نزعت كلثوم لجام الحصان العجوز،بعدما حررته من العربة المرهقة أعمدتها الحديدية أكثر من حمولتها المتواضعة،دفعته برفق إلى زريبة ضيقة وسط بقايا القش ولبنات من التراب متناثرة هنا وهناك،صهيل متعب للحصان أفزع بضع دجاجات اتخذت من ركام أكياس الشعير مستقرا لها للمبيت،فقفزت في ضجة وتناثر ريشها في الهواء،ربطت الحصان بعقال مثبت بوتد على الأرض ثم وضعت أمامه علفا في صحن مصنوع من قاع برميل حديدي،أضافت إلى العلف المكون من عشب المراعي حفنتي شعير،وطفقت تنزل الأكياس من العربة ورائحة العطارة تنبعث منها،تملكتها رغبة متعثرة وجامحة في العطس،تجاهد نفسها أن تعطس بلا ضجيج، لكنها تعطس بقوة، فيتناثر مخاط أنفها على نحرها، تمسح أنفها بالكم الأيمن لقميصها،تعرج على البوابة الخشبية المتهالكة الكبيرة للبيت، لتتأكد من إحكام إغلاقها بمزلاج خشبي،الصوت الخشن لزوج أمها العطار ما زال يتردد صداه في أعماقها وهي تستحضره دوما في هذه اللحظة من الليل ،يحذرها كل ليلة قبل أن يأوي إلى فراشه"
اغلقي دائما الباب جيدا....بيتنا معزول عن الدوار، و لصوص الليل لا ندري متى يحضرون"
ككل ليلة تستخرج من متاع العطار مرآة من سلعته التي يطوف بها القرى و الدواوير،تنزع منديل رأسها،تحدق طويلا في شعرها الأشقر المبعثر، تسويه بمشط رقيقة أسنانه،متدرجة السمك،تشعر أن جسدها أصبح لحوحا...متمردا،يطلب الانعتاق وقد أزهر نهدين ممتلئين في ربيعها السادس عش،تمرر يدها على صدرها، تتلمس حلمتي النهدين المتوترين،تشعر بلذة عابرة،تستحضر صورة عباس أكبر أبناء الغالي،وتذكر ليلة حاصرها بجسده الضخم في زاوية زقاق وهي عائدة من "سخرة" لأمها عند دار " الغالي"تستحضر الجسد الذي التصق بها التصاقا قويا كاد أن يقطع أنفاسها،وتشعر بلذة قوية وهي تتذكر رائحة عرقه وقد اختلطت برائحة التراب، مازالت تشعر بأثر كفيه على نهديها وبين فخذيها، و لهيب شفتيه الذي أشعل نارا على شفتيها لأول مرة، نارا لن نخبو أبدا،ابن الغالي عود كبريت أشعل فتيل أنوثتها فجأة و اختفي، رغم أنها تخلصت منه بصعوبة مهددة بالصراخ والفضيحة،بيد أنها ليلتها اكتشفت وجودا بهيا آخر اسمه "الرجل"،اكتشفت أن ذاك الرجل الخشن منبع جمال ومتعة لم تعهدهما من قبل، اكتشفت مفاتن جسدها... و وظائفه الخفية المعطلة...وجود مواز آخر مؤجل مختلف عن وجودها الرتيب اليومي الموزع بين أشغال الزريبة و مساعدة أمها في "لمنسج."
تحضر صورة عباس ابن الغالي بقوة، وهي تمنح المرأة ابتسامة،تحاول طردها من الخيال ومن الجسد والعقل،لكن هيهات في هذه الليلة،تمرد الجسد على العقل،و أخرج رغباته الأسيرة في الكتمان والحذر،أصابعها تتمرد عليها أيضا،فتمتد إلى حدائقها الخفية،تداعب زهرتها الوحيدة،تستعير أصابع عباس... تقدم نفسها شهية طيعة لخياله، لصورة منه،وتغيب عن الوجود...تداعب مكامن النار والوهج،تكتم صوتا قادما من أدغال جسدها المتعطش للانعتاق خوفا من أن تثير انتباه العطار و أمها،تتملكها رغبة في بكاء غريب وهي تنزع لذة من خيال مربك ...تشعر برغبة جارفة في الصراخ،تخنقها بالعض على شفتيها، يتمايل الجسد الغض مع الخيال،ويتحرك صعودا ونزولا، تهتز اهتزازا كقصبة في مهب الريح،تم يرتخي الجسد وتعود الأنفاس إلى طبيعتها و دقات القلب إلى إيقاعها،حينها ينسحب عباس من خيالها ويعود من حيث أتى في انتظار توهج جديد.
