لقد عمد النبي r إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غَنَاءها، ولا يعرف محلها وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له، وكأنما كان المكان شاغرا لم يزل ينتظره ويتطلع إليه، وكأنما كان جمادا فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفا. وكأنما كان ميتا لا يتحرك فعاد
حيا يملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائدا بصيرا يقود الأمم (
وعليه، فإن الخطوة الأولى في التربية هي الصحبة في الله، هي المهيع إلى النصر والتمكين، والفوز المبين في الدنيا والآخرة، بهذا تربى الصحابة y في حضن الصحبة النبوية في دار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة، وفي مسجد المدينة بعد الهجرة، يسقيهم زُلال محبة الله تعالى، ومحبة بعضهم بعضا، ومحبة الموت في سبيل الله، فبالصحبة يبرأ العليل ويشفى الغليل ويبدأ التغيير.
ونلمح مما سبق ذكره أنه لابد لكل إنسان يرنو إلى المعالي من هاد= قدوة ، ذي ذكر ، دال على الله، خبير بوسائل الفرار إلى الله، واللجوء إليه جل وعلا، والهجرة إليه . ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً﴾([3]).
ولنا في كليم الله سيدنا موسى u مثلا يحتذى في هذا المقام، كما جاء في سورة الكهف ، كيف طلب المرشد ليتبعه، وكيف كان أدب موسى مع مرشده، قال الله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾([4]).
ولذلك فإنما ينفع الله عز وجل المؤمن الصادق الجاد في الإقبال على ربه أول ما ينفعه بصحبة رجل صالح، ولي مرشد، يقيضه له، ويقذف في قلبه حبه، ومتى كان المصحوب وليا لله حقا والصاحب صادقا في طلبه وجه الله ظهرت ثمرة الصحبة ([5]).
وهذا من سنن الله في الحياة البشرية: فلابد لطالب حفظ القرآن من شيخ خبير بأحكام التلاوة ، ودقة الأداء، ولو لم يتتلمذ على شيخ، لاستحال عليه أن يحصل حق التلاوة ودقة الأداء، بل تغيب عنه الأحكام وكنهها ، وقل ذلك في علوم الشريعة واللغة ، والتاريخ والفيزياء وغيرها من العلوم الكونية ، حتى الحرف والمهن والصناعات، مهما علت أو دنت، لابد لها من اختصاصي (خبير) يلقنها ويكشف أسرارها، فما لم يكن للمرء شيخ في العلم ضل الطريق وتصيدته الأبالسة واستهوته, وجعل إلهه هواه فهلك.
وما لم يكن للمرء معلم في بقية الصناعات والحرف لما أتقن العمل و لا أصاب المراد ولا أجاد, وربما كان سببا في الضياع ؛ ومن هنا كان لابد للسالك المقتحم العقبة إلى الله من إمام يرشده إلى جادة الصواب، ويأخذ بيده إلى شاطئ الأمان، ويوجهه الوجهة الصحيحة، ويسدد رميه، ويكشف له أحابيل الشيطان ومداخله، في العبادات والمعاملات والعادات، والخطرات النفسية والإرادات القلبية، والواردات التي قد تكون أخطر على صاحبها من الكفر الصريح.
ولهذا سجل كبار أئمتنا عبر التاريخ ومنذ أمد بعيد أخذهم وتلقيهم عن كبار شيوخ عصرهم، كابراً عن كابر، سلسلة متصلة الحلقات.
ولا يزال في عصرنا هذا يستعد الطالب لنيل الشهادات الجامعية ؛ إجازة كانت أو "ماجستيرا" أو "دكتوراه"، لابد له من مشرف يشاركه رحلة العلم والجهد.. ومن كذب ببركة الصحبة وأهميتها في التربية والتزكية فإن حظه من ذلك التكذيب الحرمان. ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾([6]).
وهذه الصحبة هي السر فيما نرى من وجود شخصية فذة على رأس كل حركة للجهاد والكفاح، نفخت في المجاهدين روح الحماسة واليقين، وحملت هذه الشرارة إلى صدور المؤمنين الآخرين، حتى شقت عليهم حياة الهدوء والنعيم والترف، وأصبحوا لا يطيقونها، وهانت عليهم حياة الشهادة والجهاد، والبطولة والتضحية، وعزت عليهم الحياة كما عز على غيرهم الموت، وذلك هو النموذج الكريم المفقود، والإمام المنشود المقصود ([7]).
وهذا ومن المعلوم أن "النصوص وحدها لا تصنع شيئا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكا.
ومن ثم جعل محمد r هدفه الأول أن يصنع رجالا لا أن يلقي مواعظا، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبا، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة. أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن الكريم، وكان عمل محمد r أن يحول الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون.
فلما انطلق هؤلاء الرجال في مشارق الأرض ومغاربها، رأى الناس فيهم خلقا جديدا لا عهد للبشرية به (...).
