مقدمة:
لا تهدف هذه المقالة إلى تأصيل الأدب الإسلامي أو الخوض في شروطه وسماته وعوامل نهضته وازدهاره، فكل هذا واقع محسوس لمن أراد أن يرى، ولا عذر لجاهل، ولا حجة لواهم وإنما نتغيا بيان أهم القضايا التي تتصل بالأدب الإسلامي (دوره في الصراع، مفاهيم أساسية، مذهب الإسلام في التعبير، الجمال في التصور الإسلامي، الصلة بين الأديب والعقيدة، علاقة الأديب الإسلامي بالوجود من حوله، مجلية بعض الشبهات التي أثيرت حول هذا الأدب).
الأدب الإسلامي ودوره في الصراع:
يعد الأدب في كل أمة مرآة فكرها وحياتها، ومنبعا من منابع حيويتها وطاقاتها، وقد مثل الأدب الإسلامي زمن الرسول _ صلى الله عليه وسلم_ سلاحا مقاوما في وجه الطغاة والمشركين، وكلنا يعرف شاعر الرسول (ص) حسان بن ثابت _ رضي الله عنه_ ودعوة الرسول (ص) له لنصرة الإسلام بلسانه، كما نصر المجاهدون الإسلام بأسنتهم وسيوفهم في ساحات القتال.
أما في العصر الحديث فقد غيب هذا الأدب ردحا من الزمن، ومورست ضده حملة من التضليل والتشويه، وأوصدت في وجهه معاقل النشر والتوزيع وجوبه حملته والداعون له، واتهموا بشتى التهم من رجعية وتقليد وتخلف، ولكنه عاد ليظهر بقوة في الفترة الأخيرة، وذلك يرجع في تقديري إلى عاملين:
الأول: امتداد الصحوة الإسلامية في كل بقاع الأرض حتى وصلت إلى عقر ديار الغرب، وأصبح ينظر إلى الإسلام النظرة الفكرية المتعمقة، فأدركوا أن لا مجال لاجتثاث هذه الصحوة، ومن هنا جاء الأدب الإسلامي حاملا طبيعيا ومعبرا عفويا تلقائيا عن هذه الصحوة المتنامية.
الثاني: فشل الآداب الأخرى في التعبير عن الإنسان والكون والحياة التعبير المتوازي المتزن، بحيث أخفقت تلك الآداب في تحقيق قيمة الحياة للإنسان مما ساهم في بروز نزعة الانتحار أو الانسحاب من الحياة لثلة غير قليلة من هؤلاء الأدباء، فجاء الإسلام بأدبه وفكره دعامة ليسد هذه الثغرة في المعالجة الحسية والإدراكية والوجدانية لحاجات الإنسان وآماله وتطلعاته.
وعليه فإن الأدب الإسلامي المعاصر قد أخذ صورة من صور التحدي للموقف الحضاري الذي يريد مسخ الحضارة الإسلامية وإلحاقها بحضارات ما وراء البحار، ويمثل الأدب الإسلامي فيما يمثله القيم الإسلامية والدفاع عن الفكرة، وبث الروح الإسلامي كجبهة صراع فكري حقيقية مثلها مثل أي جبهة صراع أخرى تدور رحاها بين الغرب والإسلام، وتنبع أغلب الشبهات حول الأدب الإسلامي في أكثرها من النمطية السائدة تجاه الإسلام، حيث ترى في الإسلام نفسه مذهبا جامدا غير متطور، يحكمها الفكر العدائي المسبق حول الإسلام وأهله وأدبه.
مفاهيم أساسية للأدب الإسلامي:
1. مفهوم الأدب الإسلامي: هو الأدب الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود، فهو بذلك التعبير الجميل عن الكون والإنسان والحياة من خلال التصور الإسلامي.
2. الأديب المسلم: شخص موهوب ذو حساسية خاصة، يستطيع التقاط الإيقاعات الخفية التي لا يدركها الناس الآخرون، وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع تحويل ما يلتقط وما ينفعل به إلى لون من الأدب الجميل يثير في النفس التأثير ويحرك فيها حاسة الجمال.
