عندما برز الأدب المكتوب بالفرنسية في الجزائر والمغرب وتونس بعد الحرب العالمية الثانية كان يحمل همّ شعوب مستعمرة وفقيرة مغلوبة على أمرها تطمح إلى التحرّر والحياة الكريمة فكان رسالة إلى الطبقة المثقفة والساحة الفرنسية نفسها لتدرك معاناة هذه الشعوب، ويمكن الإشادة هنا بروايتي مولود فرعون (ابن الفقير) و(الأرض والدم) كنموذج معبر، لكن هذا الأدب انحرف شيئاً فشيئاً حتّى أصبح منقطعاً عن المجتمعات المغاربية ومبادئها وقيمها بل تطوّر مع اشتداد عود الصحوة الإسلامية وغدا أداةً للتنكّر للانتماء الحضاري ومقاومة الرجوع للذات والتشويش على المشروع الإسلامي فلم نعد أمام أدب ذاتي منحاز للعقيدة أو الأرض أو الإنسان العربي المسلم الحر أو المكبوت وإنما صرنا أمام إنتاج غريب في
اللغة والمرجعية والأهداف غدا أكثر حربا على الأصالة مما عمل المستشرقون أنفسهم إذ آلى أصحابه على أنفسهم أن يتحدّثوا باسم شعوبهم-عنوة - ويحتكروا الحقيقة المتمثلة في أن لا سبيل للنجاة من التخلف سوى بتقليد الغرب بدءًا بالتنصّل من الموروث الديني والثقافي وتغيير الانتماء من العربي الإسلامي إلى المتوسطي - في إشارة إلى فرنسا والدولة العبرية المغتصبة لفلسطين -.
ويلاحظ المراقب الحصيف أن هذا المخطط التغريبي الّذي ازداد نشاطاً بعد استقلال دول المغرب العربي واستفحل غداة بروز تباشير الصحوة الإسلامية قد انقسم إلى جناحين يكمل أحدهما الآخر، إذ نجد من جهة عملاً فكرياً يتوخّى الطابع العلمي الأكاديمي يقوم به باحثون مسلمون من خريجي الجامعات الفرنسية والعاملين بها ينصب على إعادة قراءة الإسلام قرآناً وسنّةً وتاريخاً وفقاً لما يسمونه المناهج العلمية الحديثة، والواقع أن علمية هذه المدرسة تقتصر على أمرين اثنين: أولها مواجهة نصوص الشريعة ووقائع التاريخ "بدون أية خلفية أو موقف مسبق" أي بعقلية غير إسلامية وبعيداً عن كل انتماء شعوري للدين وللأمة في مسارها وبالتالي القفز من فوق تراث القرون والتراكمات الفكرية الضخمة وضوابط الشرع، وثانيهما قراءة انتقائية متحيّزة للتاريخ ولإنتاج العلماء والمفكرين، فما يخدم أهداف هذه المدرسة وينسجم مع الذهنية الغربية فهو علمي يحتفى به، وأما الأصيل فهو أصولي أرثوذكسي حتى ولو أجمعت عليه الأمة ، وهكذا تقدح هذه المدرسة في ابن تيمية وسيد قطب والمودودي وتتهمهم بالإضرار بالإسلام بينما تعتبر علي عبد الرازق ورفاعة الطهطاوي ومحمد سعيد العشماوي منارات الهدى ومصابيح الدجى ! تلك هي علمية وأكاديمية هذا الفكر الذي ينخرط في موكبه التونسيان محمد الشرفي و هشام جعيط والجزائريون محمد أركون وسليمان زغيدور ورابح اسطمبولي (وبالمناسبة رابح هذا كان هو مفتي الجرائد الشيوعية في الجزائر إلى أن توفاه الله)، أمّا في المغرب فهناك ظاهرة مغايرة في الشكل ومنسجمة مع سابقتها في المنحى والغاية، إذ نجد عملاً فكرياً يدندن حول القومية العربية له تواصل وثيق مع أقطابها في المشرق يتجنّى على الإسلام الأصيل ويدعو إلى إسلام "عقلاني" يتفق مع أطروحات اليساريين العرب، وأهم أقطابه المفكّر محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وهو مكتوب بالعربية يدعو إلى علمنة الإسلام.
