الصيغة السردية في روايتي " إعترافات حامد المنسي" و"الروابّي الجميلة" للروائي الجزائري الأزهر عطية. بقلم عباد عبلة
تعد الصيغة من مكونات الخطاب الأكثر تعقيدا وثراء، والتي تعددت حولها الأبحاث بحيث كانت الإنطلاقة الأولى لها من التمييز التقليدي بين المحاكاة Memesis والحكي التام Diegesis، ثم تقسيم النقد الأنجلو- أمريكي، الحكي إلى عرض Showing، وسرد Telling ، لكن هذه الأبحاث لم تكن تميز بين الصيغة Mode، والصوت voix، إلى أن جاء "جيرار جينت" وميز بين المفهومين، فالصيغة هي: « إسم يطلق على أشكال الفعل المختلفة التي تستعمل لتأكيد الأمر المقصود، وللتعبير عن وجهات النظر المختلفة التي ينظر منها إلى الوجود أو العمل »(1).1/- أنماط الصيغة السردية:تتمثل أنماط الصيغة حسب تقسيم سعيد يقطين في سبعة أنماط وهي : (2)
أ- صيغة الخطاب المسرود: هو خطاب يرسله المتكلم إلى المتلقي سواء كـان مباشرا أي( شخصية) أو إلى المروى له في الخطاب الروائي.
ب- صيغة المسرود الذاتي: ويتمثل في الخطاب الذي يتكلم عنه المتكلم عن ذاته، أو عن أشياء حصلت له في الماضي.
جـ- صيغة الخطاب المعروض: هو أن يتكلم المتكلم إلى المتلقي مباشر، ويتبدلان الحوار دون تدخل الراوي.
د- صيغة الخطاب المعروض الغير المباشر: ويكون أقل مباشر من المعروض المباشر،حيث أن الخطاب يكون معروض لكن يتدخل الراوي في الخطاب ويشير إلى المتلقي غير المباشر.
هـ- صيغة المعروض الذاتي: وهو يشبه الخطاب المسرود الذاتي، لكن يختلف عنه قليلا في الفترة الزمنية، أي أن المسرود الذاتي يكون فيه المتكلم يحاور ذاته عن أشياء حصلت في الماضي، أما المعروض الذاتي نجده يحاور ذات عن فعل يعيشه في الحاضر وهو ينجز الكلام.
و- صيغة المنقول المباشر: ويتمثل في نقل معروض مباشر، من طرف المتكلم، وهذا المتكلم ليس بالمتكلم الأصلي، وينقل الكلام كما هو دون تغيير.
ي- صيغة المنقول الغير المباشر: وهو مثل الخطاب المنقول المباشر، لكن هناك فرق حيث ،أن المتكلم الناقل للكلام لا يحتفظ بالكلام الأصلي، فيقوم بنقله على طريقته أي بشكل خطاب المسرود.
من خلال الأنماط السابقة قمنا بتحليل الروايتين و إستخراج منها أهم الأنماط الصيغة السردية التي تحتويها وتتمثل في :
* الخطاب المسرود: يهيمن على رواية " إعترافات حامد المنسي" الخطاب المسرود وهو خطاب يتم مباشرة، يقوم به " حامد المنسي" بسرد الرواية؛ أي أن البطل "حامد المنسي" جعل منه الروائي " الأزهر عطية" الشخصية الرئيسية ليروى سيرته الذاتية على لسانه،وأخذنا من الرواية بعض من الأمثلة وهي:« ولكنني حامد المنسي، الذي يعيش ما تعيشون، و يعترف، وأنتم لا تعترفون وفي إعترافاتي هذه ستجدون شيئا مني، وشيئا من أنفسكم »(3).
