في الحديث المتجدد عن النهضة ، يُظهر تنوع الآراء والأفكار وجود رغبة أو حاجة عند عموم المثقفين والمهتمين بشأن النهوض بواقع هذه الأمة والارتقاء بها من حالة التخلف والجهل والتقهقر الحضاري .
ويلاحظ المتابع لحالة النشاط النهضوي هذه ، عدم وجود الرؤية الجماعية التي تتطلبها حالة النهوض ، وهنا ليس المطلوب من الرؤية الجماعية أن تكون رؤيةً موحدة ً - أو بمعنى إلزام الأطراف جميعها برؤية أقترحها أنا أو أعتقد بها فعلاوةً على أنني لا أستطيع ذلك فأنا على قناعة راسخة بكارثية مبدأ إلزام الآخرين بما أراه وأعتقد به حتى وإن كنت أرى فيه السبيل الوحيد للخلاص – ولكن أن يوجد اتفاق ولو جزئي على مفاهيم وخطوط
عريضة تتمحور حولها هذه النهضة التي ينادي بها الجميع على أقل تقدير ...
إن أكثر ما يغيب عن بال الفاعلين النهضويين عادةً أن النهضة التي يتحدث عنها الجميع ليست عبارةً عن نهضة فئة دون فئة ، أو نهضة مذهب أو جماعة ، وإنما هي نهضة أمةٍ بكامل نسيجها وتلويناتها الثقافية والإثنية والدينية ..
حتى أن القارئ ليشعر في كثير من الأحيان أن النهضة التي يتحدث عنها شخص ما هي نهضة خاصة به لايصلح إلا أن تسمى نهضة فلان لكثرة التشابكات والتعقيدات التي تحوم حولها مفاهيم هذه النهضة وجزئياتها ولكثرة ما يفرضه هذا الفلان من ضوابط خاصة به ترسم حدود هذه الحالة التي يتحدث عنها ، والتي لاتشابه ضوابط أي أحد آخر من الفاعلين الآخرين داخل النسيج الاجتماعي نفسه ، فكلٌ منهم يصرح بأنه لا مفر من أن تنطلق النهضة من هنا ، ولكل منهم تلك ال " هنا " الخاصة به ، وقد يحدث هذا بين المتفقين على الخطوط العامة والأساسية ، أي بين أصحاب الانتماء الواحد !
ولكم أن تتخيلوا حجم التلوينات النهضوية التي تطرح نفسها على الساحة الفكرية ، فإحدى النظريات ترى النموذج العلماني – بنسخته الكنسية تحديداً - هو الحل الجدير بحمل لواء الارتقاء للخروج من بين الركام ، ونظرية تعتمد الفكر الماركسي ، أو الليبرالي أو غير ذلك من النظريات الحديثة نسبياً ، وبعضها تعتمد الرؤية الإسلامية كحل وحيد للخروج من أزمتنا المزمنة ...
وما يهمني هنا أمران أحب أن أركز عليهما في هذا الخصوص :
الأمر الأول :
أنه وللأسف فإن هذا التنوع في الرؤى والذي يفترض به أن يكون تنوع إغناء لحالة النهضة المرجوّة ، لم يكن إلى الآن إلا تنوّعاً إقصائياً يرى كل طرف من خلاله أنه الممسك بمقود السفينة وصاحب نظرية النجاة الوحيدة لهذه الأمة ، فكانت بالتالي النتيجة الطبيعية لحالة الإقصاء المتبادل هي حدوث الإلغاء المتبادل لعناصر التقدم من طرفي معادلة النهضة ، ومايترتب على ذلك من غياب الأثر والفعالية الحضارية بشكل عام وانعدام النتائج التفاعلية عموماً ، ومن نتائجها تعرف الأشياء ، ومن ثمارهم تعرفونهم ...