**********
أوت إلى فراشها و أرهفت السمع وهي تلتقط نباح كلاب أرهقها قر"يناير" البارد هذه السنة،شعرت ببرد قارس يسري في مفاصلها، مدت ركبتيها إلى صدرها،ظلام الغرفة لا يبدده غير ضوء قنديل مازال مضيئا في غرفة مجاورة، حيث تضجع أمها وزوجها العطار الجيلالي
سعال الجيلالي المتقطع يختلط وأزيز باب غرفة متهالكة لم يغلق بأحكام،الريح الباردة المتقطعة،تحرك الأشجار وتجعل لكل الأشياء صوتا مخيفا موحشا تقشعر له الأبدان،تقض مضجعها دفتا الكوة الوحيدة في غرفتها المترنحة على مهب الريح،تسحب جسدها من الفراش تحاول إحكام إغلاقهما... المسمار الذي كان يمنع الارتطام اتسع عنه الثقب وسقط،تحاول مرة أخرى أن تثبته في الثقب، ،وقد اختلطت أنفاسها المتقطعة بهديج الرياح وحفيف شجرة تين ملتصقة بسور البيت، تنطفئ الشمعة... تستمر في تلمس موضع الثقب في الظلام،فتضغط على المسمار بقوة ليجد له مكانا ثابتا في عمق الثقب ثم تلويه ليا وتسد الدفتين.
تعود إلى فراشها المكون من بطانيات قديمة مفروشة على حصيرة،و وسادة يعلوها لون الطين الجاف، وقد أطل من رتق فيها جزء من أشلائها... علاقتها بقنديل مضيء في مضجع أمها علاقة خاصة،إذ يشعرها بإحساس جميل،يبدد شعورها بالوحدة،وتتمنى لو ظل مشتعلا حتى الصباح،خيط دخان " الكيف" تحمله الرياح إلى غرفتها، الجيلالي ما زال مستيقظا يدخن رغم السعال القوي الذي يهز جسده هزا، ويشعل نارا في صدره وحلقه.
العطار الجيلالي يعيد تشغيل المذياع باحثا عن صوت يؤنس ليلته، يتوقف عند محطة تبث أغنية شعبية،يرتفع صوته مدندنا في اندماج مع مقطع يرثي الأيام الخوالي تسمعه الفتاة يردد في أسى " وفينك أليام"،ترهف السمع في محاولة لفهم ما يجري في مضجع أمها،تحاول أن تلتقط كل العبارات...كل الحركات، فهي لا تنسى أن الجيلالي في إحدى الليالي عاد من مركز القرية مترنحا ليلا،لم تقو رجلاه على حمل جسده رغم نحافته وهزاله من إفراطه في شرب " الماحيا"....لا تنسى أنه حاول مضاجعة أمها بالقوة حين امتنعت،فلطمها و صرخ في وجهها " شي نهار نصفيها ليك نت وديك الكلبة".
الجيلالي مرة أخرى على دأبه،يجر الضاوية زوجته من تلابيبها وقد استغرقت في النوم يريدها للجماع،الضاوية تستيقظ بصعوبة تحاول صده متذرعة بالتعب والمرض.لكنه مصر، يصفعها ويزبد غاضبا، يصرخ في وجهها"،" شوفي راني ،شي نهار غادي نذبح موك" .
حينما يشعل "الكيف" فتيل شهوة الجيلالي لا شيء يوقف رغبته، إلا جسد يفرغ فيه شهوته،وليكن منهكا...مريضا،لا يهم...
تستسلم الضاوية تحت تهديده وخوفا من صفعاته،تتمدد جسدا بلا روح،باردة كعمود خشبي، تمنح الرجل قطعة ثلج تطفئ لهب شهوته،يعبث الرجل الكهل الذي تجاوز الخمسين سنة بالجسد المنهك،ينتزع لذته انتزاعا و يستلقي،يمد يده لزر المذياع،ويعود الصمت إلى الغرفة.
تدلف الضاوية إلى الخارج في خطى ثقيلة ومتعبة،تصل تنهيداتها إلى أذن كلثوم فيعتصر قلبها اعتصارا،تسمع أمها وهي تغتسل من بقية ماء دافئ في "البقراج".
تنتاب الضاوية غشاوة على بغتة، تشعر المرأة المتعبة بدوار مفاجئ ،لم تعد الأرض مستقرة تحت قدميها، تستند بيدها اليمنى إلى الجدا،تسقط الشمعة من بين الأصابع المرتعشة" ،السلامة يا ربي" تردد عبارتها و تجلس على منضدة من تراب،تحاول الاستنجاد بالجيلالي تنادي " الجيلالي.......الجيلالي " يصير صوتها ثقيلا... متعبا...متقطعا ثم خافتا.