3. الإبداع وكيفيته: تمر كل عملية إبداع في مراحل ثلاث وهي: الانفعال النفسي بتجربة ما واستبطان هذا الانفعال داخل النفس و ارتداد التجربة إلى الخارج في صورة تعبير أدبي له وقع خاص وناتج عن استبطان الانفعال في نفس المبدع . وهذه المراحل يمر بها أي مبدع حقيقي، بمن فيهم الأديب الإسلامي بطبيعة الحال.
ولا بد هنا من التنويه إلى جملة حقائق تتصل بالإبداع الإسلامي وهي:
· أثر القلق والأزمة النفسية في إيجاد الأدب، وبالتالي هناك علاقة ما مابين الأزمة النفسية وتطوراتها وطبيعة الأدب المنتج.
· الأدب الإسلامي منفتح على كل الموضوعات، فليس هناك موضوع إسلامي وغير إسلامي، فكل موضوعات الكون والإنسان والحياة والواقع وما وراء الواقع كلها مادة صالحة للأدب الإسلامي شريطة أن تمر في نهر الإسلام العظيم الذي يشكلها بطابعه الخاص الذي يميزها عن غيرها.
· ينبغي على الأديب الإسلامي أن لا يعيد في أدبه حقائق الكون والدين والعقيدة في شكل صياغات فلسفية وفكرية جامدة أو وعظية مباشرة، بل عليه أن يفيض من روحه ومشاعره وطريقة أدائه وكل إحساسات الجمال المودعة في النفس البشرية حتى يلتقي الفن مع الموضوع في صياغة لها تأثيرها الحسي والإدراكي على المتلقي، وحتى تظهر الأمور بصيغتها الأصلية الجمالية المتحققة في الأدب ومدى تحقيقه للعناصر الجمالية المطلقة في الأدب، والناظر في الآداب المنتشرة على بقعة الكرة الأرضية عربية أو غير عربية يرى أنها لا تنبثق من هذا التصور الإسلامي الشامل للجمال، فجل هذه الآداب منحرف بطبيعة انبثاقه من تصور خاطئ للإنسان، يرى الإنسان نصف مخلوق تشوهه المتع الجسدية والاستغراق في مستنقع الشهوة الطاحنة.
مذهب الإسلام في التعبير:
ينطلق التعبير الإسلامي من واقع الدوائر الثلاث السابقة (الكون والإنسان والحياة)، حيث يتوخى التعبير في هذا الأدب أن يعرض الواقع ويصوره جماليا لهدف وغاية، فالغاية في الأدب الإسلامي حقيقة واقعة وضرورة لازمة، بل حتمية فيه. ولكن واقعية الإسلام ليست منقوصة أو مضخمة، بل إنها تعطي لكل شيء وزنه الخاص فيه فلا يطغى جانب على آخر ولا يغيب جانب ويظهر آخر، فإنه عندما يصور الضعف الإنساني بدون تهويل تظهره بحجمه الحقيقي متوسلة من خلال هذا التصوير إظهار العنصر المقابل، وهو لحظة القوة الإنسانية المتسقة مع فطرة الإنسان ودوره في الحياة، وبالتالي فإن الأدب الإسلامي بغاياته الواضحة يريد أن ينقل الواقع إلى ما يجب أن يكون عليه هذا الواقع، لا ما هو عليه بصفته الحالية.
وقد تلتبس هذه النقطة بما يشاع عن أدب الإسلام، بأنه يعرض الأفكار مجردة حتى يتحول التعبير إلى عملية نظم مجردة من الانفعال والإحساس، وهذه فكرة ليست صائبة، فكل الأفكار التي يعبر عنها الإنسان قد يحسن الإنسان تصويرها، وقد يخفق في هذا التعبير، وهذه ليست سلبية تلصق بأدب الإسلام دون سواه، فالأدباء الواقعيون في مستهل أدب العرب الحديث قد وقعوا في هذا الفخ، وأدباء النزعة الماركسية لم يتخلصوا منه، وهذا عائد لطبيعة الأديب أولا وقبل كل شيء، وهو خاضع بطبيعة الحال إلى الأداء الفني وامتلاك الأدوات الفنية، والسمات الشخصية، وهي مختلفة ومتفاوتة عند بني البشر، ولهذا تجد التعبير الأدبي الجمالي الرائع في الأدب الإسلامي كما تجد التعبير الإسلامي الخاوي من الجمال وهذا ما لم ينج منه اتجاه أدبي أو فني.
