أعرف ابن قيم الجوزية منذ زمان بعيد برغم أني حديث السن وليس عجيباً ولا غريباً أني هِمت به وبكتاباته التي تثبت لك أن علوم الدين ليست أمرا عسيرا يستكد العقل ويستغرق الوقت. وقد قمت بالفعل بترجمة بعض كتبه ومنها على سبيل المثال "زاد المعاد" إلى الإنجليزية. في كثير من كتبه أشعر أنها بالفعل وكما يحاول أن يوضح ابن القيم نفسه ترييض للقلب قبل الذهن وتعويد له على الانقياد لخالقه وإلهه سبحانه وتعالى. قال لي أحد أساتذتي ذات مرة عندما كلمته عن إعجابي بابن تيمية وتلميذه ابن القيم: ابن تيمية تشعر كما لو أنه ملاكم في حلبة يسدد اللكمات العلمية بمنطق وحرفية عالية ويجيد الهجوم والصد والرد ومقارعة
الخصوم بالحجج والبراهين وابن القيم فراشة حالمة تعطيك كل هذا بينما تشعر كما لو كنت أنت السابح في الجو لا هذه الفراشة الحالمة. وإني أقولها لك يا قارئي: إني ما شعرت بهذا النفس الروحاني العظيم والربانية في الكتابة وعلو الكعب في اللغة العربية وعلوم الدين عند أحد من علمائنا بصورة تقربه من ابن قيم – مع كثرة المتمسحين بابن قيم وشيخه – مثلما رأيت ذلك في العلامة الكبير المرحوم د. بكر عبد الله أبو زيد. فالدكتور بكر قد ألف كتابيه العظيمين بل قل السفرين العظيمين: "ابن قيم الجوزية – حياته وآثاره وموارده" و "التقريب لعلوم ابن القيم" ومن الأول (صفحة 85) أستقي لكم مادة هذا المقال وأترك المجال للعلامة المرحوم د. بكر عبد الله أبو زيد عليه سحائب الرحمة والرضوان فهو من أجل أساتذتي الذين أضفتهم بإكبار وإجلال لقائمة:"هؤلاء علموني":
يبدأ هذا الفصل بقول الدكتور بكر : هناك إعجاب بالغ وتطلع شديد من أهل العلم في كل عصر ومصر لمؤلفات ابن القيم والاستئناس بأقواله والاستشهاد بها في مقامات المعارضة والترجيح وما ذاك إلا لأنها انفردت بخصائص ظاهرة وسمات بارزة تميزت بها مؤلفاته من بين مؤلفات عصره وهي الميزات التي منها ما شاركه فيها شيخه ابن تيمية ومنها ما انفرد بها عنه ومن ثم أصبحت تلك الميزات في الجملة منهجاً يسير عليه رواد المدرسة السلفية (لست من السلفيين فهذا شرف لا أستحقه...فكلما قال لي شخص أنا سلفي قلت له: كل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك). والآن يا قارئي نسرد ما أورده العلامة المرحوم د. بكر من ميزات ابن القيم في البحث والتأليف وهي ثنتا عشرة ميزة:
1- الاعتماد على الأدلة من الكتاب والسنة: وهذه هي أبرز خصائص المدرسة السلفية التي قام بنشرها ابن القيم رحمه الله تعالى. فهو يستنبط الأحكام الشرعية من أدلة الكتاب والسنة بأسلوب سهل مبسط خال من التعقيد بنوعيه اللفظي والمعنوي. يستشهد د. بكر بما كتبه ابن القيم من بحث ممتع لطيف في "مدارج السالكين" وجوب إذعان المسلم وتواضعه للدليل وحرمة المعارضة نقله د. بكر بطوله لنفاسته كما قال رحمهما الله تعالى.
2- تقديم أقوال الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم: ولهذا أفاض رحمه الله بالاستدلال لهذا الأصل (يعني الاعتماد على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة) ووجوب الأخذ به من ستة وأربعين وجها بسطها في كتابه "إعلام الموقعين." وفي الوجه الثالث والأربعين شرح المدارك التي انفرد بها الصحابة عمن بعدهم والأخرى التي شاركهم فيها غيرهم لكن فضل الصحابة فيها على غيرهم أظهر. فالفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه: أ- أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ب- سمعها ممن سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم جـ -فهمها من آية من كتاب الله فهماً خفي علينا. د – أن يكون اتفق عليها ملؤهم ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده. هـ - أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب أو لمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي ومشاهدة تأويله بالفعل فيكون فهم ما لا نفهمه نحن. وعلى هذه التقادير الخمسة السابقة تكون فتواه حجة يجب اتباعها. و- أن يكون فهم مالم يرده الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة. وقد استفاد ابن القيم في هذه المسألة من ابن تيمية الذي هو من أهل الاستقراء كما هو معلوم.