« كلما جلست لأسجل شيئا في هذه المفكرة، تراودني كثير من الأشياء، منها ما أراه صالحا للتسجيل فأسجله، ومنها ما أراه غير صالح لذلك، فألقيه وأدحرجه إلى هوة النسيان»(4).أما في هذا المقطع يسرد لنا حامد المنسي قصة طفولته، وكيف كان يدرس فـي الجامع،«كنا نجلس متحلقين في نصف دائرة، مكونين شكل هلال، يتوسطه الشيخ ويقابله، وقد أسند ظهره إلى الجدار مقابلا لنا ومقابلا للباب،(...) هو (الطالب) بعمامته البيضاء، وبعصاه الطويلة من شجرة زيتون مباركة، ووجهه المنير بنور العلم،(...)ولكننا جميعا نجلس على الحصائر، ونمسك بأيدينا ألواحا نقرأ ما كتب عليها بخط مغربي أسود، وبصوت يجب أن يكون مسموعا جدا، وإلا فإن عصا الشيخ تلهب الرجل، أو الكتف، أو أي مكان آخر تقع عليه بدون إستئذان »(5).
من خلال هذه المقاطع سرد لنا حامد المنسي الطريقة التي كان يتعلم بها في الماضي. أما في رواية " الروابّي الجميلة " هي أيضا يغلب عليها طابع الخطاب المسرود، حيث يقدم لنا الراوي سردا مفصلا عن شخصية البطل ألا وهو " عمار العريان"، و وصف الوضع الإجتماعي والمكان الذي يقتن فيه . ومن بين الأمثلة المستوحاة من الرواية:« وحل، ذات يوم، صيف من أصياف تلك القرية. وحلت معه أشياؤه الخاصة؛ الحر والسماء الصافية، وأغاني الحصاد والدرس، والسمر الليالي. وإنتبه الأطفال ، ذات يوم،إلى رجل قوي العضلات، كثيف الشعر، طويل القامة، حاد النظرات. مخيف، ولكنه هادئ جدا وتائه في كثير من الأوقات. »(6).
فتتميز الرواية بتقديم الراوي في بداية الفصل الأول، ويترك باقي السرد إلى بطل الرواية "عمار العريان"، ومن بين الأمثلة علي ذلك:« حدثنا العريان عن نفسه، فقال: كانت لنا قطعة أرض صغيرة، أغلبها جبلي، ولكنها كانت جميلة جدا، وقليلها كان يمتد سهلا وسخيا جدا، وكان لنا فيها بيت بسيط ولكنه متين البناء، جميل الشكل والموقع»(7).
« كان الأب منشغلا بالسهر على الأرض الباقية، يعطيها كل جهده ورعايته، حتى صار جدي لا يرى فيه إلا صورة من صور جدنا الأكبر، ويقول عنه، باستمرار، إنه بإمكانه أن يحقق حلمه في عودة الأرض الضائعة، وكانت الأم منشغلة دائما بالسهر على البيت(...)هكذا كانت الأم، وهكذا كان الأب. أما الجد، فقد كان منشغلا بحكاياته عن الأرض(...)وبين هؤلاء جميعا، كنت أعيش حياتي. أذهب إلى الكتاب، أو أرافق جدي في جولاته القصيرة بين تلك الروابي، وفي باقي الأيام، أرافق أحد الرعاة »(8).
نلاحظ من خلال هذه المقاطع، أن عمار العريان يسرد لنا حياته التي كان يعيشها في الماضي مع عائلته، و الدفئ والحنين الذي كان يمتلكه في الماضي عكس الحاضر.
* صيغة المسرود الذاتي: تتمثل في محاورة الشخصية لذاتها ،و إسترجاع ذكريات من الماضي ومن هذه المقاطع :« في اليد ممطرة، وفي الذاكرة أشياء أخرى، متفرقة ولا حصرلها، والرجلان تدبان كدبيب النمل الأسود. و عندما أتذكر النمل الأسود، أتذكر جدتي التي كانت تكشف لي أسرار الحيوانات كانت تقول لي: - النمل الأسود عربي، لذلك تراه يكد ويشقى باستمرار. أما النمل الأحمر فهو رومي،ولذلك تراه رشيقا، أنيقا، خفيف الحركة»(9).