الأمر الثاني :
وبعد أن أشرت إشارة مقتضبة إلى بعض الاتجاهات الفكرية دون الولوج في التفاصيل ، أود أن أتكلم من داخل البنية الفكرية الأضيق التي أحسب أنني أنتمي إليها فكرياً بشكلٍ أو بآخر ، لأحاول رسم ملامح الصورة كما تبدو لي ، من خلال التمييز بين نوعين من العقبات : عقبات كبرى تظهر من خلال الأزمات التي تمر بها الأمة ككل ، وعقبات أصغر لكنها أكثر جوهرية وأهمية ، حيث تظهر هذه الأخيرة على شكل عقبات ممانعة تبديها هذه البنية الفكرية تجاه أي فكر إصلاحي جديد يحاول تغيير القيم السلبية التي أتهمها بأنها مسؤولة بشكل أو بآخر عن الحالة المتردية التي وصلنا إليها ...
وربما يجدر بي أن أشير – تفادياً لحدوث التباس – أنني وإن كنت أعتقد أن النهضة فعل جماعي قد تشارك فيه كل الأطياف الاجتماعية والفكرية ، إلا أنني أعتقد أن الحالة الطبيعية أن ينطلق كل من ينتمي لفئة معينة ( جماعة أو مذهب أو أي معتقد فكري أو ديني ) من داخل بنيته الفكرية نفسها مع أحقيّته بالاعتقاد أن هذه البنية هي البنية الأقرب للصواب من بين البنى الأخرى ، حيث أنني أرى أن الاعتقاد بأفضلية المنهج الذي ننطلق منه لايعني بأي حال من الأحوال ولايقتضي عدم التقاء أصحاب الرؤى المختلفة عند نقطة يكسب منها الجميع على المستوى الوطني دون أن يكون هناك خاسر بينهم ، ولا أؤيد أيضاً أن يتحول الخلاف الفكري سواءٌ كان حول الجوهر أو التفاصيل إلى تنافر يهدد النسيج الوطني ككل ..
وأعود لمتابعة الحديث عن الهم الشخصي من هنا ، من داخل الانتماء الأضيق ، وهو الانتماء للمنهج الإسلامي كحالة روحية وحالة فكرية عقائدية ، وتجدر الإشارة هنا إلى التنوع والاختلاف الذي تتصف به هذه الحالة الإسلامية على المستوى العالمي الواسع ، وهو تنوع تفرضه طبيعة المناهج الفكرية واختلاف المذاهب والطوائف وكذلك اختلاف الوقائع الاجتماعية المحيطة بكل تجربة ، حتى غدت مقولات كثيرة تنادي بوجود حل إسلامي واحد من خلال منهج واحد عير منسجمة مع واقع وجود مناهج إسلامية متعددة يتراءى من خلالها تعدد مايسمى الحلول الإسلامية ، حيث يرى أتباع كل منهج الحل من خلال منهجهم هم فقط ، والذي غالباً مايكون عصيّاً على الأخذ والرد والتعديل .
وهنا يبدو في هذه الحالة أن اختلاف الرؤى والإقصاء المتبادل بين أتباع المناهج المختلفة والمتباعدة والمتنافرة أمراً يبدو لطيفاً ومقبولاً أو حتى حواراً غزلياً قياساً بحالة الإقصاء والإلغاء المتبادلين بين من ينتمون إلى الطيف نفسه ، وهو ما نعاني منه ونكتوي بناره ، وأظنه حجر العثرة الأكبر في طريق قيام أي حالة إصلاح مجتمعية على طريق استعادة الحضارة المفقودة أو المضيّعة !
دور الحضارة الغربية في تعميق الخلاف بين أتباع المناهج المختلفة :
الواضح أن النقطة المفصلية – وليست الوحيدة بالتأكيد - التي تتمحور حولها التنافرات بين أصحاب الرؤى المنتمية للتصور الإسلامي هي : الغرب ، فهذا الغرب شكّل للإسلاميين - منذ أن استلمت الحضارة الغربية دفة قيادة التاريخ الحديث – أزمةً على صعيد المعرفة والمحاكمة الواقعية للأمور وعلى صعيد الفقه والمقاصدية ، أي أنه كان حاضراً وفاعلاً في الفكر والسلوك في العصر الحديث ...