3- السعة والشمول: وهي الخصيصة البارزة والمنة العلمية الكبرى التي امتن الله تعالى بها على ابن القيم فهو موسوعي يظهر ذلك من أول قراءة له. يذكر الأستاذ عوض الله حجازي في كتابه "ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي صفحة 112" أن المنهج الذي اتبعه ابن القيم في دعم أدلته بالنقلية والعقلية هو نفسه منهج أرسطو في البحث. ومن أبرز المسائل التي عانى فيها ابن القيم الإسهاب جهده: أ- الطلاق الثلاث بلفظ واحد ب- التحسين والتقبيح العقليين جـ - التأويل ورده د- المجاز ورده هـ - النفقات ومقاديرها. بل إن ابن القيم قد يفرد الكتاب الواحد للمسألة الواحدة مثل:"اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية" و "الداء والدواء" و "التبيان في أقسام القرآن" و "الروح". ثم تكلم العلامة د. بكر عن منهج ابن القيم مثلا – وبنص كلام ابن القيم نفسه – في تصنيف كتابه "الروح". يقول عنه تلميذه ابن كثير:" وهو طويل النفس في مؤلفاته يعاني الإيضاح جهده فيسهب جداً" (البداية والنهاية ج 14 ص 202) وبهذا وصفه كذلك الحافظ ابن حجر والعلامة الشوكاني وغيرهما.
4- حرية الترجيح والاختيار: فبينما هو حنبلي المذهب إلا إنه حر طليق لا يتقيد بمذهب الحنابلة بل ينشد متابعة الدليل واستدل العلامة د. بكر على ذلك بمباحث من كتاب ابن القيم "إعلام الموقعين" وخاصة عند كلامه عن القياس ومبحث المناقشة لنفاة الحكم والتعليل وينصح د. بكر من يريد الاستزادة على نحو هذا المسلك في الترجيح والاختيار بقراءة كتب ابن القيم: "مفتاح دار السعادة (ص/35، 104، 297، 303) و "إعلام الموقعين:" (3/ 60، 116، 171، 280) و "طريق الهجرتين" ( ص/ 684) و "الفروسية" : (ص/ 41.)
5- الاستطراد التناسبي: وهو أمر يزيد من متعة القاريء وارتباطه بالعلاقات بين العلوم الإسلامية ومدى اشتباكها ببعض وذكر ابن القيم نفسه "في كتابه: التبيان وذلك عند حديثه في تفسير سورة النجم ص/ 164-165" أن الاستطراد التناسبي من لطائف القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وجدير بالذكر أن هناك من خصوم ابن تيمية من كان يعد هذا عيبا فيه وبالتالي عيبا في تلميذه ابن القيم لكن د. بكر قد فند هذه التهم وبين أن ابن القيم كان يفعل ذلك لا عن ذهول ونسيان بل عن قصد لتوضيح ما يقول وتوسيع دائرة المعرفة للقاريء. لكن وكما يقول العلامة د. بكر ينبغي لطالب العلم التثبت من عزو المسألة لابن القيم فبسبب هذه الاستطرادات يظلم الناس ابن القيم أحيانا مثل بحث ابن القيم لمسألة أبدية النار وفنائها في كتابيه " حادي الأرواح" و "شفاء العليل" (انتبه! هذه النقطة مهمة جدااااااااااا) حيث فهم كثير من أهل العلم أنه يقول بفناء النار بينما أن رأيه على العكس فقد صرح في كتابه :" الوابل الصيب، ص 29 ط مكتبة البيان بدمشق سنة 1393" أن النار لا تفنى وهي نار الكافرين والمنافقين وأن التي تفنى نار عصاة الموحدين. وهنا يقول العلامة د. بكر إن ابن القيم في كتابه "الفروسية" قد ذكر من الدراسة النقدية لبعض كتب الحديث والفوائد الحديثية، ما يعض عليه بالنواجذ، وذلك استطراداً على أحاديث المحلل في المسابقة ونقدها.
6- مظهر الانطباع بتفهم محاسن الشريعة وحكمة التشريع: وهي من أعظم الأسرار في تفوق مؤلفاته على غيره.
7- عنايته بعلل الأحكام ووجوه الاستدلال: وهذا واضح من كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين"
8- الحيوية والمشاعر الفياضة بأحاسيس مجتمعه: وهي من أروع خصائصه والمثال على ذلك:" عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" و "طريق الهجرتين وباب السعادتين"
9- الجاذبية في أسلوبه وبيانه: وهي التي شهد بها أنصاره وخصومه على حد سواء، حيث يقول عنه الشوكاني في الجزء الأول من البدر الطالع صفحة 141:" وله مع حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين بحيث تعشق الأفهام كلامه وتميل إليه الأذهان وتحبه القلوب."
10- حسن الترتيب والسياق: وهي الميزة التي يشاركه فيها شيخه ابن تيمية وقد أخطأ من قال إنه يفوق شيخه في هذا كما قال الأستاذ الندوي (حيث قال الندوي في كتابه "الحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية" إن ابن القيم يتفوق على شيخه في حسن الترتيب وجودة التأليف) وهذه التفرقة كما يقول العلامة د. بكر أتت في الأصل من خصوم ابن تيمية وابن القيم: إذ يريدون منها أن ابن القيم ما راح ولا جاء لولا مؤلفات ابن تيمية فهذبها ورتبها وأكسبها حسنا في السياق والأسلوب فحسب.
11- ظاهرة التواضع والضراعة والابتهال: وهي ثابتة لدى أهل العلم العاملين ولهذا بارك الله في علومهم ونفعم بمعارفهم ونشر في العالمين كلمتهم.
12- التكرار: وهي التي انتقدها بعض الكاتبين في بعض مؤلفاته لكن الحق أنها ميزة ليستقر المعنى في نفس القاريء وهذا التكرار موجود في القرآن والسنة.
وأختم مقالي بالدعاء للإمام ابن القيم وشيخه وتلامذته وجميع شيوخنا وللعلامة المرحوم د. بكر عبد الله أبي زيد وإلى اللقاء إن شاء الله.