المال عصب الدعوة، فكما يحتاج الجهاد للرجال يحتاج للمال، من أجل هذا حث القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على الإنفاق في سبيل الله، حتى جعل القرآن الكريم الشح وعدم الجهاد بالمال تهلكة ينهى عنها المسلمون {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}([1]). يأمر الله تبارك وتعالى عباده بالإنفاق في سبيله، "وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي كل طرق الخير، من صدقة على مسكين،
أو قريب، أو إنفاق على من تجب مؤنته.
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال، وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة، الإعانة على تقوية المسلمين، وعلى توهية الشرك وأهله، وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله، إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم،فيكون قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} كالتعليل لذلك، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك، ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء"([2]).
ولذلك فإن الجهاد في القرآن الكريم ما ذُكر إلا وقُرن بالمال والنفس، يقول الله تبارك وتعالى:﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾([3]). لأن "الجهاد بكل أنواعه يتعطل إذا لم يتحقق الجهاد المالي بسخاء، وإذا لم يقم أهل اليسار بواجب الإنفاق في سبيل الله.." ([4]).
فالمال لا يقوم الجهاد إلا به، إذ الجهاد بدون المال يتعطل، وهذا السر في اقتران الجهاد بالمال والنفس في كثير من الآيات كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مستهل هذا الباب من أبواب الجهاد.
والجهاد بالمال الذي يقبله الله تعالى ويربو عنده ينبغي أن يكون خالصا لوجهه تعالى، خاليا من كل شائبة من شوائب النفاق والرياء.
والقرآن الكريم في مواضع عديدة حض على بذل المال في سبيل الله، وشدد الوعيد لمن بخل بماله في سبيل الله، قال الحق سبحانه و تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾([5]).
لننتبه إلى قوله عز من قائل في الآية السابقة: ﴿وأموال اقترفتموها﴾، فإن فعل اقترف يستعمل غالبا في كسب الإثم. ذكرت الكلمة في القرآن خمس مرات واحدة في اقتراف الحسنة وثلاث في السيئات، وهذه لاحقة بهن. إن كان حب الأموال وادخارها وكنزها واحتكارها يشغل عن حب الله تعالى، وتصرف في غير مصارف الجهاد في سبيل الله، فهو اقتراف وإثم. لذلك جاء في آخر الآية: ﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾.
ومِنْ ثَمَّ فإنَّ "المال عصب كل تحرك بشري، والمال الطيب ينفق في سبيل الله، تقدمه الذمم الحية قربانا لله، هو عصب الجهاد. لذلك اقترنا في القرآن، ولذلك يسبق ذكر الجهاد بالمال ذكر الجهاد بالنفس. المال عصب الجهاد وشرطه. فالمؤمن يبرهن على صدق نيته في إنجاح القضية المقدسة ببذله ماله. فلا نعرف صدقه إلا من خلال بذله ماله وجهده. وما في القلوب يعلمه الله. ما نعلم، ولا سبيل لنا، أن هذا أو ذاك من المؤمنين يحب الله ورسوله أكثر من الأب والابن والأخ والزوج والعشيرة إلى سائر ما ذكرته الآية إلا بقرائن الأحوال. وأهمها البذل. أهمها ما يأتي من عطاء مال وجهد من جهة المؤمن"([6]).
فالجهاد بالمال فيما يتعلق بالفرد هو تطهير الإنسان المؤمن من عاهة الشُّح، وهو الخطوة الأولى في طريق الفوز والفلاح. قال الباري جل جلاله: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾([7])
أما فيما يتعلق بالأمة فهو توفير المال اللازم لكل أبواب الجهاد وأنواعه.
والله تبارك وتعالى أمرنا بإعداد القوة ما استطعنا، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾([8])، والإعداد يحتاج إلى المال.