مرَّ عليها سنوات عديدة وهي تعمل بالتدريس, كانت من ذلك النوع من المدرسين الذين يعتبرون أن التدريس وسيلة تغيير وتعديل للسلوك وطريق نهضة, وليس فقط طريقة لصب المعلومات ونيل الشهادات, لذلك فقد كانت حريصة على التواصل مع طلابها والحوار معهم ومشاركتهم, وكان لها تجاربها وقصصها معهم.
تركت التدريس لمجال آخر لا يبتعد كثيراً عنه, وصارت مديرة لإحدى الثانويات, أصبح الآن شغلها أكثر اتساعاً, ومسؤولياتها أكثر عمقاً وإلحاحاً.
تعودت التحدث عن مجريات يومها مع زوجها وأحد الأصدقاء المهتمين مثلها, وكانت تتحفهما بما يجري معها, وتتشاور معهما حول ما يمكن عمله إذا واجهتها مشكلة ما, أو أرادت تنفيذ مقترح أو تجربة تربوية.
في هذه الزاوية سأنقل لكم بعضاً من مذكراتها وأحاديثها مع زوجها, أو مراسلاتها مع ذلك الصديق المهتم علنا نقدم تجربة أعتقد أنها بحاجة للعناية والتقويم, وسأبدأ بهذه الحكاية:
خطأ؟! ربما لا....
كتبت مربيتنا في إحدى رسائلها مخاطبة ذلك الصديق:
يوم الإثنين الماضي كان يوماً عصيباً, لم أستطع أن أحدثك عنه, أو بالأحرى لم أرد ذلك لأنني شعرت فيه باحباط شديد, وتصرفت فيه تصرفاً خاطئاً, ولكن رسالة وصلتني اليوم من إحدى الطالبات جعلتني أرغب في إطلاعك على ما حدث:
منذ بداية العام والمدرسة تأخذ كل وقتي ومشكلات الطالبات تؤرقني في ليال كثيرة, أخبرتك عن بعض الأمور التي كانت معضلة بالنسبة لي. وحاولت كما تعلم تقديم أقصى ما أستطيع, حاولت أن أزرع في نفوس الطالبات احترام الذات, والشعور بالمسؤولية تجاه أنفسهن ومدرستهن. كنت أظن أن الأمر سيستغرق وقتاً ولكن لابد أن أجد تحسناً على الأقل من جهة المحافظة على الأثاث أو على نظافة المدرسة.
ما حدث يوم الإثنين أطار صوابي, صعدت إلى أحد الصفوف لأسأل عن طالبة فوجدت أن طالبتين قد قامتا بالكتابة على جدران الصف بصورة قبيحة وكان منظر الصف مروعاً, وقتها لا أدري ماذا أصابني فقدت أعصابي ولم أعرف ماذا أفعل, تحدثت مع البنات وصدقني لم أعرف ماذا قلت, شعرت أن كل تعبي يذهب هباء, وخصوصاً أن من قامت بهذا الفعل هي طالبة مميزة وخلوقة, وقد شاركتها الفعل طالبة أخرى صاحبة مشاكل منذ بداية العام.
خرجت من عندهن وأنا في حالة سيئة بالفعل, ودخلت صفاً آخر لأجد الأوساخ تعم المكان (وخصوصاً قشور بذور البطيخ المحمص), طلبت منهن تنظيف الصف, وطلبت من كل واحدة معها بذر أن ترميه, ولم أخرج حتى وضعت كل بنت ما معها من بذور في سلة المهملات, نزلت للإدارة وأنا حزينة, ولم أكد أصل حتى لحقتني طالبة لتقول لي: آنسة فلانة أخرجت المزيد من البذور وبدأت بأكله ورميه على أرض الصف, أسرعت وراءها والغضب يتملكني, وبالفعل دخلت ووجدت بقايا الوسخ في الصف الذي نُظّف قبل قليل, لا أعرف كيف صفعتها على وجهها, وكيف بدأت بالصراخ عليها وعلى زميلاتها.
