أ)-تصحيح العقيدة: لقد عني القرآن المكي أولا بإصلاح العقيدة، وذلك ببيان مقتضيات توحيد الله U، وتوحيد الأسماء والصفات، لأن المسلمين كانوا حديثي عهد بالجاهلية، لذلك فمن البعثة إلى هجرة سيدنا رسول الله r إلى المدينة والآيات تنزل لتصلح العقيدة وتخلصها مما علق بها من شوائب الجاهلية، حتى تتمكن القلوب من التوحيد الصحيح لله تعالى،
وتطهر النفوس من أدران الوثنية والجاهلية.
وبناء على ذلك؛ فإن اكتمال الإيمان يقتضي مرحلة عليا من التربية، مرحلة تتعدى مراحل الحض والإيقاظ ورفع الهمم والعزائم إلى مرحلة تهذيب الحماس وتسكين الحمية الإيمانية، لتوافق الوحي في كل أمر وتنضبط عليه في كل حركة حتى وإن رأت أن موافقته شاقة، لا على حظ النفس فذاك أمر قد تستأصله التربية الوثابة، ولكن على إيمان القلب الثائر للحق ([1]).
ومن ثم، فإن أول عمل بدأ به r في تربية الوافدين والداخلين في الدين الجديد، هو تغيير النفس البشرية وما لصق بها من معتقدات وأفكار وتصورات... وتربيتها على التوحيد الخالص لله رب العالمين، بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء ومدبره، ومحيط بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء صغيرا كان أم كبيرا، ومنزه عن النقائص، وموصوف بالكمال، ومصدر كل خير ونعمة في هذا الوجود، وأنه يحصي أعمال بني الإنسان بواسطة كرام كاتبين حفظة، وأنه سبحانه ينصر من نصر دينه وتمسك بكتابه وسنة نبيهr، وأنه Yيبتلي عباده المؤمنين بالبأساء والضراء ليختبر صدقهم وثباتهم، وأن الجنة حق والنار حق والبعث حق والحساب حق...، وأن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار الخلد... فتطهر الصحابة y -ببركة الصحبة النبوية- من كل شائبة تخالف التوحيد، وثبتوا أقدامهم في أرض الإيمان.
تربوا رضوان الله عليهم على كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، هذه الكلمة لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن تكون كذلك في مرحلة من مراحل الدعوة، فضلا عن مرحلة التأسيس التي هي أشق المراحل وأهمها؛ وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية التي لقيها المسلمون من المشركين وما موجبها؟! وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومعلمًا فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر، وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها ([2]).
ولهذا، فإن توحيد الله تعالى هو الغاية التي خُلق من أجلها الإنسان، وهو الحقيقة الكبرى لهذا الكون، لذلك لم يكن من الصدفة أن يقضي رسول الله r بمكة ثلاثة عشر عامًا يحدث الناس عن قضية العقيدة، ويربي أصحابه على تجريد التوحيد، ورسخ في قلوبهم المعرفة الحقة بالله تعالى التي تقتضي الاستسلام التام له، والطاعة المطلقة له، وعدم التقديم بين يديه، والرضا والتسليم بقضائه ([3]).
هكذا رسخ القرآن الكريم في قلوب الصحابة y العقيدة الصحيحة بهذا المفهوم، وآتت تربية الرسولr لأصحابه ثمارها المباركة في هذا الجانب، فلم يحتكموا إلا لله، ولم يطيعوا ويتبعوا أحدا على غير مرضاة الله، ولم يوالوا ويعادوا إلا في الله، ولم يستغيثوا ويستعينوا إلا بالله، إلى غير ذلك من حقائق ومعاني هذا الأصل العظيم الذي قرره القرآن الكريم والسنة النبوية في الفترة المكية ([4]).
وبعد تربيتهم على هذا التوحيد الخالص انتقلت إلى أمور عقدية أخرى، كالإيمان بالملائكة والرسل واليوم الآخر والحساب والجزاء والبعث والنشور، والقرآن ينزل في كل مرحلة يبين مقتضياتها والمطلوب فيها.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد علي الصلابي: لقد رسم لنا النبيr منهجا متميزا في تربية الأفراد على معاني الربانية وتحمل أداء رسالة رب البرية، وكانr مهتما ببناء القاعدة الصلبة وتربية أتباعه على معاني العقيدة الصحيحة، فقد حرص r منذ اليوم الأول من بعثته على أن يعطي الناس التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم، واستقامت فطرتهم ([5]).
