التفجيرات التي وقعت مؤخرا في العاصمة العراقية فيما بات يعرف بالأربعاء الدامي، أو الأربعاء الأسود أو في سواها، بينت مدى هشاشة الأوضاع الأمنية في بغداد بشكل خاص، وفي المدن العراقية بشكل عام، كما انها بينت ان ما قيل عن استعداد القوات الأمنية العراقية بمختلف تشكيلاتها لم يكن إلا كذبة كبيرة صدقها من روج لها، هذا عدا عن انها كشفت ان صناع القرار في حكومة المنطقة "السوداء" لا يملكون الكثير من الخيارات عندما تشتد "الميمعة" سوى بإلقاء التهم جزافا
في جميع الاتجاهات.
لقد لوحظ التناقض كما الارتباك والبلبلة التي اتسمت بها تصريحات هؤلاء خاصة بعد الأربعاء الأسود، حيث ذهب " المالكي" إلى إلقاء اللوم على سوريا، وأدلى بتصريحات "نارية" وربما غير مسبوقة ضد هذا البلد، بحيث اعتقد من سمعه بأنه يملك من الخيارات الكثير، وانه لن يتردد في "شن حرب" يؤدب من خلالها سوريا وقيادتها بحيث ترتدع وتتوقف عن التدخل في الشأن العراقي الداخلي، كما عن إرسال "الموت" إلى الديار العراقية، المالكي كما يعلم الجميع كان في زيارة للعاصمة السورية عندما وقعت التفجيرات الآثمة، وأشاد بالعلاقات الثنائية بين البلدين بكلام جميل وضرورة تطويرها والتوقيع على اتفاق استراتيجي بين البلدين.
وفيما كان المالكي يكيل الاتهامات والوعيد لسوريا خرج مسؤول عراقي آخر، " زيباري"، ليؤكد على انه لا يمكن لمثل هذه التفجيرات ان تنجح سوى من خلال تواطؤ واختراق للأجهزة الأمنية والقوات التي تشرف على المنطقة. فيما لمح آخر، "وزير الدفاع"، إلى ان إيران وراء التفجيرات المرعبة التي خلفت قتلى وجرحى بالمئات.
طبعا في ذات السياق صرح كثير من المتحدثين بتصريحات مختلفة وكانت في مجملها متناقضة ولا تستند إلى أي حقيقة، فهي اتهامات وجهت إلى كل من وجهت إليه- قاعدة بعث تكفيريين- حتى قبل ان يبدأ التحقيق، وخلال عملية إزالة الأنقاض، وقبل دفن جثث الضحايا.
لقد كان الاتهام الأبرز هو ذاك الذي تم توجيهه الى سوريا والذي تلاه سحب السفير العراقي من العاصمة السورية بحجة التشاور. ويبدو ان الحكومة العراقية أدركت مدى "التلفيق" الذي حاكته ضد سوريا فتراجعت بشكل نسبي عن الاتهامات ضدها، وقالت بان الاتهامات لم تكن موجهة إلى سوريا بذاتها بقدر ما كان الأمر متعلقا بمن هم من "فلول البعث" المتواجدين على الأراضي السورية، وإنهم يقفون وراء التفجيرات، وخرجت على العالم باعترافات من قالت انه عضو مهم وكبير في حزب البعث – جناح الأحمد-، وطالبت سوريا بتسليمه مع عشرات من البعثيين العراقيين المتواجدين في سوريا.
اللافت في الموضع هو هذه السرعة التي استطاعت أجهزة الأمن العراقية التي عرفت بعجزها وفسادها وطائفيتها، اكتشاف من يقف وراء التفجيرات وفبركة الاعترافات بشكل مخز، هذا الإنجاز الذي لم تحققه الأجهزة نفسها في أي من القضايا التي وقعت في العراق بعد احتلاله، ومن بينها عشرات ان لم يكن مئات حالات التفجير والقتل والنهب والسلب والفساد والإفساد والاغتصاب وغيرها، مئات وآلاف القضايا والجرائم التي وقعت في العراق لم تستطع هذه الأجهزة فك رموزها أو هي فكت رموزها فعلا لكنها اخفت حقيقتها بسبب تورط من هم في رأس السلطة، أما في حالة التفجيرات الأخيرة فقد كانت هذه الأجهزة على "دراية وكفاءة عالية" بالضبط كما كان الحال في قضية مقتل الصحفية العراقية أطوار بهجت التي ثبت ان ما قيل عن القبض على قاتلها لم يكن سوى تدليس وتلفيق حيث أظهرت الحكومة العراقية ثلاثة أشخاص في فترات مختلفة قالت في كل مرة ان هذا هو القاتل الفعلي للصحفية العراقية.
