شبح باريــــس
وسط باريس العاصمة، وفي سيارة من نوع "ديكابوطابل" ركبت إلى جانب الأستاذ هشام، وخرجنا نتجول في شوارع باريس الرئيسية. كان الجو بهيجا والشمس دافئة والسماء زرقاء صافية. الشوارع عريضة ونظيفة ومنظمة تتوسطها زهور ذات ألوان فاتنة. الناس يمضون إلى عملهم في حيوية ونشاط؛ عبر القطار والأتوبيس والسيارات والدراجات و على الأقدام. كنا نسير بسرعة بطيئة كي نستمتع بالجو الباريسي وصوره الصباحية الجميلة. خضنا في الحديث عن أمور البلاد، وأكثر عن الفرق بين العيش هنا والعيش في المغرب، وعن الفرق بين دولة عربية ودولة أوربية. ناقشنا القوانين التي تنظم العيش بسلام هنا، ونفترض الأمور التي يجب أن تكون عليه دولتنا. نمر بالمقاهي المبثوثة على جنبات الشارع و المحلات التجارية والقساريات والأسواق الممتازة. انتقل بنا الحديث إلى مناقشة أمر الكتابة والتأليف وقلة فرص النشر في بلادنا. سألت الأستاذ هشام باستغراب كيف قفز هكذا من أستاذ بسيط يدرس اللغة العربية لأطفال البادية، ويتقاضى أجرا زهيدا إلى قاص عالمي يحضر اللقاءات الأدبية والمؤتمرات العالمية، وهذا واحد من بين المؤتمرات التي سافرت إلى باريس لحضوره.
ابتسم بسخرية وهو يمسك بدولاب السيارة ثم أجابني قائلا: هذا من عجائب الخالق في خلقه ولله في خلقه شؤون، أنا كذلك أسأل نفسي نفس السؤال فلا أجد له جوابا. حدث شيء من الصمت بيننا لست أدري لماذا، ثم سألني بعدها عن تجربتي في مجال الكتابة مع أنني لست إلا متمردا على قوانينها ومتمسك بذيلها، وعن الظروف التي خولت لي السفر إلى باريس. عجزت على الإجابة عن سؤاله لأنني لم أكن أدري كيف رمت بي الأقدار وسط هذا العالم وأنا لا أتقن لغة هؤلاء القوم، ولا أعرف شيئا عن ثقافتهم، فقط فتحت عيني فوجدت نفسي وسط هذا الكون الغريب!
أزعج الأستاذ هشام قولي هذا، فنحت على وجهه علامات استفهام، ونظر إلي نظرة تعجب بعينين جاحظتين، وكأني مخلوق غريب يركب إلى جانبه.
لم يتفوه بكلمة، فقد السيطرة على أفكاره، وزاد من سرعة السيارة وتوقف عن الكلام. مررنا بجامعة باريس وهي تستقبل طلبتها في الصباح والازدحام على أبوابها، زمرة من الطلبة بملامح عربية تتخلل الحشد وتنخرط في الازدحام. تاه بصري وسط الحشد الذي يتقلص كلما ابتعدنا منه أبحث عن مزيد من الوجوه العربية أبناء جلدتي. وحينما أدرت وجهي لأقول شيئا عن هذا للأستاذ هشام، وأفتح معه نقاشا حول طبعة التعليم ببلادنا، وجدت مكانه بجانبي وسط السيارة فارغا وكأنه شبح ابتلعته الأرض. أوجست في نفسي خيفة، وكانت السيارة تطوي الأرض في نهم شديد والناس في الشارع يصرخون، وأصحاب المحلات التجارية وأرباب المقاهي خرجوا يراقبون بذعر سرعة السيارة، شرطي المرور يجري مكالمة طارئة للإبلاغ عن الحادث، السيارات تفسح الطريق تجنبا للشر. لم يخطر على بالي كي أحاول إيقاف السيارة لشدة الخوف التي تملكتني، لحظتها لمحت الطائرات توافدت محلقةً من فوقي طلبا للإنقاذ. أصابني فزع ما أحسست بمثله قط، وخفقات قلبي كادت تحطم أضلاعي، أحسست بمخالب الموت تطاردني، فلم أتمالك نفسي وتهيأت لأقفز من على السيارة، حينها فتحت بصري على بياض سقف الغرفة في فزع وحمدت الله على أنه كان مجرد حلم.
عبد الصادق السراوي
زاكورة/ المغرب