وهنا قد يثار السؤال التالي : هل الأدب الإسلامي أدب إمتاعي؟
يحقق الأدب بشكل عام وظائف عدة، ألمحت إلى بعضها سابقا، وتبقى الوظيفة الإمتاعية هي المقصود الأول لكل أدب، إذ العقد بينك وبين القارئ تقديم أدب ممتع حتى يكون قادرا باستعداده النفسي أن يتابعك، فإن فقد الأدب هذه الخاصية فَقَدَ قيمة كبرى في أهمية التواصل مع الآخرين، ولا شك أن الأدب ينشأ من أجل إنشاء رابطة شعورية وجدانية مع المتلقي، تقوم على الإمتاع أولا، ولكن الأدب الإسلامي الذي يحرص كل الحرص على الناحية الإمتاعية فيما يُنْتِج، إلا أنها ليست هي المقصودة في ذاتها، بل إن الإمتاع في الأدب الإسلامي وسيلة لغاية أخرى، فإذا تحقق الإبداع في النص من خلال نقل الشعور والإمتاع للآخرين، لا بد أن يحقق الغايات الأخرى، فلا يتنازل الأدب الإسلامي عن الفكرة والهدف والغاية، ودون أن يتنازل كذلك عن قواعد الفن الأصيل.
ومن جانب آخر، يمتلك هذا الأدب – بفعل استناده إلى النظرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة واتصاله بالعقيدة – فاعلية خارقة في تأسيس مبادئ الحياة الصحيحة في النفس، وقادر على إثارة المشاعر في صميم النفس البشرية، فتتحول هذه المشاعر المتعددة في نفس الإنسان إلى طاقة حركية، لتدفع الإنسان في مسيرته الحياتية، وحمل رسالته الدعوية لبناء حضارة نافعة قائمة على الروح والمادة في توازن تام، وانتماء إلى المشاعر الإنسانية التي تعم المجتمع الإسلامي، وتحمل الخير لغيرها، في توافق جدلي بين الشكل والمضمون، المضمون المبني على قواعد الإسلام وأفكاره، والشكل الفني ؛ فليس هناك انفصال بين شكل العمل الأدبي ومضمونه في الإسلام، فالاتجاه العام لأداء التعبير عن قيم الإسلام لم تفصل بين قيمة الشكل وقيمة المضمون، فإن للشيء الجميل طريقا جميلا يقود إليه حتما.
الجمال في التصور الإسلامي:
ينبع الجمال في التصور الإسلامي من مظاهر الكون أساسا، التي تجمع إلى جانب المعرفة بالحقيقة المادية المشخصة الجانب الجمال بقيمة معنوية على مستوى الإبداع في الخلق والتكوين، فقد أشار القرآن إلى ذلك مستخدما صيغة جمالية تؤدي المعنى بأبعادها النفسية اللافتة للجمال في الكون، فعنصر الجمال عميق في هذا الوجود يتبدى في كل كائناته، والإنسان مطالب أن يفتح حسه لهذا الجمال ويتأثر به ليكون حافزا لحاسة الجمال المودعة فيه، فتفيض في تعبيره جمالا موازيا لهذا الجمال الكوني الرائع.
ومن خلال هذا التصور الإسلامي للجمال يلاحظ الإنسان أن أصل الخلق من مادة واحدة له إيحاءات كبرى ودلالات عظيمة، فكل ما خلق الله من كون وإنسان وحياة تشترك في أصل الخلق من عناصر مشتركة واحدة، ليجعل لهذا الخلق فكرة اكتمال الدائرة في التصور الإسلامي، فعلينا أن نلاحظ مثلا صلة الإنسان بالكون وصلة الإنسان بالحياة والعناصر الأخرى الحية وغير الحية لنرى اكتمال الدائرة حيث أصل النشأة والمصير في صلة الإنسان بخالقه.
وحرصت النظرة الجمالية في الإسلام أن يظل الإنسان إنسانا لا يرتكس إلى درك الحيوان، فيعرف دوره في الحياة، كما أراده الله، وبذلك يتحقق الجمال بمفهومه الواسع.
