في الآونة الأخيرة كثيراً ما أفكر في أمر الموت وآليته وفي اللحظات التي تلي انتزاع الروح من الجسد ليبقى هامداً دون حراك , وكم رغبت لو تأتّى لي أن أعرف مضمون تلك اللحظات وما يعتري الميّت ساعتها , وقد لا أكون وحيداً في هذا الفكر فربما شاركني الكثيرون في هذا فالشأن هنا كبير ٌوليس بالهين , هذه السلسلة الفكرية تطول لتتعدّى هذا الأمر إلى ماهو أبعد من ذلك وما أشقى الإنسان بعقله ! .
* قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا بهز ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا أبو يعلى بن عطاء ، عن وكيع بن حدس ، عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي ، أنه قال : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات
والأرض ؟ , قال : " كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ، ثم خلق عرشه على الماء " .
رواه عن يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة به . ولفظه : " أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ وباقيه سواء " .
عند الوقوف مليّاً أمام هذا الحديث الشريف إن أفردنا في هذه الوقفة للعقل مساحةً كبيرةً من التفكير فإننا نكون أمام عدة خياراتٍ وأمام عدة مواجهاتٍ لا تخلو من الإثارة , فعلى كلّ المستويات الروحية والعقلية هناك جملةٌ من الأسئلة سُثار ونحن أمام طريقين إما أن نزداد إيماناً وإما أن تشطح بنا الهواجس والأفكار إلى ماهو أبعد من الإيمان , وربما العنوان الأبرز لمضمون هذه الأسئلة هو " حقيقة هذا الكون " أو الميتافيزيقيا - علم ماوراء الطبيعة - , والتفكير هنا بهذه الصورة أسميه - إن صحّ التعبير - تفكيراً عقليّاً بحتاً وهو ما يزيد من صعوبة الموقف ويصل بك إلى طريقٍ مسدودٍ حتماً ولا غرو فهذه السلسلة من الأسئلة العقلية - بشرياً - معقولةٌ وتدور في فلك قدراتٍ معينةٍ للعقل أوجدها الله ولم يأذن للعقل أن يتجاوزها .
وفي جانبٍ آخرٍ وقد يكون هو الحلّ لا أعلم - وأرى الأمر فعلاً يستلزم حلاً فهنا معضلةٌ كبيرةٌ تعترض طريق إيمانك وقد تصل بك في نهاية الأمر إلى أن تسلّم نفسك إلى أهواءٍ شيطانيةٍ عابثةٍ تنهش في أعماق روحك , في محاولةٍ بسيطةٍ - وقد تكون هشّةً بعض الشيء وأحياناً أصنفّها من ضمن المبادرات الضعيفة للاقتناع ولكن ربّما صُقلت بأكثر من قراءةٍ وبحث - , أحاول ربط الإيمان دوماً بالحبّ وأعتقد أن وجه الشبه بينهما كبير , فالحبّ في حياتنا محله القلب وقد يخالطه شيءٌ من العقل وهو كدرجات سلّمٍ نحاول صعوده فكلّ مارتقينا أكثر فأكثر في حبنا فنحن نلغي العقل تدريجياً منه حتى نصل إلى المرحلة الأعلى وهي العشق , فكما أنّ أحدنا إن عشق يتجاوز كل حدود العقل في حبه وقد يصنف مجازاً بأنه مجنون فيقال عاشقٌ مجنونٌ فهو يرى في محبوبه الصورة الأمثل والأكمل والأجمل ولا يقبل بحالٍ من الأحوال أن يتبنّى فكرة زلل محبوبه مثلاً أو نقصانه فكذا الحال في حبّ الله - الذي هو أسمى حبّ - والذي مقتضاه الإيمان به بلا شكّ , أنت تحبّ الله بقلبك وتؤمن به بقلبك لا بعقلك ولا تبحث عن إجاباتٍ ولا مسبّباتٍ وهنا من المفترض أيضاً أن تفكّر بقلبك في هذه الأسئلة وأن يكون مدار بحثها في حدود القلب وأن تشتغل في مقتضيات هذا الحب وفي إعماره فالكامل والمثل الأعلى هو أسمى من أن تشتغل بغير حبّه , إذن فإن أقصي التفكير بالعقل وأبرز التفكير بالقلب فسنبقى في دائرة الإيمان وهنا الإيمان الخالص وهو الإيمان بالقلب لا بالعقل , " فالعقل البشري أضعف بكثيرٍ من أن يبحث في ماهو فوق قدراته " - هنا أجد راحةً كبيرةً في تبنّي هذه القاعدة ولكنّها لا تُعدم الاعتلال كثيراً .
الإيمان بالله وبالحقائق الغيبية يكون بالقلب لا بالعقل , ومادون ذلك من عباداتٍ فهي مزيجٌ من هذا وذاك في تمازجٍ معقّدٍ جميل .
* أنا أقول هذا الكلام ولا أريد أن أعطي مساحةً كبيرةً لعقلي , ولا زلت في مرحلة تثبيت هذه الحقيقة بعيداً عن النزعات العقلية التي تأخذني كثيراً وأجزم أنّ هناك الكثيرون مثلي , وهنا أنا أكتب محاولاً الوصول إلى قناعةٍ مريحةٍ لي ولهم .