ولقد انتصر محمد بن عبد الله [r] يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصا، وحوَّل إيمانهم بالإسلام عملا، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفًا. ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، إنما طبعها بالنور على صحائف القلوب ([8]).
إن الصحابة yلم ينشأوا تنشئة عفوية على بذل الغالي والنفيس في سبيل الله، إنما تشربوا من معين الصحبة النبوية، وارتووا من نبعها، فكانوا رجالا تهابهم ملوك الدنيا وقياصرتها.
إنهم فازوا بخير الدنيا والآخرة، وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد أمحزون: لقد كان المسلمون الأولون أسعد الناس حظا بتربية النبي r وأقربهم منه في جميع الأحوال، ولهذا كانوا النواة الصلبة والأساس المتين الذي بني عليه صرح الإسلام وكيانه ([9]).
إن الصحابة y ما كانوا رحماء بينهم متحابين متصافين متآخين إلا بفيض صحبتهم للمصحوب الأعظمr ومحبتهم له، لقد أحبوه r محبة شديدة، وتشربوا من معينه الصافي، فأفاض الله عليهم من بركة محبته ما صيرهم إلى أن يفتدوه بالمهج، فكانت أخلاقهم قرآنية, وتربيتهم قرآنية, ومعاملتهم للناس قرآنية, ومعاشرتهم لأهاليهم قرآنية, وتربيتهم لأولادهم قرآنية, ومواقفهم قرآنية, فرضي الله عنهم جميعا، فما بلغوا ما بلغوا إليه إلا بالمحبة والصحبة وبها سموا صحابة.
لم تكن محبتهم للرسول الكريم r وصحبتهم له عاطفة تؤكل بالمظاهرات والقسم، إنما كانت يقينا يسيطر على الأفئدة فيترجم في العمل إيثارا وبذلا وتعرضا للأذى والموت وهجرة المال والولد، في ظروف قاسية تكالب فيه أعداء الإسلام على النبي وصحبه واشتدت الأزمات وقل النصير. لذلك كانت أعمالهم أفضل الأعمال وكانوا أفضل الأجيال ([10]).
فبالمحبة والصحبة بدأ بناء الجماعة المسلمة القوية، محبة مركزة على شخص رسول الله r خالطت القلوب بشاشتها وحولت غلظة الأعراب رحمة ورقة، والمحبة دفعت المحبين من الأصحاب للبذل والعمل والصدق في كل ذلك، والمحبة مع التصديق كشفت عن العقول البدائية حجاب الغفلة فذكروا الله وانجلت لهم لوائح الغيب حتى كانوا من أمرهم على يقين يرون الجنة والنار والملائكة بالبصيرة رؤية أقوى من رؤية العين ولا مجاز في التعبير ([11]).
إن الصحبة في الله تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس،وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتحقق لهم غايات لم يكونوا بدونها حققوها، وتبوئهم مقاعد الصدق عند الباري جل ذكره لم يكونوا لولاها متبوئيها، وهي مطية القوم التي مسراهم على ظهرها إلى الحبيب الطبيب، الأواه المنيب، وسبيلهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم من قريب..
لا جرم أن المؤمنين الذين صحبوا الأنبياء واقتربوا من حياتهم أتيح لهم ما لم يتح لغيرهم من منابع الصفاء، ووسائل الارتقاء.
إن مشاعرك ترقى عندما تسمع النغم العذب، وعواطفك تسمو عندما تقرأ البطولة الرائعة، بل إن الذين يحضرون تمثيل بعض الروايات المثيرة يصبغهم جو القصة المفتعلة، فيضحكون، ويبكون، ويهدؤون ويضجون.. فما ظنك بقوم يتبعون رجلا تكلمه السماء، ويتفجر من جوانبه الكمال، ويسكب على من حوله آيات الطهر؟ فإذا ثقلت نفوسهم عن خير دفع بها إلى الأمام، وإذا علقت بمسالكهم شهوة نقاها فرد عليها سناءها. إن للعظماء إشعاعا يغمر البيئة التي يظهرون فيها، وكما يقترب المصباح الخامد من المصباح المشتعل فيضيء منه تقترب النفوس المعتادة من الفرد الممتاز، فتنطوي في مجاله، وتمشي في آثاره!!
وقد التف حول محمد r فريق من الربانيين ا لأتقياء، كانوا له تلاميذ مخلصين، فزكت –بصحبته- نفوسهم، وشفت طباعهم، حتى أشرق عليها من أنوار الإلهام ما جعلها تنطق بالحكمة وفصل الخطاب.
ولا تحسبن العقل الجبار –مهما أوتي من نفاذ- يستطيع إدراك الكمال بقوته الخاصة؛ فإذا لم تسدده عناية عليا فإنه سيجوب كل أفق دون أن يبصر غاية أو يهتدي طريقا، كالطيار الذي يضل في الجو عندما يتكاثر أمام عينيه الضباب، إنه يحكم القيادة، ويضبط الآلات، ويرسل أنوار مصابيحه في أحشاء الغيوم المتراكمة. فإذا لم يتلق إرشادا يحدد له مكانه ويعرفه كيف يهبط.. فإنه سيظل يحلق عبثا.. ثم تهوي به الريح في مكان سحيق ([12]).