الصلة بين الأدب والعقيدة:
إن الصلة بين الأدب والعقيدة كصلة المؤمن بربه، علاقة دائمة لا انفصال فيها، ولا تشويش ولا اضطراب، ولذا فإنك ترى في الأدب الإسلامي قدرة متميزة في التعبير عن المبادئ والقيم بكل ما تشتمل عليه من إبداعات، ويتمتع هذا الأدب بقدرته على حسم النزاع الفكري الذي تخلفه في الناس الأطروحات المذهبية الأخرى حول المبادئ العامة للحياة والقيم الكبرى التي تقودها، وتتساوق في الإسلام حركة الأدب والفكر بحيث يلتحمان معا، فيعبر الأديب الإسلامي عن روح الالتزام بالإسلام وتعاليمه التزاما حقيقيا نابعا من شعور ديني، لا تفرضه عليه سلطة أدبية أو سياسية، أو دينية مؤسساتية، بل بمحض إرادته يرى نفسه ملتزما بالإسلام فكرا وأدبا وشعورا وسلوكا، فتتمثل في أدبه كل الملامح الإسلامية الراقية، ليخرج إلى الحياة لبنة صالحة تدعم وجود الإسلام فكرا ومنهجا على أرض الواقع.
إن ما يلفت النظر في الأدب الإسلامي تلك العلاقة القائمة بين الأديب وبين خالقه، فالأديب ينبع أدبه من علاقة وجدانية مع هذا الخالق، فالإله البارئ هو مصدر الخير والوحي، والإنسان خليفة الله المؤتمن على هذه الأرض، ومن هنا تتكامل الحلقات الثلاث (الكون والإنسان والحياة) في هذا الأدب وتشكل محورا رئيسيا فيه، فيظهر في هذا الأدب تجليات الحياة والنظرة إليها والغاية والمقصد من وجودها وعلاقتها بالإنسان وما حوله من تجليات الكون، فتتجاوز نظرة الأدب الإسلامي حدود الواقع، وتتطلع إلى ما وراء هذه الحياة الفانية من نعيم دائم، وبهذا يكون الأدب الإسلامي رجعا حقيقيا وصورة حية لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان في المفهوم الشامل القائم على المحبة والخير والعطاء. ولهذا الأدب أبعاده الإنسانية العالمية التي لا تكتفي بالظهور بالثوب المحلي أو الإقليمي، فتحارب الفئوية والحزبية والتشرذم والتقوقع، فكما أن الإسلام دين شامل كامل إنساني عالمي فإن ما ينتج عنه من فكر وأدب وتصور لا بد أن تظهر فيه هذه الخصائص، فالمتوقع من هذا الأدب أن يعطي الصورة الصادقة والثابتة عن شكل العالم وجوهره والعلاقات التي تحكمه والقوى الفاعلة فيه.
ولعل ارتباط الأدب الإسلامي بالعقيدة، يؤدي إلى اتهام هذا الأدب باتكائه على ثقافة الغيب، فإن من يطرح هذا التصور، يرى فيه شبهة وعارا على الأدب، ويكون قد ارتكز على مخلفات فكرية غربية لا تؤمن إلا بما ترى أو تسمع، أما ما لا يقع عليه البصر أو السمع فلا دخل لها به، وهذا نابع أصلا من تصور غربيّ فكريّ بأن الدين ليس له حق في رسم الحياة والتفكير من خلال مغيبات تنطلق من رحم الدين.
وبما أن الأدب الإسلامي يرتكز في مؤداه الإبداعي على الإسلام وعقيدته، فإن ثقافة الغيب هي روحه، لأنه متعلق مشاعريا وعقليا بالمغيب الذي طلب أن يؤمن به، فكيف يؤمن بالمغيبات إيمانا قطعيا جازما ثم يحاربها في أدبه؟
هذا أمر، أما الأمر الآخر، هو صحة المغيب أو عدم صحته، فإذا كان المغيب موجودا حقا فلماذا لا يكون له ركن في الأدب، فالمسلم يرى أن الغيب يحكم حياته كلها، وهذا لا يعني سلبية المؤمن بل الايجابية الفاعلة التي ترى أن العمل والجد والإخلاص لا تتنافى مع ما قدر أو غُيِّب، فهو ليس مطالبا بمعرفة الغيب وإن كان محكوما به، وبالتالي فإن ثقافة الغيب متجذرة في حركة الإسلام الفكرية، وهي سر تميز أتباعه وأدبائه ومفكريه.