ولابد من الإشارة إلى أن هذا الحضور ليس بالضرورة أن يكون حضوراً إيجابياً أو سلبياً ، كوصف مطلق ، ولكنه حضور فرضه الواقع فشكل أزمةً وصفها البعض بما يسمى : " المرض بالغرب " ، وأنا هنا أرى أن هذا المرض تظاهر بمظهرين واضحين بالرغم من أن الكثيرين حين كانوا يتحدثون عن ظاهرة " المرض بالغرب " أو " التأثر بالغرب " كانوا يصفون مظهراً واحداً من خلال وجهة نظر أحادية ، وأرى هذين المظهرين على الشكل التالي :
المظهر الأول :
الحالة التي يركّز عليها ويحذر منها معظم الكتّاب المسلمين ، وهي حالة الاستلاب تجاه الغرب والشعور بالنقص تجاهه، وما ينتج عنهما من قبول وتقليد أعمى لكل ما يصدّره إلينا الغرب من منهجيات وتصورات للكون والحياة - الصالح منها والطالح - ، وهي الحالة التي تأخذ نصيب الأسد من جهود المحللين ، وبالطبع فإن لهذه الظاهرة أسبابها ومحظوراتها المعروفة ، ومن المعروف أيضاً أنها حالة وقع بها الكثيرون سواء بشكلٍ واعٍ نتيجة اقتناعهم بأفضلية كل ما يأتي من الغرب المنتصر دون تدقيق ، أم كان بدون وعي أو إدراك منهم لخطورة البضاعة الفكرية المستوردة من هناك ، والملاحظ أن نظرية المؤامرة كانت حاضرةً عند كثيرين أثناء تحليلهم لمواقف هؤلاء الذين ساروا مع الركب الغربي ، وهو مالا يصرح به بشكل مباشر ، بل على العكس يتم التبرؤ منذ البدء من هذه النظرية ولكن بعد التبرؤ يعود الكلام ليصب في نفس المجرى ، وهذا ما يتضح عندما يكون الحديث عن حصان طروادة ممثلاً بأولئك المجندين بوعي أو بلاوعي من الغرب ، فبدلاً من أن يقوم هؤلاء المحللون بضبط سياق الكلام ، تراهم على العكس يأتون على ذكر أفكار عامة يفرّغون فيها نقدهم ، فتخرج الكلام من سياقٍ مضبوط بحيثيات محددة ليدخل في نطاق العموم ، ليصيب الكلام ( العام ) فيما بعد كل من ينادي بتلك الأفكار خارج السياق المنتقد وخارج البنية الفكرية المنتقدة في أنها مجندة ضمن المؤامرة ، وهذا مايغذي الوسط الفكري والاجتماعي بشحنات يتم تفريغها بطريقة غير واعية في كل مرة تذكر فيها الفكرة التي تم نقدها في ذلك السياق ، خاصة في أجواء يسود فيها الاتباع الفكري والترديد دون أي تدقيق ، وهذا مايجعل نفسية " نظرية المؤامرة " هي المسيطرة في هكذا أجواء ..
ففكرة حصان طروادة التي يتم طرحها صارت مطلقةً وممطوطةً لدرجة أنها أصبحت تشمل كل من هم ليسوا تلك النسخة المطابقة للشخص المتكلم نفسه ، والملاحظ أن كثيراً من الأفكار التي أصبح هذا الحصان ينوء بحملها هي أفكار لا غبار عليها فيما لو تمت مناقشتها بإنصاف و بطريقةٍ موضوعية !
وسآتي على ذكر بعض هذه الأفكار لاحقاً ....