لقد أدى تطور الأحداث إلى رد فعل سوري غاضب بحيث تصدى الرئيس السوري نفسه للموضوع ووصفه بأنه لا أخلاقي، وان على من يتهم الآخرين ان يقدم الأدلة، وكان وزير الخارجية الإيراني قد قام بزيارة إلى العاصمتين السورية والعراقية وتبعه التركي فيما يبدو انها محاولات للحد من التصعيد الحاصل بين الطرفين.
لقد كان الموقف السوري بشكل عام وبعد كل اتهام يتم توجيهه إلى سوريا من قبل ساسة العراق الجدد، واضح وجلي، ويقول بان على العراقيين ان يقدموا أدلتهم في حال توجيه اتهامات ضد سوريا، وكانت حكومة المنطقة السوداء تفشل في كل مرة من إيجاد أي دليل إدانة ضد هذا البلد، ولا يمكن ان تكون قد أحجمت عن تقديم أدلتها في حال توفر تلك الأدلة، لان من الواضح بان عناصر هذه الحكومة لا يتمتعون بمثل هذا الكرم الأخلاقي، ونعتقد بأنه لو توفرت مثل تلك الأدلة فهي لن تتردد عن كشفها بشكل استعراضي على الرأي العام العالمي وليس العراقي فقط.
ما جرى من قبل حكومة المنطقة "السوداء" ضد سوريا ومحاولتها القول بأنها قد تطالب بتحقيق دولي على غرار ما جرى في موضوع الحريري، يدلل بلا أدنى ريب ان من فكر أو دبر مثل هذه "الفكرة" لا يدلل على ان هناك في هذه الحكومة من يمتلك بعد نظر أو انه يقرأ الظروف السائدة بشكل علمي خاصة في ظل الاتصالات والتقارب الجاري بين سوريا والغرب وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية.
من الجلي ان حكومة بغداد تدفع باتجاه التصعيد مع الدولة السورية كما انها لا ترتبط بعلاقات منسجمة مع المحيط العربي، وهي حكومة على أي حال طائفية مقيتة - جل عناصرها قد ربطوا أنفسهم بالغرب قبل ان يسيطروا على زمام الأمور في بغداد- ليست مرغوبة بشكل كبير فيما بين مجموعة الدول العربية بغض النظر عما يمكن ان يقال في هذا الإطار، هذا بالإضافة إلى انها أصبحت حكومة مكشوفة في الداخل العراقي الذي يعتبر انها حكومة – فاشلة- بكل المقاييس، وانها لم تقدم الشيء الكثير لتحسين ظروف العراقيين في الداخل، وهي لم تحقق سوى المزيد من النهب لخيرات البلد وممارسة سياسة الفساد والإفساد.
الدفع باتجاه توتير الأوضاع مع سوريا أو مع غيرها من الدول في الإقليم، لن يكون هو المخرج الذي يبحث عنه المالكي وسواه في الحكومة العراقية، وهذه التوجهات لن تؤدي أبدا إلا إلى زيادة تعقيد الوضع في هذا البلد، كما ان هذه الطريقة في التعامل مع الواقع السياسي العراقي، وهذا التنافس حد التناحر بين مكونات ما يسمى العملية السياسية في العراق، لن يقود إلى بناء عراق جديد حر وديمقراطي كما يحلو للمحتل الأمريكي ومن أتى معه ان يروج، هذا الذي يجري في العراق منذ احتلاله يهدف فقط إلى الوصول بالبلد إلى أسوأ حال يمكن الوصول إليها، وهذا ما رمت إليه القوى المعادية للأمة العربية وفي مقدمها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية وخروج العراق بالصورة التي خرج عليها بعد تلك الحرب. وعلى ذلك فان من الأجدى للمالكي وزملاءه في المنطقة الخضراء ان يسلموا الدفة الى الوطنيين من العراقيين وان يعودوا أدراجهم الى العواصم التي لجئوا إليها قبل استقدامهم على ظهور دبابات الاحتلال.
* وقع في حاص باص- أي وقع في ضيق وحرج بحيث لا يدري كيف يتصرف- القاموس المحيط للفيروز أبادي.
2 أيلول 2009