يميز عادل حسين بين نموذجين للتنمية:
أ ـ التنمية بالانتشار: هذا النموذج الذي يتعامل مع حالة الدولة "النامية" على أنها "حالة دولة تخلفت عن الركب"، وبالتالي فهي قابلة للتحديث بالصورة التي حدثت في الدول الغربية, حيث سيتم تجاور قطاع رأسمالي مع قطاع تقليدي, والمتوقع أن ينتشر القطاع الحديث حتى يسود كما حدث في الغرب.
ب ـ التنمية المستقلة: ويتعامل هذا النموذج مع حالة الدولة "النامية"، لا كمجرد حالة تخلف زمني، ولكن كحالة مركبة أورثها للدولة "النامية"(
[1]) الاستعمار الأجنبي, وعلى هذا وحسب تعبير عادل حسين فالدول "النامية ليست طفلاً, لكنها قزم مشوه"([2]) فاستنزاف موارد الدول النامية مازال مستمراً, وأنماط التنمية مرتبطة ومشروطة بمخططات وقرارات ومصالح الدول المسيطرة, مما يرسخ التبعية ويعوّق التنمية المستقلة.وعلى هذا فإن عادل حسين يؤمن بأن "التنمية الجادة المستقلة لا بد أن تبدأ بكسر حلقة التبعية، وتتواصل بقرارات مستقلة تحقق تنمية متمحورة حول ذاتها، وتتجه إلى سوقها الداخلي في الأساس"([3]).
وقد بيّن عادل حسين أن التجارة الدولية وحركة رؤوس الأموال كالاستثمارات الأجنبية والديون الخارجية والمساعدات الأخرى لم تكن في مصلحة الدول النامية, بل كانت تساهم في ترسيخ التبعية وإعاقة التنمية المستقلة. وعلى الرغم من ذلك فإن الدول النامية تتكالب للحصول على هذه المساعدات والمعونات, فالوسائل التي تستخدمها الدول الصناعية في فرض سيطرتها كثيرة ومتعددة حتى يبدو أن استنزاف موارد الدول النامية وسيطرة الدول الصناعية عليها والمشكلات الكبيرة الناتجة عن تلك السياسات الاقتصادية كأنها قدر مكتوب, فيأتي تدخل هذه الدول من خلال المساعدات كأنه هو الحل, مع أنه هو المشكلة والمسبب في حدوثها, وفوق ذلك فإن الدول الصناعية تستخدم كل أدوات القوة السياسية والاقتصادية التي تمتلكها، ولا تتردد في التدخل بالقوة المسلحة كحل أخير إذا لم تفد الأدوات الأخرى([4]).
لقد أدت سياسات الدول المسيطرة إلى أصبحت أنماط الإنتاج في الدول النامية خاضعة لما تقرره هذه الدول, وصار ما تنتجه الدول النامية لا يخضع لاختياراتها ولا لاحتياجاتها الحقيقية, حيث هناك منتجات تتضخم بدون حاجة وأخرى تتراجع, مما جعل بناءها الاقتصادي مشوهاً وعاجزاً وتابعاً, يلهث لتحقيق متطلبات الأسواق الخارجية رغم شروطها المجحفة([5]). لذلك فقد دعا عادل حسين إلى عمل مراجعة حقيقية لأنماط الإنتاج في الدول النامية, لتقوم بتوجيه "التنمية الاقتصادية بحيث تؤدى إلى تنويع هيكل الموارد فيصبح اقتصادنا قادراً على إمدادنا بالقسم الأهم من حاجاتنا المعيشة, والحاجات المعيشة تتحدد في المقام الأول بحاجات الغالبية العظمى من أبناء أمتنا أي بالضرورات قبل الكماليات ويعرف هذا التوجيه بإستراتيجية إشباع الحاجات الأساسية التي تضمن عدالة التوزيع بدءاً من تحديدها لنوع الإنتاج المستهدف. وإذا كانت هذه الاستراتيجية تضمن الاستقلال من حيث إنها تحقق الاعتماد على النفس في إنتاج ما نحتاجه فإنها تضمن الاستقلال أيضا من حيث أنها ستتجه بإنتاجها للسوق المحلى قبل أن تتوجه للخارج وهى ستكون أقل حاجة إلى التكنولوجيا المعقدة التي لا نفهمها ونضطر في أحيان كثيرة أن نستوردها كما هي (بتسليم المفتاح كما يقولون) وكل هذا مما يدعم اتجاهنا لتحقيق الاستقلال الاقتصادي"([6]).