تلتقط كلثوم نداء الأم، تهرع خارجة،تتجه نحوها،يسقط نظرها الخائف في ذعر على جسد أمها التي تمددت على الأرض و أغشي عليها،تلطم الفتاة خذيها و تصرخ مفجوعة "مي...مي .....ما لك..."
تهرع الفتاة إلى الجيلالي، محاولة إيقاظه لمساعدتها على نقل أمها إلى فراشها،تناديه فلا يرد، تهز جسده هزا فلا ينبس بكلمة،تتركه وتعود إلى أمها،عاجزة عن حملها إلى غرفتها،تسوي لها فراشا في المكان نفسه، وتجلس إلى جانبها تنتظر انبلاج الصبح.
*************
لم يفهم أهل الدوار ما وقع حين سمعوا صراخ كلثوم عند الفجر،هرع الرجال أولا اعتقادا منهم أن "خيمة" الجيلالي داهمها اللصوص،هبوا فرداى تم صاروا في الطريق جماعات، في أيدهم العصي والمعاول،طرقوا البوابة طرقا شديدا،لا أحد يفتحها، ونحيب كلثوم ما فتئ يرتفع،تطوع أحد الشباب فتسلق الجدار وقفز إلى " الحوش" ،فتح للجماعة البوابة فدخلوا دفعة واحدة،اتجهوا صوب صوت الصراخ،تدافعوا عند باب المطبخ الضيق،استوقفهم فقيه الدوار الذي ولج أولا،تم سمعوا صوته يطمئنهم "ماكاين شفارة، الضاوية مريضة"
تفقد فقيه الدوار الضاوية، فوجد الجسد باردا لا نفس فيه، سأل الناس عن الجيلالي أشارت إليهم الفتاة أنه في غرفته غارقا في النوم، وقفوا أمام الغرفة،ارتفع صياحهم، "الجيلالي.....الجيلالي! " الجيلالي لا يرد على نداءاتهم مهما علت وضج بها الفضاء، أحد الرجال يقول للجماعة التي لم تستطع كبح قهقهاتها:" راه محشش... "،يرمقه الفقيه بنظرة تأنيب يضع بها حدا للسخرية الجماعية التي انفلتت من عقالها في لحظة غير مناسبة، يدخلون.... يعمدون إلى إيقاظه بشتى الوسائل، ثم يدخل الفقيه يتفقد الرجل، يخرج على سكان الدوار وقد اجتمعوا في باحة البيت وهو يردد " لا حول ولا قوة إلا بالله، مات الجيلالي العطار و زوجته الضاوية في ليلة واحدة"
**********
في بيت العطار اجتمع أهل الدوار بعدما انتهوا من دفنه والضاوية في اليوم نفسه،لم تكن عملية الدفن سهلة،حيث شك المقدم في سبب الوفاة وارتاب في الأمر، و سمع أصواتا هامسة هنا وهناك توجه أصابع الاتهام إلى كلثوم، وكاد الدوار أن يجمع أن الفتاة قتلتهما معا ودست السم في الطعام، طمعا في البيت ومال العطار، بل هناك من النسوة من حكت حكاية غريبة، قالت احداهن للنساء إن كلثوم على علاقة مع غريب،اتفقت معه على قتل أمها والعطار...وبسرعة وبدون اتفاق مسبق أصبح للحكاية تفاصيل أخرى ورواة وشهود عيان،فنساء أخريات أقسمن أنهن شاهدن كلثوم رفقة شاب غريب "حتروف" في الغابة المحاذية للدوار...لكنهن لا يعرفن من هو، و لا يتذكرن متى شاهدن الواقعة.
أعلم المقدم "جدارمية" الذين حضروا رفقة طبيب المركز،و أكد الطبيب أن الضاوية ماتت بالسكري، والعطار انتابته سكته قلبية.
في المساء أقام أهل الدوار مأتما لهما في "خيمة" العطار،وأحضروا قصعات الكسكس، جلست كلثوم في زاوية من البيت بعيدة عن مجمع النساء اللواتي انخرطن في أحاديث و ثرثرة، قالت ليلتها زوجة المقدم وهي تكشف عن ذراعيها المثقلتين بأساور الذهب، ومن حين لآخر تسوي خواتمها و سلسلة ذهبية على نحرها،إن العطار غريب عن الدوار، "محوز"اشترى البيت من عند سي الغالي واستقر بينهم، وتظنه "رحمانيا" من الرحامنة أو "عبديا،" وجاء منذ عشرين سنة للدوار،و تؤكد للنساء أنه ربما "دار شي زبلة ف بلادو وهرب" بلاده التي لا يعرفها أحد...