وكان الصحابة y من أجل محبة ربهم –عز وجل- ومحبة نبيهم الكريم ومصحوبهم العظيم r، يقاتلون الإخوة والآباء المشركين، وكانوا يترسون عليه في الحرب بأجسادهم، تقع السهام في نحورهم دونه r. وكانت محبة لا تتستر وكانت محبة شخص ماثل. ولو لم يكن هو رسول الله ووليه ونبيه لكانت هذه المحبة أشبه أن تكون وثنية. لكنها كانت محبة صديقين لمن جاء بالصدق. والوثنية الزعامية في عصرنا ادعاءات للمحبة ومظاهرات كاذبة جوفاء ككل الطقوس الوثنية ([13]).
لا جرم أن علاقة الصحابة y بالنبي r كانت علاقة ملازمة ومصاحبة. طابعها التأسي والاقتداء به في القول والعمل، ومتابعة في السراء والضراء، والمنشط والمكره واليسر والعسر ([14]).
بفضل تلك الصحبة النبوية انتقلوا من التركيب الاجتماعي الجاهلي الذي يوالي الفُرقة والعصبية إلى عمران أخوي ومجتمع إسلامي، إلى بناء عضوي روحه المحبة وعموده الفقري وهيكله الطاعة لله تعالى ولرسول الأمينr.
علاوة على أن الصحبة في الله، تطوي المراحل للسالك إلى الله، وتعرفه بكنه العبودية لله تعالى.. فإن استغنى عنها أضحى فيئا ينتهب، وهدفا يرمى من قبل شياطين الإنس والجن، حتى تهوي به الأهواء في غياهب الظلمات ودهاليز الفتن، فيغرق في أوحال الغفلة عن الله وعن ذكره جل وعلا.
وهذا، وكم من فلاسفة عالجوا شؤون الكون والحياة. فمنهم من ضل عن الحق على طول بحثه عنه، فلم يصل إليه قط! ومنهم من استغرق في الوصول إليه أعواما طوالا. ولو مشى وراء الرسل لانتهى إليه في أيام قصار، وهو في مأمن من الشرود والعثار!
ثم إن الإنسان ليس عقلا فحسب، إنه –قبل ذلك- قلب ينبغي أن يسلم من الأهواء والآثام، وأن ينجو من الشقاوة والظلام، وأن يكون في حنايا صاحبه قوة تسوق إلى الخير والحب، وحاديا يهفو إلى الجمال والرحمة..
والمرسلون يتعهدون ضمائر البشر بالتعليم والتربية.
وأشبه الناس بهم من اقتفى آثارهم وأخذ طريقهم وأول أولئك قاطبة من صحبوهم في حياتهم، وقاسموهم أعباء دعوتهم ومغارم جهادهم.. ([15]).
ومن ثم فإن سر الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه صحابة محمد r أنهم كانوا موصولين بالله على أساس صحيح –[أي الصحبة]- فلم يشعروا في الفعل له بما يشعر به الكثيرون من عنت وتكلف، ولا يعانون من شرود وحيرة ([16]).
تالله لقد فاز صحابة رسول الله r ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم معية مصحوبهم ومحبوبهم أوفر نصيبا، وأقرب مقاما، وأعظم منزلة، وقد قضى ربنا جل في علاه يوم قدر مقادير الخلائق بحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، ومن أحب قوما حُشر في زمرتهم، فيا لها من سعادة أبدية، ونعمة خالدة، ومنة ربانية ونعمة إلهية.
فنخلص من ذلك أنه يجب على أمة الحبيب r أن يحبوا نبيهم أعلى درجات المحبة، لأن محبة النبيr هي مظهر محبة الله سبحانه وتعالى، فمن أحب مَلِكا أحب رسوله، ورسول الله r حبيب رب العالمين، وهو الذي جاءنا بالخير كله، وتحمل المتاعب من أجل إسلامنا ودخولنا الجنة ([17]).
([1]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن علي الندوي، ص155-156.
([5]) المنهاج النبوي، الإمام عبد السلام ياسين، ص127.
([7]) ربانية لا رهبانية، العلامة، أبو الحسن الندوي، ص116.
([8]) دراسات إسلامية، الشهيد سيد قطب، ص27.
([9]) منهج النبي r في الدعوة، ص95-96.
([10]) الإسلام غدا، الإمام عبد السلام ياسين، ص189.
([11]) الإسلام غدا، الإمام عبد السلام ياسين، ص193.
([12]) فقه السيرة للغزالي، الشيخ محمد الغزالي، ص200.
([14]) منهج النبي r في الدعوة، ص153.
([15]) فقه السيرة للغزالي، ص201.
([16])فقه السيرة للغزالي، ص205.
([17]) البيان لما يشغل الأذهان، الشيخ، علي جمعة، ص143.