المظهر الثاني :
والذي يظهر أيضاً كحالة مرض مزمن ، يتجلى من خلال ردات فعل تشنجية ورفض هستيري لكل ماينتجه هذا الغرب ، وأيضاً بدون تمحيص وتدقيق كما في الحالة الأولى ، والنتيجة تحول الحالة إلى تقوقع على الذات بكل القيم التي تختزنها هذه الذات ، دون مراجعة لتلك القيم لأن تلك المراجعة ستعني عند المصابين بهذه المشكلة استسلاماً منهم تحت تأثير وضغط تلك الحضارة ، فباعتقادهم أن كثيراً من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تطرح حالياً ماكان لها أن تطرح لولا هذا الضغط الخارجي الذي يمارسه المد الغربي ...
وبالتالي أصبحت تلك المتلازمة المرضيّة تتميز بأعراض شديدة الوضوح : ليس آخرها الرفض لأي فكر تجديدي أو لأي حركة إصلاحية تغييرية تهدف إلى الارتقاء – اللهم إلا إن كانت ضمن شروطهم بالغة التعقيد والتعجيز والتي لن تفلح أي حركة بتحقيقها على أية حال ! – وكذلك نلاحظ الدخول داخل شرنقة التاريخ في حركة مغلقة بدا من خلالها أن بإمكان أصحاب هذا التوجه تحنيط الواقع في التجربة التاريخية القديمة ، مع فشلٍ واضحٍ في ترجمة المقاصدية في ضوء الواقع الحالي ، وأعتقد أن أحد أسباب هذا الفشل هو حالة الرهاب نفسها مما يسمى الغرب ، وأنا أرى أن الأمر في حقيقته ينضوي تحت عدم ثقة حقيقية بما لدينا من جهة ، ثم عدم ثقة بذواتنا التي كرمها الله بنعمة العقل واستودعها رسالةً عالمية ، فبوجود هذين المكونين ( عقل + رسالة ) مع وجود السعي والإخلاص ، فإنه لن تخيب مساعي هذه الذوات !
وكما هي منهجية الفئة الأولى في محاكمة الأمور ، فإن محاكمة أي فكرة عند أصحاب المنهج الثاني لابد وأن تمر عبر بوابة الغرب ، فمعيار الخطأ والصواب عند المصابين بالاستلاب للغرب هو رواج الفكرة المطروحة أمامهم في الغرب نفسه ، بينما على العكس سيكون رواج الفكرة في الغرب عاملاً قاتلاً لها عند المصابين بفوبيا الحداثة الغربية ، وفي الحقيقة فإن تقييم الأفكار بهذا الشكل يقتل المصداقية ، ونستطيع عندها وبكل أريحيّة أن ننعي الحقيقة إلى مثواها الأخير ....
في الحقيقة أرى أن من أكبر الألغاز التي لا حل لها ، أن تقع أي فكرة جديدة ضحية تقيمين متنافرين إلغائيين ، فلا مفر عندها من الوقوع في شبك واحد منهما على أضعف تقدير ، فكيف لنا أن نأتي بجديد لا يتشابه مع جديد غيرنا ، فإن استطعنا ذلك مرةً ، فهل سنستطيعه في كل المرات ... ثم هل هذا مطلوبٌ منّا من الأساس ؟!
إذا كانت حالة الاستلاب مرفوضةً بالكامل ، فإن حالة " الرفض المطلق لكل جديد يشبه جديد غيرنا " مرفوضة بالكامل أيضاً ...
وبالتالي وكما استسلم أصحاب الاستلاب للغرب ، أدخل هؤلاء أنفسهم في دوامة التشكيك واستسلموا لظنونهم ، فتوصلوا إلى حالةٍ لايدرون معها أين بدأ تشكيكهم وأين سينتهي ، لسبب بسيط وهو أنهم يتعاملون مع أية فكرة بطريقة استخباراتية متوجسة ، وليس بمنطق عقلاني مقاصدي ، فهم معنيون أكثر بمسألة ماهي ارتباطات هذه الفكرة ومن تشبه ومع من تمشي ومن يموّلها وهل ستغيظ أعداءنا أم أنها ستسعدهم وهكذا ... والنتيجة فرص ضائعة دوماً وتفكك متزايد نتيجة التشكيك بكل ما هو مختلف عنهم ...
