كان المقال الأول عن المازني وأفردت الثاني للجاحظ وهاأنذا أعود أدراجي لأتحدث عن المازني ومارك تواين باعتبارهما من رواد الأدب الساخر الذي يمتد من الجاحظ قديماً وحتى عبد العزيز البشري حديثاً.
يقول أبو حيان التوحيدي – وهو من أعتبره أمير النثر العربي , وقد كتبت لكم مقالاً مفصلاً عنه - : " أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم." وهذا ما أشعر به عندما أقرأ للجاحظ أو المازني أو
مارك تواين.
بداية وحتى لا أقع فيما أعيب عليه الجاحظ والمازني – الاستطراد والترسل – فإني أدلف مباشرة إلى النقطة الأساسية وهي أني أعترف أن المازني قد تأثر فعلا بمارك تواين وقد تيقنت من هذا بعد قراءتي لكتاب الدكتورة الكبيرة نعمات أحمد فؤاد – شفاها الله وعافاها – "كتبت يوما في الأدب والنقد والفكر والفن" صفحة 175 تحت عنوان: الأدب الساخر بين المازني ومحمد عفيفي حيث كتبت الدكتورة كتابين عنهما وكتابا ثالثا عن عبد العزيز البشري في إطار معالجتها للأدب الساخر في العصر الحديث.
الخلاصة أن المازني نحى في كتابه:"رحلة الحجاز" منحى الكاتب الأمريكي الساخر مارك تواين في كتابه: the innocents abroad"" حيث أتبعت الدكتورة نعمات ذلك بقولها:" كان المازني قدرياً مثل توماس هاردي حيث كان يؤمن أن الإنسان لعبة في يد القدر. وعلى هذه النظرة تقوم فلسفة السخرية عند المازني."
كان عفيفي واسع الثقافة جادا في أسلوبه رغم سخريته حيث تشبهه د. نعمات ببرنارد شو الذي تحدث عنه العقاد.
وهنا أتوقف برهة لأؤيد أستاذتنا الكبيرة الدكتورة نعمات حيث أتذكر الآن الكلمة التي قالها برنارد شو فجرت مجرى الأمثال: لقد مسح إبسن بمسرح شكسبير الأرض. والحقيقة أني أرى أن برنارد شو يبالغ كثيرا لأن هنريك إبسن في رأيي أفضل من شكسبير حيث عالج إبسن حياة الناس العاديين بينما ظل شكسبير في برجه العاجي يملؤ أعماله بالعواصف والسحر والملوك والجان حتى يجذب الجمهور ولو دققت عزيزي القاريء فستفضل مثلي إبسن على شكسبير. وقد درست أيام الجامعة لإبسن مسرحيته الرائعة The Wild Duck فوجدته بالفعل ماهرا في توصيل الفكرة ومعالجة الواقع.
أوسكار وايلد هو الكاتب الأثير لمحمد عفيفي حيث ترجم عفيفي له:"the importance of being Ernest" " كل من المازني وعفيفي لهما أسلوب ساخر لكنه إنساني عليه مسحة من حزن مثل الفرنسي أناتول فرانس بعكس السخرية التي تقطر مرارة وسخطا التي يكتبها سويفت.
وفي كتاب د. لويس عوض "في الأدب الإنجليزي الحديث" يورد لنا عوض أمثلة على الأدب الساخر في الأدب الإنجليزي فيتحدث على سبيل المثال عن ثاكري 1811-1863 وأوسكار وايلد 1856- 1900 الذي كان أكبر هجَّاء في العصر الفيكتوري لكنه كان يهجو الأفعال لا الأشخاص بعكس ألكسندر بوب، بل وديكنز نفسه الذي كانت له - حسب كلام عوض - قوالب ساخرة.
المهم الآن عندي أنهم جميعا قد أبدعوا في وصف رذائل الطبقة البرجوازية بعد تصدع الرأسمالية مما كشف عن رياء هذه الطبقة التي كانت تستغل الأطفال في المصانع ثم تلزمهم بغناء التراتيل الدينية في أوقات فراغهم. والحقيقة أني درست ضمن ما درست في الأدب الإنجليزي الحديث قصيدة ماسح المدخنة "chimney sweeper" للشاعر ويليام بليك ويالها من قصيدة جميلة ورائعةٍ عبرت عن هذه الرذائل البرجوازية خير تعبير.
أقف هنا برهة لأؤكد موافقتي للويس عوض فيما ذهب إليه من أن مسرح شكسبير كان يصور الطبقة الأرستقراطية فقط بينما صور إبسن الرجل العادي ومشكلاته، حيث نجد بالفعل أن أبطال شكسبير كلهم إلا قليل من طبقة الأشراف في العصر الفيكتوري. على كل حال ربما كان شكسبير معذورا لأنه عاش بالفعل قبل الانقلاب الصناعي بزمان طويل ولم يكن هناك سوى طائفة النبلاء وقصص الملوك.