وفي مقطع أخر « عندما رأيت الزاوش في قفص جميل، معلق في شرفة حدة، تذكرت أيام الطفولة، وتذكرت الريف، و الفزاعات التي كان يصنعها الفلاحون في شكل إنسان،ثم يثبتونها في الحقول ليبعدوا الزاوش من مزروعاتهم. وتذكرت كيف كنت أصطاد هذا النوع من الطيور، وكيف كنت أفسد بيضه، و أعشاشه، بطريقة همجية وبريئة.كان أبي ينهاني كل يوم عن إصطياد العصافير، عدا الزاوش الذي كان يردد فيه مقولته المشهورة: - الزاوش. من تسعة رهط، يفسدون في الأرض لا يصلحون»(10).
أما في هذا المقطع نجد حامد المنسي يسرد لنا حادثة وقعت له في طفولته « لقد حدث ذات مرة أن أخذتني جدتي العظيمة معها إلي الحقل حيث كانت تتبع آلة الحصاد، لتلتقط سنابل القمح الساقطة منها. كانت قد أجلستني تحت شجرة زعرورة هناك، وذهبت إلي شغلها. ولما أنهت عملها عادت إلي المنزل، وهناك فقط تذكرت أنها نسيت بشرا كاملا تحت شجرة الزعروره ومرة كنت أمر بجانب جماعة من العمال، فداعبني أحدهم بأن وضعني داخل برميل فارغ، ثم عاد إلي عمله، ولما أتعبتني حرارة الشمس داخل البرميل وأسكرتني، نمت. ثم استيقظت، و بلت، ولكنني لم أبك. ولم أصرخ. وبالصدفة مر عامل آخر بجانب البرميل فرآني، وأخرجني بعد أن ضحك كثيرا لمنظري في ذلك البرميل»(11).
هذا السرد المفصل للحوادث التي كانت تقع لحامد المنسي، فكل شعور جميل أو محزن يجعله يتذكر كل ما مر به وفي قوله « إنني أذكر الآن مثل هذه الحوادث الطريفة، وهي كثيرة، كلما داهمني النسيان، وأوقعني في مواقف محرجة أمام الناس»(12).
أما في رواية "الروابّي الجميلة" نجدها غنية بصيغة المسرود الذاتي هذا من خلال شخصية عمار العريان فكل الأحداث تدور حوله ومن بين الأمثلة على ذلك: يسرد لنا عمار العريان في هذا المقطع، قصة طفولته مع صديقه شيهوب « سيظل شيهوب يسكن الذاكرة ويسكن القلب إلي الأبد، وإنني لأتعذب كثيرا كلما تذكرته، كنت أرى في البداية (شيهوب) من بعيد، فكان يثيرني، وأراه ليس كباقي الأطفال الذين أعرفهم، أو أراهم. ثم صرت أسمعه وهو يعزف(...) كان يعجبني عزفه وغناؤه. ومن الإعجاب جاءت الصداقة. ثم صرت أجتهد كثيرا لأتعلم العزف مثله، وأتعلم الغناء. »(13).
أما في هذا المقطع يستحضر ذكريات ماضيه وهو يتسأل مع نفسه « فأسأل نفسي حينها:- مـاذا لو كان شيهوب وسط هذه الحلقة؟ ماذا لو ردد بصوته الجميل هذه الآيـات؟ و ماذا لو رافقته أنا بعزفي؟ ماذا لو فعلنا كل ذلك بحضرة شيخ الكتاب؟»(14).