وهذا ما أرى أن كان ولايزال يسيء بشكلٍ أو بآخر إلى بعض القيم الأصيلة وبعض المفاهيم الحضارية التي تحتاجها أية نهضة نسعى إليها ، وهي مفاهيم كانت حاضرة وفاعلة بشكل أساسي في الفترة الراشدة للدولة الإسلامية ، ولكن تم التشويش عليها عبر التاريخ من خلال ممارسات قدمت على أنها هي الإسلام وكل ما خالفها بعيد عنه ودخيل عليه ، أو من خلال نقل أو تحليل تاريخيين خاطئين ، وقد ساعد الحضور الغربي فيما بعد تعمق هذا التشويش على الكثير من المفاهيم ومنها على سبيل المثال لا الحصر : مفاهيم اللاعنف واللاإكراه وضوابط التعامل مع المخالفين ... إلى آخر ما هنالك
فإذا طرح مثلاً مفهوم اللاعنف ، وجدت التحليل الروتيني الذي يمارسه هذا الفكر يقوم بربط اللاعنف بدعوات تجريم المقاومة ، وبالحرب على الإرهاب ، وبالظروف الدولية وعلاقة الولايات المتحدة بالمسلمين ..
أو قد يقوم أتباع هذا المنهج بحصر هذا المفهوم بشخص المهاتما غاندي نفسه ، ثم محاصرة تجربة اللاعنف من خلال طرح فكرة وثنية هذه الشخصية - علماً بأن إخضاع الفكرة لهذا الاعتبار خروجٌ عن الموضوعية – ثم تراهم يجعلون أصابعهم في آذانهم عند أول حوار عن محورية اللاعنف في التربية الإسلامية ، ويصرخون بأعلى الصوت أن هذا ليس من الإسلام في شيء بل هو محض أسلمة لقيم دخيلة .. هكذا وببساطة شديدة
وهذا ماحدث ويحدث كلما طرح اللا إكراه ، والعجيب أن مجتمعاتنا أعياها الاستبداد والعنف والإكراه ، ولكنها ما زالت تتمنّع أمام فتح هذه الأبواب المغلقة ، ما زالت ترفض الاعتراف بحقيقة أن الاستبداد هو ما يعيش في لاوعينا كأفراد فهو إن صح التشبيه كالنية أوكالرغبة الكامنة التي تنهض كلما أتيح لها أن تنهض ، وعندما نعاني نحن من الاستبداد فلنعترف بأن مايحدث هو مجرد نهوض وتفتح لتلك النية عند شخص آخر ، هي حالة انتقال تلك الرغبة من لاوعيه إلى وعيه ، هذا الآخر قد يكون قريباً أو بعيداً، رب أسرة أو قائد أمة ... لا فرق ، فالمقدمات والنتائج واحدة !
في كل مرّة تطرح فيها هذه المفاهيم ، يأبى المنطق الاستخباراتي إلا أن يفعل فعله ، فاللا إكراه يشبه - في نظرهم - الحرية الغربية التي أدت إلى التفلت والإباحية الجنسية ، ويتساوى في نظرهم مع اللاتربية ، ولكن إذا سألتهم عن رأيهم في التربية الإكراهية سيقولون بأنهم ليسوا معها ، ثم تعاد أسطوانة الأسلمة المعهودة ، لدرجة تتخيل معها أن هذا الإسلام الذي يحدثونك عنه منظومة عجيبة لا تستطيع أن تمسك لها بطرف خيط ، فهو مجموعة قيم متحركة كالزئبق لا يمكن الوصول إلى حقيقتها ، مما يطرح تساؤلاً مهماً وهو : إن كانت فعلاً كل تلك القيم غريبةً تتم أسلمتها فما هي طبيعة هذا الإسلام الذي يريدون تقديمه للإنسانية ، وما هي طبيعة هذه النهضة التي يحملون لواءها وكيف سيكون تعاملهم مع مخالفيهم من الأطراف جميعها ؟!
