مفهوم الإيماءة في التمثيل الصامت
د. أحمد محمد عبد الأمير
كلية الفنون الجميلة – جامعة بابل
الإيماءة لدى الإنسان ، جزء أساسي من التواصل البشري القديم وتعدُّ الصورة المتشكلة لما نفكر فيه ، فهي لا توضح مقاصدنا ونوايانا فحسب ، وإنما تصف مواقعنا كما تظهر للآخرين ، وانعكاساً لجذورنا ، ولثقافتنا ولموقعنا الوظيفي ، ولمشاعرنا أيضاً فالإيماءة هي الإنسان . هي لغة حركة لجزء من أجزاء الجسد أو أكثر تحمل تعبيراً ما ، وتحوي دلالات معينة ، تشتغل آلياتها على تراكب عناصرها الداخلية لتوليد المعنى دون الإفصاح عنه تماماً ، إذ أنها تعتمد الإيحاء ، لها خصائص وسمات تنبثق من بناءها الداخلي ، تخضع لسلطة المرجع المتداول ، وتتوقف عند حدود القيم والأعراف والتقاليد .
الإيماءة كجزء من سلوك إنساني توالدت وتنامت وانتقلت من خلال غريزة إنسانية أخرى ، ألا وهي غريزة المحاكاة ( Imitation ) ، التي تدفع الذات إلى فهم الجوانب السلوكية الإيجابية وطرح السلبية منها ضمن المنظومة السلوكية والمعرفية لها ؛ فالمحاكاة طريقة أولية ومثلى في تعلم ونقل العديد من الجوانب السلوكية والأدائية واللغوية والثقافية ... الخ . كما عدّها ( أرسطو ) وسيلة مثلى في التربية والتعليم ، فللأطفال قدرة فائقة على محاكاة تعابير الوجه منذ الشهر الأول للولادة . لذا يمكن أن نستنتج بأن الدلالة التطورية للمحاكاة دلالة تساعدنا في تمثيلنا للأنماط السلوكية الثقافية ، كما تساهم أيضاً في التواصل مع الأقران الآخرين . معتمدين في ذلك على مهارة الأداء في التعبير والإيحاء بأنماط تشكيلية عدة ، لهذا تصبح هذه اللغة الجسدية ( الإيماءة ) إحدى اللغات التي تؤسس المحاكاة دعائمها الأساس . دون أن تتحدد في تشكيل ما ، لذا فقد أصبحت ذات معانٍ متغيرة وفقاً للسياق الذي ترد فيه . إذن فغريزة المحاكاة تنمي وتنقل وتحيي الإيماءة .
أنّ المحاكاة ليست بالضرورة أن تكون محاكاة لفعل أدائي خارجي - أي لفعل شخص آخر - بل يمكن أن تكون محاكاة لعالم الذات الداخلي ، فإنسان المجتمعات البدائية كان يستخدم اللغة الإيمائية قبل أن ينمي قدراته اللغوية اللفظية التواصلية ، لذا اتخذت غريزة المحاكاة طريقاً إيمائياً تخاطبياً من الداخل إلى الخارج . إذ يكتسب الإنسان وعيه بذاته من خلال اكتشافه لدواخله الدفينة بما فيها من صراعات ورغبات كما أنه يدخل في علاقات مع العالم الخارجي ، من خلالها تنشأ الحاجة لأن يبدل العالم أو ذاته أو طريقة التعامل معه ، وتتخذ هذه الحاجة أنماطاً أدائية مختلفة كانت اللغة الإيمائية أولى لبنات تشكلها ، حتى وصلت أخيراً إلى شكل من التعبير أضحى أساساً لفن قائم بذاته ، هو فن التمثيل الصامت .