فكل واحدة من الأمنيات التي يتذكرها عمار لها سؤال في نفسه، لو يرجع الماضي لكي يحقق ما كان يحلم به مع صديقه " شيهوب"، الذي ترك له أعز الذكريات مهما كانت ظروفه قاسية إلا أن بعض الذكريات الجميلة تجعله يسعد ولو دقيقه من إستحضاره لتلك اللحظات التي عاشها في طفولته بين أحضان أسرته، وبرفقة أعز الأصدقاء.فالصيغة السردية الذاتية جاءت كتساؤلات عن ماضي لا يمكن أن يعود، ولكن ممكن أن يستحضر في أي وقت عبر ذاكرة عمار العريان.
* صيغة الخطاب المعروض: هذه الصيغة قد نجدها قليلة في الروايتين، ففي رواية "إعترافات حامد المنسي" نجد أن أسلوب العرض قليل لأن شخصية حامد المنسي هو ذاته لا تعامل مع الناس فهو يحب الوحدة والإنفراد في نفسه، وقد لمسنا بعض من المقاطع الحوارية أهمها:-« و في مدة ساعتين كاملتين، و قطع مالا يقل عن مائة وثلاثين كيلومتر، لم أقل شيئا، ولم تقل شيئا. ولكنني لاحظت أنها تريد شيئا، ثم إبتسمت وأمالت رأسها قليلا جدا نحوي: - لو سمحت، نتبادل الأمكنة. تعبت. أريد أن أتكئ قليلا، إذا كان هذا لا يزعجك.- رددت على ابتسامتها بإبتسامة، وحركت رأسي بدليل الموافقة.- ما اسمك؟ - وقلت، وكنت صادقا جدا:- المنسي. إسمي حامد المنسي.إعتدلت في مكاني، ونظرت إليها: - ألم يعجبك هذا الإسم :لا، إسم جميل ، لكنه يثير الشفقة. لذلك فهو لا يتلاءم مع شخصيتك.(...) – مسحت بيدي على وجهي، مثلما تفعل القطط، لعلني كنت أتوضأ لصلاة مفاجئة.- لم أطلب شفقة في حياتي أبدا. ولكن منك سأقبلها بكل سرور. »(15).
فهذا المقطع يمثل الخطاب المباشر بين حامد المنسي والمرأة الجميلة في الحافلة، لكن عبر إستفزازاته لها بنظراته الحادة التي لاتفارق جمالها الرائع، جعلها تتكلم، فهذا الخطاب لم يرجع لحامد المنسي بالفائدة، لكن مهما كان يبقى بالنسبة إليه شعور رائع يتذكره كلما راوده وهو يسبح بخياله لا نهاية له .وفي موقف أخر وهو يتحاور مع أحد طالباته: « رفعت الطالبة من وسط القسم يدها تريد كلاما. نظرت إليها، ثم أذنت لها بالكلام, إبتسمت، و إحمر وجهها خجلا، ثم قالت:- أرجوا المعذرة يا أستاذ، أنا المسؤولة عن كل ما حدث .كنت أقول لزميلاتي، إنه بإمكاننا أن نقارن نظام الأديرة بنظامنا في هذه الثانوية.- ما إسمك يا آنسة ؟- إسمي وناسة »(16).
أما هذا المقطع يبين الحوار الذي دار بين حامد المنسي ومديرة الثانوية: « كانت جالسة إلى مكتبها وهي تخط على ورق أمامها، أو تتظاهر بذلك. وعندما دخلت،رفعت رأسها ونظرت إلى، ثم أشارت إلى تلك الأشياء الجميلة في الركن، وقالت بنبرة فيها إنفعال، وحزم، وتكلف:- تفضل يا أستاذ.- فهمت اللعبة، فإتسع صدري، وبدأ الإنتشاء يحركني.- شكرا سيدتي، تعرفين أنني لا أدخن. أما الحلوى فنعم. إنه شيء جميل، ولكن ما المناسبة سيدتي؟.- إحمر وجه السيدة، ثم إصفر، ثم بدأ يسود، ويتلون بألوان لم تخطر على بالي، ولا وقع عليها بصري في يوم من الأيام. - هدية من وناسة.- لي، أم لك، أم لنا جميعا؟- لنا جميعا.أدركت أنها فهمت لعبتي، مثلما فهمت لعبتها من البداية. لذلك أردفت وأنا أتظاهر بالعفوية:- أرجوا أن يحضر الجميع سيدتي. »(17).
