اليوم السابع
ها أنت ذي تطالعين ذات الوجه في المرآة تتأملين الخنادق التي حفرها جنود الزمن على صفحته .. العيون التي خبت جذوتها وأصبحت مجرد نقطتين سودادوتين داخل بياض .. تتذكرين بيت الشاعر:
تبتسمين في سخرية هذا البيت ردده أمامك زميل الدراسة وهو ينظر إليك .. تتذكرين أنك نظرت إليه من عل صححت له نطق البيت حاصرته بأسئلة لا علاقة لها باللحظة التي أرادها أن تكون رقيقة شاعرية .. هل تعرف قائل البيت؟ .. ومناسبته؟ وهل تعرف أن ..أفسدت عليه اللحظة .. وتربصت بكل من يحاول أن يجعل منك مجرد عيون أو شعر أو شفاه ..أو.. كنت تعتقدين أنك خلقت لأكثر من هذا ، وأن من يختصرك في جسد مجرد جسد يعود بك إلى زمن الحريم ويجرجرك إلى سوق النخاسة .. فأنت ذكاء خارق .. فكر متألق .. وجود نوراني يخفي معالم الأشياء .. كل الأشياء التي لا تعتبر في نظرك إلا سقط متاع ، هل هي مجرد ثقة في النفس؟ أم كبرياء؟ أهو غرور؟.. كنت تحيطين نفسك بسياج من الأشواك ترعينها تطمئين على صلابتها وقساوتها، ترممين ثغراتها، ثم تتربعين بكل أنفة على عرش كبريائك في مملكة أنت فيها الحاكم والرعية.
وفي المرآة كل صباح يطالعك وجه مشرق ..عيون واسعة براقة .. شعر جميل ينسدل على كتفيك في انسياب مائي .. تلملمين اشياءك الصغيرة، كل شيء في مكانه كل شيء تحت السيطرة . أفكارك .. أجندة المواعيد ليست مجرد ورقة في مذكرة إنها محفورة في الذاكرة، الأسماء.. الأرقام.. الأشكال.. تخططين لكل ساعة من ساعات العمل .. تقولين بفخر كل شيء سيتم على ما يرام، فأنت التي تحركين كل الخيوط .. كل شيء يسير كما تريدين. حتى الابتسامة المرسومة على شفتيك لا تذبل في نهاية اليوم مهما كان اليوم شاقا متعبا .. وتغادرين العمل في نهاية الدوام وأنت ترددين بصوت خافت كل شيء على ما يرام.
متى اكتشفت أن الأشياء تتسرب منك دون ان تشعري، متى بدأت دائرة الضوء تتضاءل من حولك .. متى بدأت المرآة تعكس وجها آخر غير وجهك، وجه مرهق .. متهالك .. الخطوط الرقيقة تحاصر شفتيك والشعر أصبح مجرد خصلات شاحبة مشدودة بقسوة إلى الخلف، ولم تعد ابتسامتك تدوم اكثر من دقائق لتجرفها تكشيرة غير مبررة.
في المساء في شقتك الباردة تنشرين الجرائد حولك تقرئين العناوين بملل، لم تعد تثيرك المآسي والنزاعات والصراعات والحروب ، تشعرين أن العالم ..كل العالم اختار طريقه،طريق الدم المسفوح واللحم المتناثر في الطرقات، وأصبح كل فعل مجرد تصفية حسابات وهمية .. تملئين فراغات الشبكات المسهمة .. ترمين بالجرائدة أينما اتفق لا تحفلين بجمعها وتسليمها إلى حارس العمارة إلا بعد أن تصبح أكواما أكواما حول سريرك.
أصبحت تطيلين الجلوس فوق الكرسي في مكتبك .. تلقين نظرات لامبالية على الرسائل .. على المذكرات على القرارات لاشيء يثيرك .. كلام .. مجرد كلام .. لغة قدت من صخر الأفكار الجامدة .. كثير من النوايا الحسنة وقليل من الفعل.. يتغير المديرون يتغير الأعوان ينتقل الموظفون .. يتقاعدون.. والكراسي في أماكنها .. لا تبكي صاحبا .. و لا تودع صديقا.. يتزاحم أمام أبوابها المتلهفون يتنافسون يتصارعون يتساقطون كأوراق الخريف. وورقتك تذبل في صمت منذ مدة لم تشتري ثوبا جديدا، منذ زمن لم تعتن بشعرك وأظافرك، منذ أزمان لم تتصلي بصديق أو صديقة عبر الهاتف، ومنذ مدة لم يعد هاتفك المحمول يستقبل إلا وصلات الإشهار.
تحاصرك البرودة .. تحاصرك الكآبة .. تحاصر وحدتك وحدتك، وتتنكر لك صديقتك المرآة.. تخترق ظهرك نظرات الشفقة من جيرانك الذين لم تتأملي يوما وجوههم .. و لا تعرفين شيئا عن أخبارهم.. لعل الزملاء يتهامسون .. مسكينة تجعدت أيامها، فاتتها كل القطارات، وبقيت وحيدة على رصيف المحطة ..
في يوم ما سيتذكر الجيران أنهم لم يروك منذ مدة ، يطرقون الباب وعندما تزكم أنوفهم الرائحة الكريهة سيدركون أن وراء الباب جثة متحللة. ترعبك الفكرة يقشعر لها بدنك، هل بقي في العمر رمق للتغيير؟ هل بقي في القلب نبض للشوق والحب للفرحة؟ هل بقي شيء لأي شيء؟ ..
ترتدين ثيابك بسرعة فلأول مرة تأخرت عن موعد العمل، تخرجين إلى الشارع تجدينه شبه فارغ .. تتساءلين هل رحلوا ؟ .. تتلفتين في خوف يمينا شمالا .. سيارات قليلة تنطلق بسرعة مستغلة فراغ الشارع. تحسين بدوار تستندين إلى جدار ما .. ماذا حدث للعالم؟ .. تستردين توازنك ببطء .. تكتشفين أن اليوم ببساطة هو يوم الأحد.