أنَّ الإيماءة ما هي إلاّ أنماط حركية سلوكية تصور واقعاً ، تلتقي معها اللغة اللفظية نظراً لفاعلية الدوال الجمالية التي تحملها ، لذا فإنَّ وظيفة الإيماءة لا تُكّمن دلالاتها في إيصال المعنى فحسب ، بل في القيمة المعرفية التي تحملها في ذاتها أي بوصفها حاملاً يحمل طابعاً ( جمالياً ، فنياً ، تعبيرياً ) ، إنها أقرب ما تكون برسالة تشترط قصدية الإرسال ، لذا فهي عادة ما تشتغل آلياتها حول الإفصاح والإجهار في توصيل ما هو غير مرئي ، على اعتبار أنه قضية وجدانية غير متداولة ، فيلجأ باث العلامة في هذه الحالة إلى تشكلات إيمائية نفسية مجردة من خلال التجربة الجسدية للحواس ، أما الوظائف الأخرى فهي رغبة باث الإيماءة في إعادة خلق عالم ومجتمع متخيل تكون للإيماءة فيها وظائف عدة ، منها وظيفة معرفية ، استكشافية تكشف عن هوية الذات الأخرى ، ووظيفة نزعوية ذاتية ، تكشف عن رغبات شخصية واشتقاقية ، وإضافية ، لا تفهم إلاّ عن طريق إضافة أو إجراء تعديلات داخلية فيها . وإيماءات علائقية محضة يرتبط المعنى الأول فيها بالمعنى الثاني ، عن طريق ارتباط بعضها ببعض أو أقل اصطلاحاً في العادة من الإيماءات الاجتماعية ، وبالتالي فإن صراحة تشفيرها أقل منها في الثانية ، إنها تشتغل في ظل تركيب معين فتنتقل من حركتها الجزئية في المجتمع إلى حركتها الكلية في العمل المسرحي الصامت لتبنى علاقاتها الخاصة . ومن هنا تتأتى تداوليتها ، أي من خلال اشتغالاتها التركيبية والذهنية العقلية معاً . كذلك إيماءات مقامية ، حتى يمكن من خلالها إيضاح طبيعة الشخصية العلمية أو الاجتماعية أو الثقافية . والإيماءات الوظيفية هي إيماءات تشخيصية أو تصويرية تستخدم في العروض الصامتة لتصوير البيئة المتخيلة من أبواب وشبابيك وأدوات .
يعرف علم الإيماءات بمعناه الواسع بأنه : علم يخص جميع القنوات غير اللفظية التي تصدر عن الجسم ، فالإيماءة هي حركة العين والأطراف ووضعية الجسد وحركاته المختلفة والمسافة بين المتحدثين ، نغمة الصوت وسرعته ( المايم الصوتي ) ، وحتى مدة الصمت .. ومهما يفعل الإنسان سواء تحرك أم لم يتحرك صمت أم لا ، فإن هناك إشارات تصدر عنه والتي تهدف لإيصال رسالة ما وليس هناك حركة عشوائية ، إذ أنّ كل حركة تدل على شيء ما . لذا تُعَرَّف على أنها حركة وضعية لها دلالتها ومعناها ، إذ إنّ حركة إصبع صغير تؤدي إلى معنى معين . كما تعرف بأنها إشارة موجزة ، عادة ما تكون عرفية وغير مباشرة إلى شخص أو حادث أو مكان يفترض أنه مألوف ومعروف ، ولكن أحياناً يكون غامضاً وغير معروف من جانب المشاهد .
ويصفها ( ميرلو بونتي ) الظاهراتي ، بأنها نظام لغوي يمثل سلوكاً اجتماعياً ناتجاً عن قدرة الجسد على الإحساس وعلاقته باللغة ، ويعدّ الإيماءة وسيلة تلاحم بالجسد مع الأشياء ومع العالم ، ليس بغرض محاكاتها وإنما لصياغتها صياغة جديدة . وإنّها – بحسب سوزان لانجر – حركة تمثل جزءاً من سلوكنا الفعلي .
أنَّ الإيماءة ليست ظاهرة سطحية بل هي ظاهرة متكاملة تحمل في داخلها دلالة عميقة ، إذ تؤثر الجوانب النفسية في عملية الكشف عن كوامن النفس وخفاياها من كبت ورغبات تفصح عن تقلبات الأنا ، لتصبح الإيماءة هوية اجتماعية ، وثقافية ، ونفسية معبرة ، فالإيماءة في الواقع لا توجد ككينونة منعزلة ، ولا يمكن فصلها عن الخطاب أو الموضوع العام كما نفصل الكلمة ، وهي لا تستقر بمفردها بل إنها تحتاج إلى سلوك قراءاتي يضاف إلى وسطها وأولها وآخرها حتى يكتمل كيانها المعنوي، فالحركة متصلة بالفعل ، ولذا يتعذر وضع معجم للإيماءات ذلك إنها قابلة للتحليل فقط .