فهنا الخطاب المعروض المباشر، يكشف عن مدى إعجاب وناسة بأستاذها حامد المنسي،وقد كان هناك تمازج في الحوار النفسي والمباشر تجد حامد المنسي يتكلم مع ذاته ومع المديرة في نفس الوقت.أما في رواية "الروابي الجميلة"، نجد بعض من الأمثلة في الخطاب المعروض المباشر وتتمثل في:« إنه الباب يطرق فجأة، يعود العريان من رحلته وقد تخلى عن كل ما كان يحمله. ينهض والعصا في يده. تمتد يده إلى الباب يتمهل لحظة.- من ؟- عاشور.إفتح يا عمار . أنا عاشور.يفتح الباب.- هذا أنت. ما الأمر ؟- كنت عائدا من القرية . إنتهت السهرة. غلبتهم . عريتهم ماتركت لهم شيئا. ولكن الخوف لاحقني في الطريق. لقد إمتلأوا غضبا، ولذلك قلت في نفسي عمار يحل المشكل.فخرجت عليك، وطرقت بابك في هذا الوقت من الليل. موهت كل إتجاهاتي، ثم سلكت طريقا لا يخطر على بالهم أبدا. إنني أحمل معي أكلا، و شرابا كذلك. تفضل نتعشى، إنه يوم ممنون.- الأكل نعم. أما الشراب أشاركك فيه. عندى شاي منعنع. بالأمس كان البسكري هنا معي»(18).
وفي مقطع آخر وهو يخاطب صديقه الحشايشي:« إلتفت إلى يميني، وتصورت أن الحشاشي يدرك ما أنا أفكر فيه. ولم أدر كيف قلت له:- فعلا، إنهم كذلك. ذلك هو الفرق الوحيد بيني وبينهم.- ماذا تقول؟- أقول إن الفرق بيني وبينهم هو الإستسلام. هم إستسلموا، وأنا لم أستسلم بعد.- عمن تتحدث؟- أتحدث عن الأموات. عن هؤلاء الذين صرنا نزاحمهم حتى في قبورهم.- لا أعتقد أنك تخشاهم، كما لا أعتقد أنك تشفق عليهم. ولكن يبدوا أنهم حركوا فيك كوامن الحزن الخفية. إنك تدرك جدا أنهم لا يخيفون، وتدرك أيضا أنهم مستريحون»(19).
و نستخلص مما سبق، أن الخطاب المعروض المباشر من طرف الشخصيات الموظفة داخل النص الروائي.
* صيغة الخطاب المعروض الغير المباشر:وهو مثل الخطاب المعروض المباشر، لكن يختلف عنه قليلا في أن الراوي يتدخل في الخطاب ويشير إلى المتلقي بطريقة غير مباشرة، كما عرفته (آن بانفيلد- Ann Banfield ) « فإن الخطاب غير مباشر Discourse indirect يحفظ ذلك التضاد بين صوتي الراوي والشخصية، إذا ما إستدعينا لغة والاس مارتن»(3)؛ أي أنه يقوم الراوي بتمثل صوت الشخصية والنطق بلسانها، حيث تحيل الضمائر كلها إلى صوت شخصية غائبة حاضرة في الخطاب.ومن بين المقاطع التي أخذنها من الروايتين:« إنه عمي صالح- ماذا قلت له، وماذا قال لك يا منسي؟- قلت له ما يقوله كل شخص يفاجئه آخر، ويوقظه من نومه ويخرجه من دائرة القلق،والغضب المقيت »(20).