أمّا في الجهة الأخرى وإذا انتقلنا إلى العمل الأدبيّ البحت فإننا نجده مر بمرحلتين فتدرج من الكتابة الكلاسيكية إلى لون جديد هو استلهام النصوص الدينية من قرآن وسنّة والتاريخ الإسلامي واستخدم ذلك في إبداع روايات وقصص تشتبك فيها بعض الحقائق مع كثير من الافتراءات حيث يلوي المؤلفون أعناق النصوص ويقرؤون أحداث التاريخ قراءةً انتقائية متعسّفة من أجل "تدجينها" وخلق "إسلام إنساني تقدمي علماني معصرن" - هو الإسلام الحقيقي في نظرهم - في مواجهة "الإسلام الظلامي الأصولي المتحجر" الّذي يتبناه الإسلاميون، فهو إذاً تطوّر نوعي عند الأدباء الفرنكوفونيين الذين كانت جمهرتهم _ وما يزالون _ يتهجمون على الإسلام باعتباره جسماً غريباً على النسيج الفكري والاجتماعي الّذي يؤمنون به، فالمغربي محمد خير الدين صاحب روايات يعدّها النقاد الغربيون من عيون الأدب الفرنكوفوني يعلن فيها بصراحة إلحاده واستهزاءه بالدين الإسلامي، ويصوّر الجزائري رشيد ميموني في رواية (طمبيزا) مشهداً في مدرسة قرآنية يأتي فيه بعبارات يخجل منها السفهاء فضلاً عن الأتقياء، ولولا الحياء لأوردتها ليطلع القارئ على مدى استهتار "الأديب المرموق" بالقيم والأخلاق والفضيلة، فأما الطور الثاني الّذي تحدثنا عنه فأبطاله آسيا جبار من الجزائر وفاطمة المرنيسي والطاهر بن جلون من المغرب، فهذا الأخير ألّف منذ سنوات رواية عنوانها " الليلة المقدسة " يقصد بذلك ليلة القدر نال بها جائزة غونكور التي تعتبر أكبر جائزة أدبية في فرنسا ومستعمراتها القديمة والحديثة، وأحبّ أن أنقل منها _ بدون تعليق _ النماذج التالية:
o يقول عن المؤذن: كان يستعمل ميكروفونا لكي يسمعه الله على نحو أفضل.
o بما أن الإسلام هو أفضل الديانات فلماذا انتظر الله طويلاً حتى ينشره؟
o مؤمنون متعصبون أو منافقون لا يهم، إنهم يتشابهون وليست لي أي رغبة في معاشرتهم...
... أما طريقة هذا الفريق فأكثر ذكاءً وخبثاً ، فآسيا جبار – التي رشحوها أكثر من مرة لجائزة نوبل في الأدب – كتبت روايتين عنوان الأولى " التي قالت لا للمدينة" والثانية "بعيداً عن المدينة" (أي المدينة المنورة) والعنوان وحده في الروايتين يحمل إشارات واضحةً فالبطلة فيهما هي السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وتصورها الكاتبة متمردة على الدولة الإسلامية بقيادة الصديق رضي الله عنه ومعه الصحابة الكرام التي تظلم النساء وتهضم حقوقهن وفي مقدمتهن ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم !!! لذلك تقول " لا " للمدينة باعتبارها عاصمة الدولة الإسلامية وتريد أن تعيش " بعيدا عن المدينة "، وفي الكتابين تورد المؤلفة على لسان الصحابة رضي الله عنهم بهتاناً كثيرا لتنتهي إلى أن فاطمة الزهراء _ رضي الله عنها _ رائدة حركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها ! فكما زعموا أن أبا ذر هو سلف ماركس ولينين تزعم هي ونظيراتها أن ابنة رسول الله قدوة نوال السعداوي وسيمون دي بوفوار وخليدة مسعودي !
وتستوقفنا فاطمة المرنيسي بكتبها "الإسلامية" وتصريحاتها الكثيرة لصحافة الحداثة، فقد ألّفت "الجنس والإيديولوجيا والإسلام" في سنة 1975 لكنها اكتسبت الشهرة بكتاب "الحريم السياسي" الصادر في 1987 بفرنسا _ طبعاً! - والّذي يزخر بالغرائب لعل أولها وأخطرها اتهامها للصحابي أبي بكر _ رضي الله عنه _ بالافتراء وبوضع حديث "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" لأغراض سياسية 25 سنةً بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم _ ! أي نعم، هكذا أصبحت "عالمة الاجتماع" مختصّة في الجرح والتعديل تضعف حديثاً رواه البخاري ! ثم تؤكّد أن رسول الله أرسى قواعد الديمقراطية إلى درجة أن الصحابة نسوا (هكذا) جثمانه _ صلى الله عليه وسلّم _ ثلاثة أيّام بعد وفاته ولم يفكّروا في تغسيله ولا دفنه لانشغالهم بانتخاب من يخلفه، أما الحجاب فهو مخالف للمشروع الثوري الّذي كان يحمله الرسول وهو من عقلية الجاهلية اضطر محمد (هكذا تقول) لقبوله تحت وطأة المنافقين الّذين كانوا يرفضون تحرير المرأة ! وتقول: في المعركة بين حلم محمد (أي في تحرير المرأة) وأخلاق المنافقين انتصر هؤلاء ! أجل، هكذا ترى المرنيسي المسألة: محمد رجل ثوري يحلم بمجتمع لا تحرس فيه المرأة سوى عقيدتها لكن يتغلّب عليه مشروع المنافقين، وإذاً لا وحي ولا رسالة ولا دين ! ولمزيد من الإيضاح في التعريف بحقيقة الكاتبة نشير إلى إجابتها عن سؤال في أسبوعية "الجزائر الأحداث" فبراير 1989 يتعلّق بالتديّن في الولايات المتّحدة ،تقول ما خلاصته: "الناس هناك على تديّن حقيقي لأن الدين اختيار وليس أوامر"، ثم تنعى على بلدها أن يعاقب منتهك حرمة رمضان بالسجن، أي أنّها تلحق بموكب الحداثيين النورانيين الّذين يريدون إسلاماً كنسياً علمانيا ليس فيه أمر ولا نهي ، ولهذا تبدي حقداً شديداً على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - باعتباره ممثل التقاليد والعادات الجاهلية والانعكاسات الغريزية !!!
