباتي الأساسية هي المسيحية ولكنني أومن جداً بضرورة إضافة الفيتامينات المقوية وهي التي آخذها من أديان العالم المختلفة كالبوذية والكنفوشية والهندوسية والإسلام واليهودية، والطاوية والديانة الأمريكية البدائية ( للهنود الحمر)"
فكما هو مُلاحظ؛ يبدو أنّه شخص غير عادي. وهذا التنوّع في الديانات بارز في كتابات الدكتور..
إنجازاته:
دافع كثيراً من خلال كتاباته ومحاضراته عن الدّين وضرورته الحتمية في حياة البشر، وركّز على "بيان روح وحكمة أديان العالم وفلسفتها وجوهرها المشترك، ومخاطر عصر العلم والحداثة في ابتعاده عن الإيمان وخوائه الروحي الذي أغرق الغرب في نفق المادية المظلم وسجن الفردانية والأنانية التعيس." كما يُلخّص ذلك مترجم الكتاب.
أهمّ أفكار الكتاب:
لا يخفى أنّ هدف الكتاب الرئيسي هو تبيين قُصور التفسير المادي العلمي للعالم واقتناع صاحبه أنّ التفسير التقليدي (الديني) للعالم هو التفسير الأصحّ. فقد سعى الكاتب لحجد البراهين والنماذج الشاهدة على صحّة ما ذهب إليه.
فقد شبّه النظرة العلمية المادية للعالم بهذه الصورة وهذه الحكاية التي أرى ضرورة إيرادها هنا لأنّها تُلخّص ما أراد الكاتب أن يُوصله فيما يخصّ هذا التفسير:
الصورة:
تصوّر نفسك في بيت شعبي (من طابق واحد) في شمال الهند ، وأنت أمام شباك زينة يُطلّ على منظر مدهش لجبال الهمالايا؛ إنّ ما فعلته الحداثة، في الواقع، مُشابه تماماً لكونك تقوم بإسدال ستارة أمام تلك النافذة حتى مقدار بوصتين فقط فوق عتبتها (أرضيّتها). عندما أُمِيلت أعيُننا نحو الأسفل أصبح كلّ ما يُمكننا أن نراه الآن من الفضاء الخارجي هو الأرض التي بُنيَ عليها البيت. في تشبيهنا هذا تُمثّل الأرض العالم الماديّ، ولكي نُعطي الأمور حقّها عندما تستحق ذلك بجدارة، نقول: إنّ العلم قد أظهر لنا العالم رائعاً جداً بشكل لا يُصدّق. ولكن مع ذلك فإنّ هذا العالم الذي يظهر لنا، ليس جبل ايفريست.
الحكاية:
يُخبرنا "إي إف سكيوماخر" في كتابه: "دليل الحائر" عن تيهه وضلاله الطريق بينما كان يُشاهد معالم مدينة موسكو في العهد الستاليني. وبينما كان يبحث مرتبكاً محتاراً في خريطته، اقترب منه مرشد سياحي وأشار بأصبعه على الخريطة ليُبيّن له المكان الذي كانا يقفان فيه، فاعترض "سكيوماخر" قائلاً:
- "ولكن أين تلك الكنائس الكبيرة التي نراها حولنا؟؟"
- أجابه المرشد السياحي بكل جفاف: "إنّها ليست مبيّنة على هذه الخريطة، نحن لا نُظهر مواضع الكنائس على خرائطنا."
- "ولكن هذا غير صحيح، إنّ الكنيسة الموجودة هناك في زاوية الشارع، نجدها مُشاراً إليها في الخريطة." أصرّ "سكيوماخر" معترضاً.
- أجابه المرشد السياحي: "أوه، هذه كانت كنيسة فيما سبق، أمّا الآن فهي متحف."
ويُواصل "سكيوماخر" قائلاً: حالتنا تشابه هذه القصة تماماً. إنّ أغلب الأشياء التي اعتقد بها معظم البشرية، لا تظهر على خريطة الحقيقة التي حَصَلْتُ عليها من تعليمي في جامعة أكسفورد، أو لو ظهر شيء من تلك العقائد على الخريطة فإنّه يظهر كإشارات إلى متاحف، أي إلى أشياء اعتقد بها الجنس البشري في عهد طفولته (قبل أن ينضج)، ثمّ عندما بلغت البشرية سنّ الرشد، لم يَعُد الناس يؤمنون بها (صاروا ينظرون إليها كآثار الأسلاف كما ينظرون لآثار القدماء في المتاحف)" !!
إنّ الغرض من هذه الحكاية ومن الصورة التي سبقتها: أن نستحضر في أذهاننا حقيقة أن العلم "في عملية إمطارنا بالمنافع المادية والمعرفة الهائلة بالكون المادي الطبيعي" محا وأزال الأمور الفائقة على المادة والسامية، من خريطتنا للحقيقة."
- يعتبر الدكتور هوستن سميث أنّه من بين الأفكار المبتكرة في كتابه، والذي تولاّه إثر ابتكارها شعور كالشعور الذي يحصل للإنسان عندما تأتيه بصائر ومثل الإحساس الذي انتاب أرخميدس عندما صاح قائلاً: وجدتها، وجدتها. وهذه الفكرة تنصّ على أنّه في استطاعتنا أن نسيطر ونتحكّم بالأشياء التي هي أدنى منا مرتبة فقط. ويقصد بالأعلى رتبة والأدنى رتبة: كل معيار ممكن من معايير الجدارة والإستحقاق وربّما بعض ما لا نعرفه منها. فالمجرات أكبر منا، والزلازل أشدّ قوة، ولكننا لا نعرف شيئا أكثر ذكاءً وحرية منا نحن البشر، أو أكثر شفقة ورحمة مما يمكننا أن نكونه. فالعلم يمكنه أن يُسجّل ما هو أدنى منا فقط.