وفي حواره مع جدته بطريقة الخطاب المعروض الغير المباشر:« وقد سألتها مرة عن الماء وهو يغلي ماذا يقول ؟ نظرت إلى ولم تبتسم، كعادتها، ثم قالت: مـن السماء هويت وفـي الأرض مشيـت العمـود اللي سقيـت بـه إنكويـت »(21).
فنلاحظ من هذه المقاطع، أن الخطاب المعروض غير المباشر جاء في النص الروائي،قليل إلا في بعض الصفحات من الرواية.
* صيغة المعروض الذاتي:و يتمثل في أن الشخصية تحاور نفسها لكن في أمور وقعت لها في الحاضر، ومن بين الأمثلة المستوحاة من الروايتين: يبين لنا هذا المقطع الحوار الذي دار بين حامد ونفسه وهو يراقب جارته حدّه : « أعرف يا حدة أنني لو حدثتك، لوجب على أن أصمد أمامك مدة لأسمع منك نشرة أخبار مطولة،قد لا تنتهي إلا بإنسحابي منهزما في نهاية الأمر. ولذا فإنني أتجاهلك مرغما. فمعذرة يا حدة إنني الآن منشغل عنك بأشياء أخرى، بطائر يرفرف فوق أجواء مدينة محاصرة من كل الجهات، يحاول إكتشاف أسرارها وخفاياها ولكنه لا يحاول الإقتراب منها»(22).
فهنا حامد المنسي يحاور حدة ولكن دون أن تعلم، فهو خطاب معروض ذاتي، يخاطب الطرف الثاني دون أن يسمعه.أما في مقطع أخر: « كل شيء يهرب مني، أنا منسي فعلا. فمن يزورني الآن، ويبعد عني ألم الوحدة ؟ إن كان رجلا، سأعطيه زجاجة خمر معتقة ينتشي بها. وإن كانت إمرأة، فسأعطيها قارورة عطر من عطور الشرق. أما إذا كان خيالا فسأرسم ملاحمه في صورة ملك جميل إلى حد السحر. - وهل الملك إمرأة، أم رجل ؟ .- سأرسم وجهه فقط .أعلق الرسم في غرفتي ليحاورني وأحاوره، ويخرجني من دوامة النسيان المرأة التي تلاحقني»(23).
كما في قوله أيضا « قلت ذلك في نفسي، ولنفسي فقط. إذ ليست هذه المرة الأولى التي يحدثني فيها ولد علي بمثل هذا الكلام. ولكن كلامه في هذه المرة أثارني أكثر من ذي قبل، ولذلك رحت أفكر في كثير من الأشياء، بينما أكمل هو طريقه بمحاذاة البحر»(24).
أما في رواية الروابّي الجميلة نلتمس بعض من المقاطع:« قوة هائلة. عضلات مفتولة، لن يكون هذا الحداد أقوى مني، سأملأ بابه وسأفاجئه. سيقول لي، نعم. لن يقول، لا. أبدا، لن يقولها. وسأطرق الحديد بالحديد. سأنفث نارا من فمي، سيتحول جسدي كله إلى كتلة من النار الملتهبة فأين أنت أيها الحداد ؟ أين المطرقة ؟ وأين السندان ؟ أين الحداد ؟ أسرع إلى بكل ذلك. إنني أريد أن أتنفس،وأنفث غضبي، وأن أستريح. إنني أنا المارد الذي لا يقهر »(25).
هذه مجموعة من المقاطع للخطاب الذاتي التي يحاور فيها عمار العريان نفسه، ويهيئها للحوار الذي سيحصل بينه وبين الحداد .وفي قوله أيضا « هو ذا الأسبوع يكاد ينتهي الأجل الذي حدده لي ذلك اللعين، وأنا مازلت لم أعرف ما أفعله بعد. ولست أدري ماذا سيحدث بعد ذلك؟ فأنا لم أجد حلا حتى الآن، ولم أستقر على رأي. لقد فكرت كثيرا، وأجهدت نفسي ليلا ونهارا. أمشي وأفكر،وأعمل وأفكر، وأنام وأنا أفكر. إنها اللعنة تلاحقني أينما حللت، وحيثما تحولت،وقد ضاق الرأس، وضاق الصدر، وضاقت النفس، مثلما ضاقت هذه الأرض بما رحبت»(26).