إنني أدعو أصحاب المنهجيتين إلى تقديم رؤيتهم لأي فكرة أو أي طرح في معزلٍ عن التأثيرات الخارجية ، فقد آن الأوان أن نسمع من الداعيين للسير مع الحداثة حول تصورهم عن المستقبل لنرى ما يناسبنا من تصورهم ، ماينسجم مع أصالتنا وواقعنا وما قد يتعارض منه مع رسالتنا ..
كذلك لابد لأصحاب المنهج الثاني أن يقدموا لنا رؤيتهم الواضحة عن إسلامهم ذي القيم غير المؤسلمة ، تلك التي لا تشوبها أية قيمة دخيلة ، مما سيكسب دعوتهم معالم أكثر وضوحاً ....
فيما يخص الجدل القائم حول مفهوم " قبول الآخر " وعلاقة الأمر بحالة التفكك القائمة :
باختصار حول ما يخص هذا المفهوم ، أقول أن هذا القبول هو إيمان بالتنوع الإنساني ، وإيمان بأن الحالة الوطنية الحالية تقتضي الاتفاق على مصالح معينة متبادلة بين الشركاء جميعاً ، هي حالة تفرضها أنت على الآخر من خلال تقبّلك أن يكون لهذا الآخر الحرية بالاعتقاد وبنشر الفكر الذي يعتنقه ، لكي تتاح لك نفس الفرصة باعتناق ونشر ما تريد ، ولكنها – بداهةً – لاتعني قبول اعتداء الآخر على النفس أو على آخرين ، فهي تقبّل حق الآخرين بممارسة أي نشاط فكري أو عملي دون تقبل حالات الاعتداء واغتصاب الحقوق ، والتي تتم معالجتها عبر القنوات الشرعية والقانونية دون اللجوء إلى أية حلول فردية ...
ولننظر مثلاً إلى مايطرح من جدل حول مايسمى " قبول الآخر " فإذا سلمنا بأن هذا المفهوم من الممكن أن يكون هلامياً لا معالم له عند جهة ، فإن مايطرح من شبهات حول هذا المفهوم في الجهة المقابلة يدخل في نفس الشبهات غير واضحة المعالم والتي تشهر في وجه القيم التي ذكرتها قبل قليل ...
وإذا فصّلنا قليلاً في الانتقادات المقدمة من قبل المعارضين لقبول الآخر للموافقين له ، سنجد أنهم يأخذون عليهم أن قبولهم وصل بهم إلى التماهي مع الآخر إلى درجة أنهم أصبحوا هم ذلك الآخر ، وأن ذلك يعتبر أحد تبعات الهزيمة الحضارية أمام الغرب ..
إن تسليمنا جدلاً وافتراضنا صحة هذا الانتقاد سيفرض علينا النظر من خلال جهة مقابلة ترى أن الرفض لهذا المفهوم يعبّر أيضاً عن نزعة مكبوتة لإلغاء الآخر ، وهو ماسيقودنا إلى الحديث مجدداً عن " مورثة معطوبة " في بنيتنا الفكرية هي مورثة الاستبداد ، والتي تسعى لفرض نفسها على منظومتنا الفكرية ، وهي ما تفرض نفسية عدائية كامنة تجاه المختلف .. . أقول إن التعمق في مثل هذه الافتراضات يفرض علينا – للإنصاف - التعمق في كلا الاتجاهين .
فالقبول قد يصل إلى درجة التماهي .. وكذلك فإن رفض التماهي قد يصل إلى درجة عدم القبول والعدائية ...