- يقول أيضا: " عندما ينكر العلماء –الماديون المقتنعون بالمادية- وجود أيّ شيء سوى الأشياء التي يمكنهم أن يُشغّلوا أدواتهم العلمية عليها، يجب أن يُوضّحوا أنّهم إنّما يُعبّرون في هذا الأمر عن آرائهم الشخصية كأيّ شخص آخر، ولا يدّعون حجية العلم في رأيهم هذا. ومن جهة أخرى، يجب على المتديّنين ألاّ يتدخّلوا في العلم طالما كان علماً أصيلاً لم يُنمّق ويُزخرف بالآراء الفلسفية التي هي من حقّ كل شخص."
في خاتمة كتابه توجّه د.سميث بانتقادات لاذعة، على شكل نداء، للعلميين الذين يعتبرهم مجرّد شرذمة قليلة يريدون أن يُعوّضوا بحماسهم الإنفعالي ما ينقصهم من حيث العدد. ذكّرهم في ذلك بعظماء بينهم أفضل منهم يحترمون الدين ويولونه أهمية. فعليهم إذا أن يحترموا الدين كما يحترم المهتمون بالدين العلم.
ملاحظات جانبية:
- أعتقد أنّ أكثر ما يجلب انتباه القارئ العربي في الكتاب هو أنّ الكاتب كثير الإستطراد في سرد تجاربه الشخصية لأجل توضيح أفكاره ونتائجه التي يُريد الوصول إليها ممّا يجعل الفهم سهلاً في بعض الأحيان و مستعصياً في أخرى.
- الشيء الجديد بالنسبة لي هو منهجه في الإستعانة بالكتب في معظم الفصول والمباحث التي ألّفها؛ فيختار لكل فصل كتاباً يدعم فكرته ومن خلال مناقشته للكتاب يُوصل رأيه بسهولة ويُسر. فهو يُضفي على النص ثراءً ويعرّف القارئ بعناوين جديدة. هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على سعة الإطّلاع لدى الرجل – في مجالات عديدة وليس المجال الديني فحسب- والبناء على التجارب السابقة عِوضاً عن إعادة نفس الكلام.
- فيما يخصّ الفصول التي تحدّثت عن مساهمة الإعلام والتعليم الجامعي والقانون في تكريس النظرة المادية للعالم، فهذه الفصول تُعطي فكرة مجملة عمّا وصل إليه التفكير في المجتمعات الغربية حول الدين والإيمان. وأعتقد أنّها من بين أهم الفصول الواردة في الكتاب.
- من بين الكتب التي تبدو مهمة وقد أورد الكاتب مقاطع مهمة منها، كتاب: "الألفية الثالثة" لديفيد وولش، تحدّث فيه عن نظرية داروين:
" إنّه مؤشّر خطر، دائماً، أن تلعب نظرية علمية دوراً أعظم خارج نطاقها التطبيقي، مما تلعبه ضمن ذلك النطاق....لا عجب أن نرى "نظرية داروين" تتلقى انتباها أقلّ بشأن حقيقتها العلمية ومدى وزنها العلمي (من الإهتمام الذي حظيت به بسبب آثارها الميتافيزيقية). وهو وضع شاذّ بقي سائداً عمليّاً حتى وقتنا الحاضر....ولكنّ استحواذ نظرية التطوّر لإعادة النظر في تلك النظرية تُواجه مستويات من المقاومة لا تتناسب لا من قريب ولا من بعيد مع مضمونها. لا أحد يجرؤ على محاولة إزالة جثة الميتة الإيديولوجية خوفاً من نتائج الرفض الشامل...وبعبارة أخرى إنّ الخوف من عودة "الله" إلى المشهد هو الذي يحُول بين مجتمع علماء الأحياء وبين رفضهم النظريّة بشكل مفتوح جداً، نظرية هم أنفسهم توقّفوا منذ مدّة طويلة عن احترامها عملياً."
- أختم هذا العرض، الفوضوي ربّما !، بكلام ثمين للدكتور هوستن:
" هذه القراءة الخاطئة للعلم هي المسؤول الأوّل والرئيس عن إدخالنا في النفق (نفق المادية المظلم)، لأنّها تُقلّل من شأن الفن والدين والحبّ ومعظم الحياة التي نعيشها على نحوٍ مباشر عندما تنكر قدرة تلك العناصر على أن تعطينا أية بصائر، نحتاج إليها لإكمال ما يمُدّنا به العلم. هذا الموقف يُشبه أن نقول إنّ أهمّ ما في الإنسان هيكله العظمي كما يظهر على لوحة الأشعّة السينيّة !. إنّ خروجنا من النفق يتطلّب من العلم أن يُشارك في مشروع المعرفة مع سائر المناهج والطرق المعرفيّة الأخرى بدرجة متساوية لا سيما مشاركته (كما في الكتاب) منهج المعرفة الذي يتّبعه "طالبو الله".
إلى هنا ينتهي هذا العرض المختصر في أمل الرجوع إلى الكتاب في وقت لاحق لمزيد استفادة.
(1) ـ جزى الله خير الجزاء الأستاذ سعد رستم على ترجمته الرفيعة للكتاب وإثرائه له بإضافة الهوامش والتعليقات الجانبية التي تسهّل على القارئ العربي عملية الإستيعاب والتعرّف على أسماء جديدة.
(2) ـ جوليان هوكسلي(1887-1975) عالم أحياء بريطاني اشتهر بإيضاحه المفاهيم العلمية لعامة الناس ، متخرّج من جامعة اكسفورد.