تحملق النساء في زوجة المقدم و يسألنها عن كلثوم..."أصلها وفصلها" ،فتقول إن العطار عاد ذات يوم و معه الضاوية و ابنتها ذات العشر سنوات حينذاك،وتؤكد أن زوجها المقدم أكد لها أنها كانت "شيخة" التقاها العطار في "الشياظمة"، فتعلق قلبها بها وتزوجها و تبنى ابنتها..... وتضيف وهي تغمز بعينها اليسرى ،أن زوجها المقدم سمع رواية أخرى تقول إن الضاوية كانت "شوافة" في دكالة، التقاها هناك فعلمت له "سحرا" فتزوجها.
و تهمس لهن في يقين قائلة إن كلثوم "حرامية" لا أحد يعرف أباها...و أمها الشيخة أو الشوافة،كانت تضاجع الفلاحين والرعاة في تنقلاتها مع " رباعت الشياخ".بكبرياء تسرد زوجة المقدم الحكايات تلو الأخرى وتسهب، وتردد أمام النساء من حين لآخر" ما تشفينا، الله ستار، ودعا للستر"
لم تدر زوجة المقدم أن كلثوم كان يصلها ما اعتقدت النساء أنه همس ومجرد حديث خافت، فما إن دخلت على النسوة،حتى عانقتها زوجة المقدم معزية" مسكينة بقيتي فرادية....مشات المرحومة،كانت امرأة ولا كل النساء طيبة،لم نر منها إلا خيرا"
انزوت كلثوم في زاوية، وطفقت تتفحص الوجوده و السحنات وتمنت لو كانت لها الجرأة لتحكي حكايتها، فكلثوم ولدت في دار دعارة،و تعلم أن أمها هربت من عبدة بعدما حبلت بها وتنكر لها رجل أحبته، وخوفا من الفضيحة هربت، واستقر بها المقام في بيت للدعارة،وهنا التقت العطار الذي كان يتردد على هذا البيت، فتعلق بها، وتزوجها...
انفض الجمع،لكنها اكتشفت أمرا جديدا هذه الليلة،المقدم تغيرت نظرته إليها،فقد نظر إليها نظرة غريبة، وشد على كفيها بقوة متلمسا أصابعها وضمها مفتعلا الحزن ضمة مريبة وهو يعزيها وكادت يده أن تلمس نهديها، الغالي قال لها إنه مستعد لحمايتها ومساعدتها وشدها من خصرها تم مسح على رأسها وعانقها،أبناء الغالي و أخرون ينظرون إليها كلما تحركت وتشعر بأعينهم تتفحص جسدها، وحدهن النساء كن ينظرن إليها نظرة مريبة، لم تستطع فهمها، فيها شيء من العزاء والمكر و الكراهية.
***************
بعد سنوات،أقسم أحد أبناء الغالي أنه التقى كلثوم في حانة من حانات الدار البيضاء،وقد غيرت اسمها، الكل يناديها في حانة "ماجستيك" نادية، وتحدث لأبناء الدوار عن جمالها وملابسها الأنيقة وعطرها، و تعمل ساقية المشرب، لكن أهل الدوار الذين استغربوا لرحيلها المفاجئ بعد أسبوع،أجمعوا على أن العطار كان يجمع الأموال في صندوق أخفاه في البيت استخرجته كلثوم ثم غادرت إلى وجهة غير معلومة...إبن الغالي ماانفك يقسم بأغلظ الأيمان أنه رأى كلثوم في الحانة، و ناداها باسمها فلم ترد عليه ولم تعره اهتماما، وسأل عنها فقيل له أنها خليلة أحد تجار" درب عمر"،بينما المقدم ما زال مصرا أن الطبيب " ما طبيب ما ستة حمص" يردد العبارة دوما في مناسبات عدة، ويقول إن الطبيب لم يستطع معرفة حقيقة موت العطار وزوجته،مقتنعا بأن كلثوم دست لهما السم، والتحقت ب" الحتروف" عاشقها بعدما استخرجت كل ما جمعه العطار من أموال.
********
في حضن تاجر"درب عمر" كل ليلة، تكتفي كلثوم،بحكايات ابتدأت منذ وطأت قدماه محطة "اولاد زيان"....وفي عقلها لم ينطفئ أبدا قنديل مضجع أمها، تراه على كل الأسرة التي تنضح بالعرق واللذة العابرة وهي في حضن العابثين،ضوءا خافتا يسافر من مكان ما، وتستحضر صورة ابن الغالي في كل الوجوه العابرة وتشم عرقه ورائحة التراب في أحضان العابرين في خرائط جسدها.