وبالطبع وكما يقول عوض فإن برنارد شو قد تأثر كثيرا بوايلد – وكلاهما أيرلندي - غير أن الأول ذو أسلوب جادٍ يوظف الفكاهة للدعوة إلى فلسفته الاجتماعية وله في أعناقنا دين كما يقول عوض حيث دافع عن مصر خير دفاع أيام محنة دنشواي عندما بسط قضيتنا في مقدمة مسرحيته "جزيرة جون بول الأخرى."
وهناك مسرحية رائعة لشو وهي "الميجر باربارا " التي كتبها شو ليعالج بها الاستخدام السيء للدين ونفاق المتدينين حيث أرود عوض منها مقتطفات رائعة وكأن شو يتحدث عن واقعنا بل الواقع المصري الحالي بالذات من اقتران السلطة بالمال على سبيل المثال.
وخلال بحثي وقراءاتي عن مارك تواين لم أجد أفضل من الكتاب الذي طبعته جامعة كمبردج لبيتر ميسينت (أستاذ الأدب الأمريكي الحديث بجامعة نوتينجهام" :"مدخل إلى مارك تواين:" حيث ألخص مما فيه ما يلي:
تواين أحد أعلام الأدب الأمريكي الحديث في القرن التاسع عشر وصاحب مغامرات هاكيلبيري فين ومغامرات توم سوير التي تأتي على قمة أدب الرحلات والمغامرات في الأدب الإنجليزي الحديث.
وبالطبع كلنا يعرف أن مارك تواين (ويعني إحدى علامات التحذير الملاحية من المياه العميقة الخطرة) اسم مستعار لأن اسمه الحقيقي هو صامويل لانجور كليمينز، وقد كان هذا دأب كتاب الكوميديا في منتصف القرن التاسع عشر.
الحرب الأهلية ونهر المسيسيبي الشريان التجاري الرئيسي في هانيبال والذي نشأ عنده تواين لهما حضور كبير في أعماله تدل عليهما عناوين بعض أعماله مثل "الحياة على المسيسيبي" وكفاحه ضد الإمبريالية والاستعمار والرأسمالية المتوحشة. غير أن شهرته الحقيقية قد بدأت مع الكتاب الذي أشرنا إلى تأثر المازني به وهو: الأبرياء في الخارج. وهذا الكتاب يفصل بداية حياته التي كتب فيها عن الرحلات حيث بيع من هذا الكتاب في عامه الأول فقط: 69156 نسخة ثم وصل الإجمالي إلى 125479 نسخة. وحتى لا أترسل هنا فأخرج عن الهدف الرئيس من المقال فإني أقول إن غرضي ليس هو سرد سيرة الأدباء فهذا أمر أظنه تافها لكني مقصدي هو ما طبقته بالفعل من أن الأدب قيمة كبيرة تكشف عن التاريخ خير كشف فأدب شكسبير الذي يختلف عن أدب إبسن يكشف لنا الكثير من هذه العصور ومرة أخرى فلو واتتكم الفرصة لتقرأو القصيدة الرائعة التي تحدثت عنها آنفا وهي : Chimney Sweeper لويليام بليك فربما تفيض عيونكم بالدمع من حال الناس وقتئذ في أوروبا التي تقدمت الآن ناهيك عن روعة القصيدة وموهبة الشاعر ولتقرأوا بأنفسكم (أقصد بالطبع من يجيد الإنجليزية لأني لا أؤمن بترجمة الأشعار):
When my mother died I was very young,
And my father sold me while yet my tongue
Could scarcely cry ‘ 'weep! 'weep! 'weep! 'weep!’
So your chimneys I sweep, and in soot I sleep.
There’s little Tom Dacre, who cried when his head,
That curl'd like a lamb’s back, was shav'd: so I said
‘Hush, Tom! never mind it, for when your head’s bare
You know that the soot cannot spoil your white hair.’
And so he was quiet, and that very night,
As Tom was a-sleeping, he had such a sight!—
That thousands of sweepers, Dick, Joe, Ned, and Jack,
Were all of them lock'd up in coffins of black.
And by came an Angel who had a bright key,
And he open'd the coffins & set them all free;
Then down a green plain leaping, laughing, they run
And wash in a river, and shine in the Sun.
Then naked & white, all their bags left behind,
They rise upon clouds, and sport in the wind;
And the Angel told Tom, if he’d be a good boy,
He’d have God for his father, & never want joy.
And so Tom awoke; and we rose in the dark,
And got with our bags & our brushes to work.
Tho' the morning was cold, Tom was happy & warm;
So if all do their duty, they need not fear harm