اليقين في اللغة : العلم الذي لا شك بعده
وفي الاصطلاح : اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاد بأنه لا يمكن إلا كذا .
اليقين نور يقذفه الله في قلب من اصطفى من خلقه حتى يشاهد به أمر آخرته ويخترق بقوته كل حجاب .. ويا لثمراته التي لا تنتهي .. !!
فهو يغفر الذنوب .. قال الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم أسرف رجل على نفسه فلما حضر الموت أوصى بنيه فقال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً ، قال : ففعلوا ، فقال الله للأرض : أدي ما أخذت .. فإذا هو قائم ، فقال له : ما حملك على ماصنعت ؟؟ قال : خشيتك أو مخافتك يارب ، فغفر له ذلك " رواه الشيخان وابن ماجة
و يقي من عذاب القبر .. لذا تنادى النفس الموقنة بهذا الوصف قبل نزولها قبرها
ومعاينتها الحساب وذلك عند الاحتضار ونزع الروح : " ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي "
إن قصة اليقين بدأت منذ النطق بالشهادة ومن ساعتها ظهر فضله ودوره في دخول الجنة ، وهذا هو السر الذي أفشاه لنا معاذ بن جبل رضي الله عنه عند الموت حيث قال جابر رضي الله عنه : " أنا ممن حضر معاذاً عند موته ، قال : ارفعوا عني سجف القبة ، ارفعوا عني أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله ما منعني أن أحدثكم به إلا أن تتكلوا ، سمعت رسول الله يقول : " من شهد أن لا إله إلا الله موقناً بها من قلبه دخل الجنة "
كيف نغرس اليقين في نفوسنا وكيف نصل إليه؟؟ وصف ذلك الأستاذ البهي الخولي الذي حث على قراءة السيرة باستخدام القلب قبل العين " أن تكثر مصاحبة مولانا رسول الله في سيرته المطهرة مصاحبة وجدانية عميقة تجعلك في مجلسه عليه السلام إذا جلس وفي ركابه إذا ركب وفي معيته إذا سار ، وتسمعك قوارع وعظه ، وتـُسرّب إلى قلبك رقة مناجاته إذا ناجى ربه في جوف الليل أو في خلوات النهار .... "
ويطلب إلينا رسول الله أن نكف وننتهي في قوله : " لو تعلمون ما ادُّخـِر لكم ما حزنتم على ما زُوي عنكم "
والتفكر أفضل ما يعين في الوصول إلى درجة من اليقين وقد أخذ وقتا طويلا عند أنقياء القلوب و أصفياء النفوس لعلمهم أنه يوصل بصورة مباشرة إلى كنز اليقين المدفون تحت رمال الغفلة ، لذا قدم بعضهم التفكر على قيام الليل .. فعن يوسف بن أسباط قال لي سفيان بعد العشاء : ناولني المطهرة _ إناء يتوضأ به _ فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على يده فبقي مفكراً ، ونمت ثم قمت وقت الفجر ، فإذا المطهرة بيده كما هي ، فقلت : هذا الفجر قد طلع ، فقال : " لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الساعة !!" صفوة الصفوة 3/148 ، 149
ومما يعين كذلك تدبر القرآن وتفسيره والتغني به .. ولأهمية حسن الصوت في حضور القلب سأل عتبة الغلام ربه ثلاث خصال .. صوتاً حسناً ودمعاً غزيراً وطعاماً من غير تكلف ، فكان إذا قرأ بكى وأبكى ، ودموعه جارية في دهره ، وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قوته لا يدري من أين يأتيه !!
وانظر إلى الصحابة والسلف الصالح كيف غرسوا في أنفسهم هذا الكنز العظيم ؟!
منهم ضرار بن مرة الذي حفر قبره قبل موته بخمس عشرة سنة فكان يأتيه فيختم فيه القرآن .
أيقن ابن الحجاج بفاكهة الجنة .. رآه أصحابه واقفاً في سوق الفاكهة فقيل له : ما تصنع هنا ؟ قال : " أنظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة "
يقول سالم الخواص : " كنت أقرأ القرآن ولا أجد له حلاوة فقلت لنفسي : اقرئيه كأنك سمعتيه من رسول الله فجاءت حلاوة قليلة ، فقلت لنفسي : اقرئيه كأنك سمعتيه من جبريل عليه السلام حين يخبر به النبي .. فازدادت الحلاوة ، ثم قلت لها " اقرئيه كأنك سمعتيه حين تـُكـُلم به . قال : فأتت الحلاوة كلها " .
من كتاب البحث عن اليقين ، د. خالد أبو شادي .