هذا الخطاب المعروض الذاتي، كشف لنا عما يمر به عمار العريان من ظروف قاسية في عيشه، وأصبح يفكر بأي طريقة تخلصه من بطش هذا المزارع ،الذي سيطرده من الكوخ،فإن الخطاب وصف لنا الحالة النفسية المؤلمة، التي يمر بها من خلال وضعه الإجتماعي.
* الخطاب المنقول المباشر: قد نلمس في الروايتين بعض المقاطع من صيغة الخطاب المنقول المباشر، فهو ليس موظفا بالطريقة الكافية التي يجب أن يكون فيها. ففي رواية " إعترافات حامد المنسي" إنتقينا بعض من الأمثلة:يسرد هذا المقطع قصة عوج بن عناق الذي كان يضرب به المثل في عهد النبي موسى عليه السلام وفي قوله: « أن عوج بن عناق، كان عندما يجوع، يقف في أعلى رابية مطلة على قرية ما، مثلما أقف أنا الآن، ثم ينادي بأعلى صوته :- إنني جائع يا من حان هلاكهم. »(27).
هذا هو قول عوج بن عناق، وقد نقله الأزهر عطية بالحرف الواحد دون أي تغيير.وفي نقله لمقولة طارق بن زياد الشهيرة: « العدو أمامكم، والبحر من ورائكم »(28).
أما في مقطع أخر، ينقل لنا بيت شعري من التراث الشعبي من قول جدته العظيمة: مـن السماء هويت وفـي الأرض مشيـت العمـود اللي سقيـت به إنكويـت »(29).
أما في رواية "الروابّي الجميلة" إنتقينا منها مقطعا سرديا يتمثل في نقل عمار العريان نداء البراح في زجله، وهو ينادي في الأسواق، ضاربا بكل قوته على طبله الكبير: « يـا تجيب أسنانـك ذهـب وا لا تجـيب رجـليك حطـب»(30).
* الخطاب المنقول غير المباشر:وهو مثل المنقول المباشر، ولكن الخطاب الذي ينقله المتكلم الغير الأصلي، بطريقته أي الخطاب المسرود.ففي رواية إعترافات حامد المنسي ،نلمس بعض من المقاطع للخطاب المنقول الغير المباشر، وهي:ينقل لنا حامد المنسي خطاب شيخ العرب، وهو حارس المقبرة القديمة، « يثبت أمامك في الطريق شخص بقامته المتوسطة، ولحيته البيضاء، وعلى الرأس عمامة بيضاء، جزء منها يلتف حول الرأس،(...) يتحرك على الرصيف المار عند أسفل المقبرة القديمة،النائمة هناك كما ينام أهلها. لا يكلم أحدا ولا يكلمه أحد، ولكنه يكلم نفسه،(...)ثم يضرب بعصاه الأرض مرة أو مرتين، أو يلوح بها في الهواء، مهددا ومتوعدا:- بالحرام نقص لكم وذنيكم، كما كان يفعل شيخ العرب في الصحراء ... نركبكم كما البهائم، ياطحاحنة، يا مقملين....أنا هو شيخ العرب في هذه المدينة...ندير سبحة بوذنيكم يا أولاد الحرام»(31).
و في مقطع أخر، ينقل لنا حامد المنسي قصة آدم عليه السلام لكن بطريقة الخطاب المسرود « عندما أكمل الله خلق آدم من طين ذات ألوان كألوانك هذه، إستوي على عرشه وقال: ها قد سويته، ونفخت فيه من روحي. لكن آدم عصى ربه. كان إبليس سببا، وكانت حواء واسطة بينهما.أخرج آدم حواء من ضلعه، ولكنها أخرجته من جنته. فهل مازالت حواء واسطة تمارس لعبتها ؟ »(32).