وهكذا بدأ النبيr يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله، وظل r معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورهم ورسالتهم في الأرض. وتأثرا بتربيته الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم، وما في طاقتهم دون فتور أو توان، ودون كسل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع في مغنم أو جاه إلا أداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة ([6]).
وبذلك الإيمان القوي والعقيدة الصحيحة، وبتلك الصورة الناصعة آتت العقيدة ثمارها المباركة في مواقف الصحابة وهديهم؛ فلم يخشوا إلا الله، ولم يتوكلوا إلا عليه، ولم يلتجئوا إلا إليه، وصدعوا بالحق في وجه الباطل لا يخافون لومة لائم؛ لأنهم علموا حق العلم أن كلمة الحق لا تقدم أجلاً ولا تؤخر رزقا ([7]).
تلك إذن، هي العقيدة الصحيحة التي تربى عليها الصحابة الكرامy في حضن الصحبة النبوية، والجماعة المؤمنة طوال ثلاثة عشر عامًا في مكة، فكانت نتائجها باهرة، وشجرتها طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
ت)-ذكر الله : عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ في طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ، فَقَالَ: p سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَi. قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: pالذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ i»([8]).
وعليه، فإن ذكر الله هو الكيمياء الإلهية والعلاج الرباني والدواء القرآني لأمراض النفس البشرية، به تزكى النفوس وتحيى القلوب وتسمو روحانية العبد.
فذكر الله تعالى هو تذكره، في استحضار جلاله، وعظمته، وقُدرته، وكل ماله –سبحانه- من صفات الكمال والجلال... ([9])، فبالذكر يرتفع الإنسان عن هذا العالم الترابي، وعن حطام الدنيا الفائت، ذلك أن الداء الذي يغتال أَمْنَ الناس، ويَقُضُّ مضاجعهم –ما يدخل عليهم من هموم الدنيا، وما يشغلهم من توقعات الأمور فيها.. وإنه لا دواء لهذا الداء، إلا باللجوء إلى الله، والفرار إليه، وتذكر سلطانه المبسوط في هذا الوجود، وأمره القائم على كل موجود ([10]).
وهنا أود أن أشير إلى أن الإكثار من ذكر الله، يُفيض على الذاكر أنوارا من جلال الله وبهائه، وإذ هو في حمًى عزيز لا ينال، وفي ضمان وثيق من أن يهون أو يذِلّ لغير الله الواحد القهار.. ([11]).
ولهذا قام النبي r بتربية أصحابهy على ذكر الله تعالى والإقبال عليه، فزكى أرواحهم بأنواع العبادات والطاعات، كالتهليل والتسبيح والتحميد، وقيام الليل، ، والصلاة –فرائض ونوافل- وتلاوة القرآن، ومجالس الإيمان، والتأسي بأذكاره ودعواته r، والدعاء بآدابه، والصلاة على النبي r، والتوبة والاستغفار، والخوف والرجاء، وذكر الموت، ومكارم الأخلاق، حتى تطهرت نفوسهم من أدرانها واتصلت بخالقها.
وذكر الله تعالى هو مصب نهر الإيمان ومصدر نوره، وهو الوقود والزاد الذي يرفع الهمم ويشحذ الذمم نحو المعالي، ويطمئن القلب، قال الحق جل ذكره:﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾([12]).
([1]) ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، سفر الحوالي، ص53.
([2]) منهج النبي r في الدعوة، الدكتور محمد أمحزون، ص26.
([3])منهج النبي r في الدعوة، ص33.
([4]) منهج النبي r في الدعوة، ص29.
([5]) فقه النصر والتمكين، ص241.
([6])فقه النصر والتمكين، ص244.
([7]) منهج النبي r في الدعوة، ص23.
([8]) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب الحث على ذكر الله تعالى، ح6808.
([9]) التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، 3/110.
([10])التفسير القرآني للقرآن، 3/113-114.
([11])التفسير القرآني للقرآن، 3/115.
([12]) سورة الرعد: من الآية28.