يتناول كثيرون موضوع الهوية (التي تعني بالمختصر المفيد كياننا وثقافتنا الجامعة) بطريقة تجعل من يدافع عنها ويرى ضرورة الالتزام بها والمحافظة عليها يُصنف على أنه فريق يقف ضد فريق آخر لا يرى في الدفاع عنها ضرورة ملزمة, بل قد يعتبرها عائقاً يقف في طريق التقدم والتطور. وقد نرى من يصف الفريق الأول المدافع عن الهوية بالمنغلق ويصف الفريق الثاني بالمنفتح, ونسمع أيضاً من يقول تراثيين وتغريبيين, أو ماضويين ومستقبليين, أو حالمين وواقعيين.........إلخ من تلك التسميات والتصنيفات التي تحيل الموضوع كله إلى مجرد ترف فكري لا طائل من ورائه, ولا فائدة تُرجى من طرحه سوى إشعال حروب فكرية وإطلاق تهم
متنوعة ليس أقلها التخلف ولا أكبرها العمالة والتخوين!.
هذا التناول للموضوع برأيي سببه عدم الانتباه إلى الخطر الذي يتعرض له التنوع الحضاري في العالم, والذي يهدده سيطرة نموذج حضاري واحد يسعى إلى إلغاء ومحو حضارات كثيرة في العالم, وظهرت سلبياته بصورة واضحة, ويكاد يصبغ العالم كله بصبغة واحدة لا تنوع فيها ولا إبداع, بل تبعية وتقليد, حيث سيطرت قيم المادية الفجة وتسليع الأشياء والإنسان مما أدى إلى غياب قيم التراحم والعدل, وتلوث البيئة وتخريبها, ونشوب الحروب, واستنزاف الطاقات, وانتشار الفقر, وتغوّل العمران والأعمال والأموال.......إلخ.
في حالة مجتمعاتنا التي يبحث المخلصون من أبنائها في الطرق الفاعلة لنهضتها فإن الدعوة إلى التمسك بالهوية هو برأيي فعل مقاومة, مقاومة ذوبان واختفاء حضارتنا التي ساهمنا من خلالها في التشكيل الإنساني العالمي. وضرورة الدفاع عن هذه الهوية تنبع من أن أي نهضة حقيقية نبحث عنها يجب أن تستند إلى مرتكزات متينة, تكون تربة خصبة للإبداع والمشاركة في الحضارة الإنسانية ككل, وليست قائمة على تقليد ساذج يلغي العقل والمنطق ويحولنا إلى أمة إمعة تسير دون وعي أو إدراك.
كما أن الدفاع عن هويتنا يعني احترام الحضارات الأخرى وتنوعها ولا يعني العداء لها أو الاصطفاف ضدها, وعلى هذا فإن الدفاع عن الهوية لا يعني عداء للغرب ولا لحضارته ولا لخصوصيته, ذلك أن النموذج المسيطر حالياً على العالم لا يمثّل الغرب بتنوعاته واختلافاته, ولكنه يمثل نموذجاً مادياً, لا يهتم إلا بالمكسب الآني السريع, ولا يعبأ بما يخلفه من مصائب وكوارث لتحقيق مصلحته فقط.
والحفاظ على هويتنا يعني فيما يعنيه دعوة إلى احترام الذات والإيمان بقدراتنا والعمل على استغلال طاقاتنا بما ينفعنا وينفع البشرية جميعها, مع تغليب قيم الإنسانية والعدل والتراحم. والحفاظ على هويتنا أيضاً يعني احترام الحضارات الأخرى, واحترام للتنوع الإنساني الواسع وعدم إلغائه.