والإيماءات بشكل عام بما في ذلك الإيماءات العفوية هي ليست إيماءات مفرغة من معنى ( مجردة ) وإن كان بعضها لا يعني شيئاً محدداً ، فالنفس البشرية ، ملحقة هي الأخرى بالجسد وليس العكس ، والجسد عبارة عن مجموعة من الخلايا المتنوعة ، تضبطها وتتحكم بها الخلايا العصبية ، غير أن الحركات العفوية ( الإيماءات ) تستعصي على الضبط ، ولا ينقصها سوى الكلمات لتعبر بصراحة عن الحقيقة التي يحاول الخطاب المعلن أن يخفيها باستمرار .
كذلك أن العناصر التركيبية الموجودة في الكلام ، لها ما يناظرها في اللغات الإشارية ، وفقاً لمفهوم ( تشومسكي ) عن النحو العام الذي يطبق على جميع اللغات ، سواء كانت منطوقة أو أشارية ، إذ في اللغات الإشارية تأتي العلامات التركيبية ، وفي لغة الإشارة تأتي متزامنة مع بقية الرسالة . إذ يمكن أن تشترك في صنع الإيماءة جملة إيماءات ( أو حركات جسدية تشكل إيماءة مركبة ) متزامنة لتحقيق المعنى ، كإيماءة ( عدم الدراية ) أو ( لا أعرف ) التي تتم من خلال رفع الكتف عالياً ، وإمالة الرأس جانباً مع رفع الحاجبين وإطباق الشفتين وتقويسهما إلى الأسفل ، مع فتح كفي اليدين أمام الجسد . كذلك لابد من الإشارة إلى أن الإيماءة التركيبية تعتمد على اتجاه تحرك الأيدي في الفراغ أو على ترتيب الإيماءات ، فاستخدام الفراغ مهم بصورة خاصة ويعتمد جزئياً على أسلوب قوي تستخدمه لغة الإشارة لتحديد الأشخاص أو الأشياء التي ستصبح موضوعاً للحديث .
اعتمد فن التمثيل الصامت الذي يعد فناً صورياً إيهامياً يعتمد بدرجة أساس على التشكل الطرازي الفريد للإيماءة ودلالتها ، لتأخذ شكل المادة التي تريد أن تعبر عنها أو شكل المساحة أو الحالة ، في فضاء مجرد ، إذ لا تعد الإيماءة فيه نشاطاً حركياً بقدر ما تتخذ أوضاعاً تتيح للعين البشرية اختيار لحظات مميزة لحس الممثل وانفعاله تتخذ الإيماءة فيه وضعاً يبدو اصطناعياً حرفياً بوساطة جسد مرن ، ومدرب بحرفية وخاضع لمتن حكائي ، تكون الإيماءة جزءاً من ذلك السرد التمثيلي ، وجزءاً من ذلك النشاط أو السلوك الاجتماعي الممارس بل تتعدى أحياناً ذلك النشاط وانطولوجية الجسد ، وذلك عبر محاولة إعادة صياغة الوجود وفق رؤيا خاصة تتجاوز عادية الإنشاء والبث والاستقبال أيضاً . وهذا ما يفسر استمرار وديمومة ذلك الفن العتيق ، إلى جانب الاهتمام والشغف به ، والعيش وسط الصمت ليأخذ حيزاً يتجاوز كل النشاطات اللغوية . فالأوضاع التي تتخذها الإيماءة في التمثيل الصامت ناتجة عن خضوعها لمنظومة دلالية متكاملة من ناحية ( الشكل والمضمون ) ، أي احتوائها الجانب المعرفي والجمالي معاً والذي يبعدها بكل الأحوال عن صورة الواقع بدرجة ما ، فهي محملة بدلالات مقصودة الإنشاء وخاضعة لفكر هادف يسعى لتحقيق غرض دلالي معين ، وبذلك تبتعد الإيماءة - في الفن - عن كونها سلوكاً عادياً أو نشاطاً إنسانياً تواصلياً فحسب . كما يجب الأخذ بنظر الاعتبار الاختلاف في آلية الأداء الإيمائي باختلاف الطراز ( الجنس ) الأدائي الصامت ، كاختلاف البانتومايم عن المايم ( الموضوعي ، والجسدي ، والتماثل ) ، والرقص الدرامي الذي لا يعد تمثيلا بل رقصا إيمائيا .