وافتراض أن الأولى سببها الهزيمة الحضارية أمام الآخر سيفتح الباب أمام افتراض أن الثانية تنم عن هزيمة نفسية تجاه مورثة الاستبداد الكامنة ....
وبالنتيجة لا فرق بين نتيجة (قبول الآخر = التماهي معه ) ، وبين نتيجة ( قبول الآخر = انتحار الذات ) ، وبمعنى آخر فإن التطرف في الحالتين يؤدي إلى نهايتين مختلفتين من حيث الظاهر المادي ، ولكنهما منسجمتين من حيث الجوهر المعنوي ، كالانسجام بين نتيجة الإفراط والتفريط ، التشدد والتفلت ، التطرف والانحلال ...
عند غياب الجوهر الإنساني في التعامل فلا فرق بين أي النهايتين تختار ...
وكربط مع ما بدأت به مقالتي عن حالة التشتت والتفكك الموجودة ، أرى أن الطريق لأي نهضة يمر عبر محطاتٍ هامة ومفصلية ، ولكني أعتقد أن الأولوية يجب أن تكون لإعادة النظر فيما نحن عليه من أوضاع ، وإعادة تنقية الأفكار ثم صياغة واقع جديد مبني على أسس سليمة ، لأنه لو كانت تلك الأوضاع سليمة لما كنا اليوم نفكر بالنهضة من جديد كعملية لابد منها ...
إن أكثر ما يؤلم أن تتنوع الأطياف المنادية بالنهضة ، على اختلاف المناهج والرؤى ثم نجد حالة الإلغاء المتبادلة بين الجميع ، بل إن الأكثر إيلاماً أن نقوم نحن بتضييع فرصة تفعيل الكثير من القيم الإسلامية فقط بسبب رهابنا من الآخر ، أو أن نضع هذا الآخر في ميزان تقييم مثل هذه المفاهيم ، مما يفرغ التقييم من موضوعيته .
والله أعلم ، فإن مايطرح يكاد يعبّر عن منظومة مركبة يظهر ( الإكراه و رفض الآخر و العنف وما أريكم إلا ما أرى ... ) كمكونات فاعلة وحيّة فيها ، تظهر كرد فعل تجاه منظومة أخرى قوامها التماهي والاستلاب ، دون أن ننسى أن للبعض رأيٌ في أن المنظومة الثانية هي التي كانت ردةَ فعلٍ على ما أنتجته الأولى ....
ولكن لابد من التذكير بأن خياراتنا ليست محصورة بهاتين المنظومتين ، ولا بد من بثّ روح البدائل الأخرى التي تقوم على اللا إكراه ، وبناء علاقة متوازنة مع الآخر بعيدة عن الاستعداء ، مع الإيمان بالتنوع والاختلاف ، وتجنب الرؤية الأحادية في مسائل تستوجب رؤى جماعية منظمة ...
أرى أنه آن الأوان لأن يصحو أولئك الداعون إلى النهضات الأحادية التي لا ترى في النهضة إلا تلك التي تنطلق من هنا ، ومن هنا فقط ، خاصةً حين تعبر تلك اللفظة عن إحداثيات المتكلم نفسه ، مقزماً كل الجهود والدعوات المختلفة عنه ، فهو لا يرى الإنطلاقة إلا من تحت موطئ قدميه !
فلا يمكن لنهضة أن تقوم في أمة يحمل أفرادها نفسية : " ما أريكم إلا ما أرى .. "
إلا إذا كانت نهضةً على شاكلة نهضة آل فرعون التي لم يذكرها أحدٌ بخير ... والتي تطلبت تدخل العناية الإلهية وتأييد الأنبياء والمصلحين بالمعجزات والخوارق ، فهزم السحر وشُقّ البحر بعصا ، وكان من نتائجها أن أدخل شعب كامل في التيه عدداً لا يستهان به من السنين ...
إذا كان هذا هو شكل النهضة التي يريدون ، فشكراً لكل الداعين إلى هذه النهضة ....
فأنا يا سادتي لا أريد النهوض !