ذاك الذي لا ينام، ذاك الذي لا يهدأ،...
هكذا كان يوصف، يدور فكرة في أذهان الناس دون أن يسمى، دليلا لمن لا سبيل له سوى الهرب، عبر الجبال يقودهم إلى حيث الأمان، و له الجبال وطن آمن، و كنت أهابه لحد الأرق، أسير معه في الضوء و الظلام هاربا منه إليه، أرقب صلاته المجهولة في النهر مع الفجر، ف
يخيل لي أن برودة الماء ترتجف منه، و على ظهره العاري ترتسم أوشام تظهره كطوطم قبلي عاد بعد ألف عام، لتختفي حين تلامس النور، كأنما الرسوم عمدت خياله الذي تلمح بعينيه عمقه القادم من بداية الزمن، ليجبرك على طرح سؤال مجنون: ترى... ما الزمن؟
ذاك الذي لا ينام، ذاك الذي لا يهدأ،... لم يتحدث، و قد كانت خيبة كبرى لشاب مثلي طمع في ثروة من الأفكار قد يقدمها مثل هذا الجب العميق، من التجارب و الحكايا، فنظرة تحمل في طياتها كل هذا التاريخ لا بد و أن يكون صاحبها قد قبض على جزء منه، بل و ربما صنعه، لكنه لم يكن يتحدث، كنا نسير فقط، و كان لا يتعب، و حين اعتدت صمته انحسرت مساحة الخوف منه في قلبي و حل الحسد، حسد كل إنسان خائف مغترب لآخر آمن مطمئن، حسد كل من اضطر لترك من يحب في حين أن آخرين يسكنونهم، كنت أنظر إليه سائلا متوسلا: احك لي، علمني أيها الرجل الغريب، فأنا رغم حماس العالم كله... لا أعرف.
كأنني كنت أهيم في حضرة رجل مسكون، نظر إلي و قال بهدوء و وضوح:
- قل ما تريد.
فاجأتني كلماته، كان كمن يفتح لي في منتصف سفري الهارب واحة حديث مفتوح، و أنا المظلوم الذي كل ما في حياته حادث يروى قلت له بسذاجة الغر:
- لست أدري ما أقول.
- فلتبدأ إذن حيث انتهت أفكارك، فيما كنت تفكر؟
- لست أرغب بالهرب، أريد أن أبقى.
- لم تريد البقاء، أبسبب امرأة؟
ابتسمت لفطرة هذا المتصوف المزعوم و قلت:
- السبب دوما امرأة.
- في زمن الهروب الذي عشته كانت هناك أثر من امرأة، لكنني بقيت لأجل الأنثى.
- أليست المرأة أنثى؟
- لا، فقد تكون المرأة دون معنى، لكن كل المعاني الرائعة أنثى، حين تحبها تكون قد تجاوزت الاضطراب و الشهوة، و بلغت حيث تلامس فكرتها الأصل، و تلامس العقيدة.
- امرأتي أنا ذات معنى، لكنني في حبها لا أزال المراهق، و قد آن له أن يصير الرجل.
و لم أكن بحاجة لقول المزيد، فقد كان قبلي المئات، أو الآلاف، نحمل جراحنا سرا بعيدا عن سجون الحق، علنا بإنقاذنا لحياتنا نعود يوما لإنقاذ الحياة، أصدقائي أربعة، قادهم قبلي حيث لا يصلنا جند الطاغية، عبر طريق أشيع أنها عاشت نفس الحكاية منذ سنين و سنين، و كلنا تركنا الحب و الحنان لأجل الكرامة و الحرية، يملؤنا أمل أن نعود لنهزم الظالم كما ذل من قبله، تنهدت لحلاوة الحلم و مرارة الانتظار، قلت له:
- إن حجم الألم لأكبر من أن أسمح لنفسي بأن أصدق أننا سننتصر، قل لي، كيف السبيل لنفعل؟
- ليست مسألة فعل بقدر ما هي مسألة نضج، ربما لم تنضج حريتكم بعد، ربما هذا الزمن لا يزال زمن ظلم، فكما للحق جولاته فكذا للظلم جولاته.
- أتقول لي أن لا فائدة من العمل؟
- بل أقول أن حق الحياة قدر عظيم لا يمكن استعجاله.
صمت، ثم نظر إلي، لكنه كان يسعى لإبصار ما هو أبعد مني بكثير، ثم قال:
- عشت زمانا يخاف فيه الناس الطغاة لحد العبادة، لكن حين يكون المعبود غير كامل لا مفر من قدوم يوم الكفر، ليصير المخاف خائفا ممن رفضوا خوفه بعد ذاك اليوم.
- و ما الذي حصل له؟
- هرب، و اغترب، ثم عاد بعد أن صار طي النسيان، فلا يستطيع أحد يستطيع العيش في أرض تخافه إلا بعد أن يصير غريبا عنها، و في وحشة الوحدة عرف خطأه، عرف أنه هو من يجب أن يخاف من نفسه، من الإنسان الذي كانه، و الذي يكونه الكثيرون، الذي يطعن و يحاكم النزيف، الذي يظلم و يجرم الدموع...
و تنهد، و بعينيه آلام لا تمحى و أشجان لا تستقر، تابعنا المسير، استغرقني الهرب، و استغرق هو أرضا هام بها طيفا منذ الأزل، إلى أن بلغنا نهاية الجبل، أو نهاية الدنيا، لم يكن من فرق بين الاثنتين لدينا، و أحسست بقلبي ينقبض، و بصوتي يقول دونما اتصال بعقلي كمحاولة أخيرة لإيجاد داع أو سبب:
- ما الذي يبقيك هنا؟
- يبقيني الأمل.
- دعني أبقى معك إذن.
- ليس قبل أن يرهقك العمل، الأمل ليس ترفا، إنما حق يستل.
و افترقنا كما يفترق الجميع، و ما بينهم شبيه لهذا الغريب، هذا الذي لا ينام، هذا الذي لا يهدأ، هذا الذي ندم بعد أن طغى فهام غريبا... إلى أن سكن الأمل.