من القواعد الأساسية لقراءة الإيماءة ، إنها لا تؤخذ كحركة بمفردها وبمعزل عن شقيقاتها اللواتي تُبث معها في لحظة الأداء الحركي ( داخل العرض المسرحي الصامت أو خارجه ) ، بل إنها قائمة على علاقات متآزرة لبناء المعنى وتوضيحه من خلال أجزاء مختلفة من الجسد ، لذلك يجب أن تنظر إلى الإيماءة الجسدية بوصفها مجموعة بنائية واحدة ، كما في جلوس رجل على كرسي في حالة ملل ، يبث جلوسه بصيغ إيمائية مختلفة تشير إلى الحالة الشعورية والذهنية لديه ومنها استدارة الرأس نحو باب الخروج وتدوير الإبهامين حول بعضهما أو لمسه المتكرر لذراع الكرسي بصورة متناوبة .. الخ .
فالإيماءة تستند بالأساس هنا - أي في القراءة الموضوعية - إلى ما يترشح من علاقات مع سابقاتها أو حتى اللواحق منها لتعاد قراءتها من جديد مع تنامي الفعل الإيمائي ومع اختلاف مواقع بث الإيماءات جسدياً ( الوجه وأجزاؤه ، الذراع ، والأقدام ... ) كما نود التأكيد هنا على أنّ الإيماءة هي بنية بحد ذاتها مرتبطة بجملة علاقات ذات صلة وثيقة بدخيلة باثها أو مستخدمها سواء كان القصد منها شعورياً أم لا شعوري ، كما ترتبط بعلاقات وثيقة أيضاً بالبنية الاجتماعية والثقافية ، لتصبح الإيماءة خاضعة قراءاتياً للارتباط الوثيق بالمحيط البيئي الأوسع ومتأثرة بالتحولات المتعددة بين هذه البيئة الثقافية والأخرى .
لكن هناك خلطاً كبيراً بين فهم الإيماءة كبنية دالة في حد ذاتها وبين فهمها كمفردة أدائية ، إذ وجد أنّه من الضروري هنا أن يثبت ماهيتها الدلالية ، أي إنّه سيحاول إثبات أن الإيماءة بنية دالة وليست مفردة أدائية ، وذلك لوجود غموض كبير على المستوى ألمفاهيمي والماهوي والأدائي لبنية الإيماءة ، لهذا سيقوم الباحث بدراستها دراسة بنيوية ومن ثمَّ دراستها بوصفها بنية دالة لها دلالات ضمن اشتغالها في فضاء العرض المسرحي الصامت .
إنّ توظيف الإيماءة في التمثيل الصامت يستدعي مراعاة ما يأتي :
1. التحريف النسبي لبعدها المادي الدلالي على أن يراعى شرط الدافع المحرك لإنتاجها ، أي تكامل بنية عناصرها الداخلية ضمن نسق يتألف ويتآزر مع الإطار الشكلي الذي يحتويه . وهو ما يجعل منها منظومة قصدية انتقائية ذات دلالات عدة .
2. قصدية التأثير ، وهي هنا إيماءة وظيفية تتجاوز حدود الإمتاع البصري ، لتؤدي أثرها من خلال الإفصاح عن فحوى فكرة أو فلسفة العرض ، مضيفة لذلك أبعاداً دلالية تفرز معاني لتؤكد الفكرة الأساس أو المرتكز الرئيس الذي يدور معنى العرض حوله.
3. الطابع المجازي الشعري ، الذي يفترض الابتعاد النسبي عن محاكاة الواقع دون إنكار حيثياته أو المغالاة في مقاطعته وعلى نحو يمكن معه للمتلقي من أن يعطي سلسلة معانٍ افتراضية وصولاً إلى المعنى النهائي المحمول في الطابع المجازي أو الشعري.
4. التوقيت ، أي تحديد نقطة البداية والنهائية لكل إيماءة . بمعنى آخر ضرورة إضفاء طابع الانتظام على كلية الإيماءة ، لكي تصبح أكثر دلالة وجمالاً وابتعاداً عن الفوضى والتشتت .
5. التجريد النسبي للشكل ، وهو لا يأتي هنا لأجل التعبير الجمالي فقط ، بل لفتح المجال واسعاً لتعددية الدلالات ، والتي تعوض بالتالي غياب اللغة اللفظية في العرض وتنشط حاسة البصر للمشاهد إلى أعلى درجاتها .
د. أحمد محمد عبد الأمير
باحث وفنان مسرحي / جامعة بابل – كلية الفنون الجميلة
ورشة دمى للتمثيل الصامت
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.