إن إشباع الحاجات الأساسية يتطلب اعتماد "نمط استهلاك ملائم". حيث يتم التوجه نحو إشباع هذه الحاجات كما يشكلها النمط الحضاري المميز للدولة, وبكل ما يترتب على ذلك من استغلال تكنولوجي واستغلال في هيكل الإنتاج.([7]) وهذا النمط الاستهلاكي الملائم يجب أن يتطور وفق معاييره الذاتية لا وفق نمط استهلاكي سائد نشرته في العالم الشركات الأجنبية العملاقة, وهو نمط لا يعتمد على إعادة توزيع الدخل بل يعتمد بشكل أساسي على تلبية الحاجات الأساسية التي تحقق إنسانية الإنسان حتى وإن أدى هذا النمط إلى أسلوب مختلف عن أسلوب الحياة في المجتمعات الغربية, لأن التقدم الاقتصادي ليس هو اللحاق بالغرب, وإنما هو القدرة على تحديد نمط استهلاك ملائم بمعاييرنا المستقلة, وبالتالي القدرة على تحديد مضمون النمو الاقتصادي([8]), فإذا كان متوسط دخل الفرد في الدول الغربية هو المعيار الرئيس لقوة الاقتصاد ونموه, فإن هذا المعيار لا يعدّ معياراً رئيساً للتقدم والتخلف عندنا فالمعيار الحقيقي هو الاستقلال أو التبعية, فبقدر ما نكون قادرين على استقلال نمط الاستهلاك وما يحققه من تلبية للحاجات الأساسية للناس نكون متقدمين اقتصادياً والعكس صحيح. كما لا يعدّ تقليد نمط الحياة الغربية معياراً للتقدم, فأسلوب الحياة الغربية حسب تعبير عادل حسين ليس "مثلاً أعلى أو وحيدًا يُقاس التقدم بقدر الاقتراب منه"([9]).
وعلى الرغم من تغول العولمة وسيطرة الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها أمريكة وفرض سياساتها على الدول النامية لتحقيق مصالحها وحدها فإن عادل حسين كان متفائلاً بأن الدول النامية ستستطيع التخلص من هذه السيطرة وبناء تنمية مستقلة, وقد بدت بوادر تراجع السيطرة الغربية على العالم, صحيح أن هذا لن يتحقق بين ليلة وضحاها, لكنه قابل للتحقق و"الظروف العامة تساعدنا في انتزاع استقلالنا, ونحن نجاهد فعلاً في هذا الاتجاه, فهل ننجح في مواصلة السعي بحيث تكون منطقتنا العربية قطباً من أقطاب التحدي, قادراً بالفعل على دحر الطغيان الأمريكي وعلى تحقيق الاستقلال؟ [يقول عادل حسين] لقد أشرت إلى أن هذا ممكن وبادئ في الحدوث"([10]).
(1) ينتقد عادل حسين مصطلح الدول النامية ويعتبر أنه "اسم يزيف الوعي السياسي بجوهر المشكلة", وهو اسم يبين مدى تغلغل المفاهيم الغربية في أدبياتنا الفكرية, وهو بالإضافة إلى ذلك يتضمن مفهوم المراحل والتي تدعو إلى تبني التنمية وفق نموذج الانتشار الذي يرفضه عادل حسين. ومثل مصطلح الدول النامية تلك التسميات الأخرى التي لا تختلف عنه كثيراً كتسمية "الدول الفتية" أو "دول العالم الثالث" أو "دول الحافة" وغيرها...., ويقترح عادل حسين كتسمية معبرة عن الواقع اسم "الدول التابعة" لأنه يعبر عن جوهر المشكلة, واستخدام تسمية تعبر عن جوهر المشكلة هو أمر غير ثانوي, بل هو مهم جداً لإدراك الواقع والبحث عن حل للمشكلة. انظر, عادل حسين: الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية, ج1, ص 756 ـ 757.
(5) عادل حسين: الإسلام دين وحضارة مشروع للمستقبل, http://nizarqabbani.eu/MAQALAT-N3/080907-ADEL-HOSEIN-ALISBLAM2.htm, ص 4.
(7) عبد الوهاب المسيري: إشكالية التحيز, فقه التحيز, المعهد العالمي للفكر الإسلامي, ط3, 1418هـ/ 1998م, ص 22.
(9) عادل حسين: الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية, ج1, ص 790.
(10) عادل حسين: الاستقلال الوطني والقومي, ص 17.