انتبهت لنفسي وعدت للإدارة وأنا أشعر بخيبة أمل كبيرة, وبندم على ضربي للطالبة. صدقني لقد أصبت بالاحباط الشديد, وقلت لنفسي بأنني لم أنجح بأبسط شيء حتى الآن, سنة كاملة مرت, ولم أنجح بترسيخ مفهوم الانتماء لدى الطالبات؟ بترسيخ مفهوم المسؤولية ووجوب النظافة؟ بترسيخ أي مفهوم؟!! هناك خلل بالتأكيد.
مر اليوم عصيباً, حتى بعد انتهاء الدوام لم أستطع لملمة نفسي, ولم أستطع النوم جيداً في تلك الليلة.
في الصباح كنت قد هدأت قليلاً, ذهبت للمدرسة ودخلت للصف الذي ضربت فيه الطالبة على وجهها ( كان الصف نظيفاً على غير العادة!) وقلت للبنات إن ما حدث البارحة كان محبطاً جداً بالنسبة لي, وبعد حديث معهن عن المدرسة والمسؤولية .......إلخ, قلت لهن إنني اليوم بينهن لأنني أريد أن أعترف أمامهن بخطأ ارتكبته البارحة, لقد كنت غضبانة جداً وحكمت في مسألة وأنا في حالة غضب وصفعت فلانة على وجهها وخالفت بذلك توصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم صفع الوجه, وحكيت لهن عن غضب موسى عليه السلام, وعن طلب رجل من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتص منه عندما زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم وخزه, وقلت لهن إن الرسول صلى الله عليه وسلم خضع للحق وقبل أن يقتص منه ذاك الرجل, وها أنا الآن أطلب من فلانة أن تقتص مني لأنني صفعتها على وجهها دون أن أتأكد من فعلتها ولقد تبين لي فيما بعد أنها لم تكن الفاعلة, وأنها تلقت صفعة ظالمة مني للأسف. عندها قامت البنت وقالت آنسة أنا أستحق الضرب وأعتذر منك, قلت لها بل أنا من يعتذر ولك الحق في القصاص, فقالت بل سامحتك!, شكرتها وخرجت.
اليوم جاءت واحدة من الطالبتين اللتين كتبتا على الجدار (وهي الطالبة صاحبة المشاكل على فكرة) وأعطتني ورقة (بالمناسبة لقد عملتا طوال اليوم في تنظيف الحائط حتى زالت عنه الأوساخ) عندما قرأت الورقة تأثرت كثيراً:
اسمع ماذا كتبت: "أسفي واعتذاري للمديرة الأم والأخت التي لم أرزق بها وشاء الله أن أحظى بها لساعات, وسامحيني إن سببت لك الأسى, ولعلك قلت لنفسك لمن ولماذا التعب والمثابرة لفتيات لا يعرفن إلا الضحك والسخرية وتضييع الوقت, ولعل ما تحدثك به نفسك صحيح, ولكن الأصل لا يتعب من الأجزاء مهما حاولت الابتعاد عنه فهو الأصل. فأنت يا معلمتي النخلة التي تتحمل مهما طالت الأجزاء بعداً عنها ولكنك إن شاء الله ستقطفين عجوة وسيقطف الآخرين (طبعاً الآخرون) بلحاً, وستجدين صبرك عليّ وعلى رفيقاتي في ميزان العدل عند ملك عدل, والسلام".
تأثرت كثيراً بهذه الرسالة, وبعد تفكير قررت أن أكتب لها رداً على الورق أيضاً وكتبت لها رداً قلت لها فيه إنني آمل منها الخير دائماً وأن الخطأ وارد عند كل إنسان وأنني أحبها وأحترمها وأثق بها وأنتظر منها الكثير من الخير إن شاء الله, سلمتها الورقة وبدت لي ابتسامتها كأنها مفتاح أمل مشع, وشعرت لفترة بقشعريرة غزت جسدي كله, وبدا لي ما حدث كأنه فرج من الله يؤكد لي أن الخير لا يضيع مهما انتكس.
بالمناسبة الطالبات من الصف الثامن, وهو صف مشاكس منذ بداية العام. واليوم وجدت طالبات الصف العاشر يطلبن إذناً للقيام بتنظيف الصف, وأحضرن مواداً للتنظيف وبدأن بتنظيف الصف وتعقيم المقاعد حتى صار الصف (فرجة, كما نقول)
صديقي: العمل صعب, بالفعل صعب, ولكن الغاية المرجوة تستحق العناء أليس كذلك؟!
إلى اللقاء