وهذا الاتجاه في استلهام الإسلام نفسه لمحاربته أدبياً يتزعمه في تونس عبد الوهاب مداب الذي لا تخرج كتاباته عن عمل نظرائه، ويبدو أن هذه النزعة المغاربية ليس لها نظير في المشرق العربي ربما بسبب وطأة العمل الاستشراقي والتنصيري المباشر الذي ساد شمال إفريقيا أثاء الحقبة الاستعمارية وبعدها وكذلك لأن بلدانه الثلاثة في طليعة الدول الفرنكوفونية الّتي تعتبرها فرنسا حماها الخاص وعملت على إلحاقها بها ثقافياً من خلال بعض أبناء هذه البلدان ، ولهذا نلاحظ أن الأدباء الفركوفونيين تجمع بينهم قواسم مشتركة أهمها:
o جلهم يقيمون بفرنسا بصفة دائمة أو أغلب الوقت، فعلى سبيل المثال نذكر أن محمد ذيب – وهو من أقطاب الأدب موضوع البحث - مقيم هناك منذ الخمسينات ولا يزور الجزائر قط حتّى في المهرجانات التي تقام له إلى أن مات في باريس ودفن فيها ، وكاتب ياسين - وهو قرة عين فرنسا وأتباعها - عاش هناك أيامه الأخيرة وبها توفي وهو يؤلف كتابا يحتفي فيه بالذكرى المئوية لقيام الثورة الفرنسية، وقد لحق بمن يعتبرونها "الوطن الأم" كل من رشيد ميموني ورشيد بوجدرة في السنوات الأخيرة لينتظروا من هناك قيام الجزائر العصرية !وعلى هذا المنوال نسج الطاهر بن جلون، وهو إلى اليوم يتهكم من باريس بالدين والمتدينين بل وبحماس والمقاومة الفلسطينية أيضا
o أكثرهم تغدق عليهم دوائر فرنكوفونية جوائز أدبية كبرى مثل غونكور وجائزة الفرنكوفونية وجائزة البحر المتوسط الخ... وتصلهم جوائز حتّى من كندا وأمريكا، ولا تكاد تمرّ سنة بغير تكريم واحد منهم أو أكثر بمثل هذه الجوائز ذات القيمة المادية والمعنوية الكبرى ، مع أن إنتاجهم أقرب إلى الغث البالي.
o كلّهم متشبعون بالمثل الغربية عامة والفرنسية خاصةً، وعلى رأسها العلمانية ،فلا ينظرون إلى الإسلام إلاّ من خلالها ويفنون أعمارهم في الدعوة إليها، ولم نعثر عند أحد منهم على الحد الأدنى من التدين أو مجرّد الحنين إلى اللغة العربية باستثناء الأديب والشاعر الجزائري مالك حداد الذي قرر التوقف عن الكتابة بعد الاستقلال لأنه لا يحسن العربية وقال كلمته الشهيرة " إن الفرنسية هي منفاي " فضربه زملاؤه عن قوس واحدة ورفضوا هذه الشجاعة وأهالوا عليه التراب فلم يعد له ذكر لا حيا ولا ميتا ،خاصة وهم المتحكمون في الشأن الثقافي الممسكون بخزانة أمواله، لا يمكنهم القبول بمثل هذا الموقف
o هذا ولعل نقطة القوة عند هؤلاء الأدباء والكتاب تكمن في خلو الساحة المغاربية إلى حد كبير من منافسين معربين ذوي شأن (وهو غياب له أسباب يطول المقام بذكرها)، بل الأدهى أن الكتاب بلغة الضاد منهزمون - إلا قلة منهم _ أمام أولئك "العمالقة" ولا يجرؤون على نقدهم فضلا عن التصدي لهم .
هذا هو الأدب الفرنكوفوني في بلاد المغرب العربي، أدب غريب عن لغتنا وديننا ونسقنا الحياتي وانتمائنا الحضاري وهويتنا وشخصيتنا ، هو مجرد مقلد وخادم للنموذج الفرنسي ساعده سيده
على الانتشار والغلبة رغم قلّة قرّائه، ، وما زالت الساحة تنتظر أدبا أصيلا قويا _ حتى ولو كان بالفرنسية _ يقاوم هذا الوافد ويبطل سحره، ولها في الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أسوة حسنه رغم أنه كان مفكرا لا أديبا.
عبد العزيز كحيل