أما في رواية الروابي الجميلة إستخلصنا بعض من المقاطع حول الخطاب المنقول الغير المباشر:ينقل لنا عمار العريان كلام شيخه: « ولكن معلم القرآن قال لنا ذات يوم: - إن رعي الغنم كانت حرفة الأنبياء »(33).
ومن خلال ماسبق، نرى أن خصوصية الصيغة في المتن الروائي، وما رأيناه حول الزمن نكتشف أن أهمية الصيغة كمكون خطابي، يعمل على تجسيد خصوصية الخطاب السردي وبنياته، لكن أيضا تساعدنا على التدقيق تصورنا حول الأنواع الأدبية وحول تاريخ الأدب، فقد تعددت الصيغ السردية داخل النصين الروائيين، هذا ما جعلهما يكتسبان طابع مميزا من بين النصوص الأخرى .
(1)- مصطفى منصوري . الصيغة السردية في النقد العربي الحديث من كتاب النقد العربي المعاصر المرجع والتلقي، ملتقى بالمركز الجامعي خنشلة 22/23 مارس 2004، ص: 114 .
(2)- عمرو عيلان. الإيديولوجيا وبنية الخطاب الروائي، منشورات جامعة قسنطينة، 2001،الجزائر، ص: 106.
(3)- الأزهر عطية. إعترافات حامد المنسي، وزارة الثقافة،ط2 ،الجزائر،2007، ص:7 .
(4)- المصدر نفسه، ص:119.
(5)- المصدر نفسه، ص:36.
(6)- الأزهر عطية .الروابّي الجميلة، وزارة الثقافة، ط2 ، الجزائر، 2007 ، ص:11 ، مج :144 .
(7)- المصدر نفسه، ص:18.(8)- المصدر نفسه ، ص:36.
(9)- الأزهر عطية. إعترافات حامد المنسي، ص:22.
(10)- المصدر نفسه، ص:54.(11)- المصدر نفسه ، ص:36.
(12)- الأزهر عطية. إعترافات حامد المنسي، ص:22.
(13)- المصدر نفسه، ص:54.
(14)- المصدر نفسه ،ص:36.
(15)- المصدر نفسه، ص:78.
(16)- الأزهر عطية .الروابّي الجميلة، ص: 19.
(17)- المصدر نفسه، ص: 21 .
(18)- الأزهر عطية. إعترافات حامد المنسي، ص:21.
(19)- المصدر نفسه ، ص:81 .
(20)- المصدر نفسه ، ص:85.
(21)- الأزهر عطية .الروابّي الجميلة، ص:54.
(22)- المصدر نفسه، ص:71.
(23)- عبد المجيد محمد شحات. الخطاب الروائي في روايات البساطي، مجلة الكرمل، فصلية ثقافية، رئيس التحرير محمدو درويش ، تصدر عن فلسطين، ع: 64، صيف 2000، ص: 137.
(24)- الأزهر عطية. إعترافات حامد المنسي، ص:176.
(25)- المصدر نفسه، ص:187.
(26)- المصدر نفسه، ص:50.
(27)- المصدر نفسه ، ص:68.
(28)- المصدر نفسه، ص:142.
(29)- الأزهر عطية .الروابّي الجميلة، ص:37.
(30)- المصدر نفسه ، ص:61.
(31)- الأزهر عطية. إعترافات حامد المنسي، ص:27.
(32)- المصدر نفسه، ص:110 .
(33)- المصدر نفسه، ص:187 .
(32)- الأزهر عطية .الروابّي الجميلة، ص:99.
(33)- الأزهر عطية. إعترافات حامد المنسي، ص:62.
(34)- المصدر نفسه ، ص:204.
(35)- الأزهر عطية. الروابي الجميلة، ص:76.