استمر في كتابة الخطاب رغم سماعه الدقات الخفيفة المتباعدة على الباب. رفع رأسه عن الورق دون أن ينبس بكلمة. تامل الباب للحظات قبل أن يقول: أدخل.
انفتح الباب المبطن من الداخل و دلف رجل عجوز لكنه أنيق، قطع المسافة بين الباب و المكتب بخطوات سريعة دون أدنى صوت ثم وقف دون حراك و كأنه يحترم لحظة صمت السيد، اللحظة التي لم تدم إلا قليلا قال بعدها السيد للرجل العجوز:
- ما وراءك؟
- الاطفال يبكون يا سيدي.
- ماذا تعني بذلك ألم تعد السكاتات و الحليب ينفعان؟
- لا، لقد جربت كل شيء، يصرون على أن يرتضعوا الحليب من ثدي الأم مباشرة. الحليب الاصطناعي و السكاتة لم يعودا يجديان، بكاؤهم يعلو مع كل دقيقة.
- لابد لبكائهم من سبب، الأم مشغولة خارجا و ليست على استعداد للعودة للبيت لتنهنه الأطفال.
- يقولون إن الأم لابد أن تستجيب لبكاء طفلها طال الزمان أم قصر.
- لا تدع ذلك يحدث، الأم عملت خارج البيت من أجل هؤلاء الاطفال، فلم البكاء إذن؟ قم بعملك، اختبر أشياء أخرى مفيدة و أعلمني بكل جديد.
الإنحناءة الطفيفة التي يقوم بها الخادم كلما أراد الخروج من عند السيد أصبحت تشكل عادة بالنسبة لكليهما. شيء من الاحترام الذي لابد منه لمثل من في مقامه. لذلك قام بها و انصرف و في دخيلة نفسه يزداد هم الأطفال في اطراد.
* * *
دقات الباب المحتشمة المتباعدة ميزت زيارات الخادم المخلص، ثلاث دقات تفصل بينها ثوان ثم يطل وجه الخادم الصبوح الذي خدم السيد بتفان لعقود. هذا الاخير شعر بتوعك هذا الصباح لذلك فضل أن يتأخر ساعة في فراشه عن وقت استيقاظه المعتاد.
كان يفكر في كل ما دار بينه و بين خادمه حول الأطفال ليلة أمس، البكاء الفجائي الغريب وعدم الإستجابة لكل ما قام به لأجل كفهم عنه. نهض من خلف مكتبه عاقدا كفيه خلف ظهره و اتجه نحو النافذة ليتأمل منظر شروق الشمس البديع عندما سمع الدقات المميزة للخادم. مع ولوج هذا الاخير لاحظ السيد أن وجهه اكتسى بغلاف من القلق و ميز في عينيه مرارة الأرق فعلم أن الاخبار لن تسر حتى قبل أن يفوه الخادم.
- خيرا أيها المخلص.
- نشط البركان فجاة يا سيدي.
- ماذا؟ ولكن توقعات الخبراء تقول إنه لن ينشط قبل مدة ظويلة من الآن.
- لقد أخطأوا، نشاطه هذه المرة ينذر بكارثة.
- هل يهدد المنجم؟
- هذا صحيح و الأدهى أنه يهددنا نحن أيضا.
- ماذا؟ و لكننا بعيدون جدا عنه. اسمع إذا استطعنا ان نبقيه خامدا لعقود فذلك يعني أننا نستطيع الآن. اتخذوا إجراءاتكم واستعدوا لإغراق الفوهة ب..
هنا قاطعه الخادم بشكل غير لائق على الإطلاق و كأن الشيء الذي سيقوله لا يستطيع الإنتظار:
- لدينا مشكلة، يتوقع الخبراء أن البركان لن ينفجر من فوهته التقليدية و إنما من مكان آخر.
اتسعت عينا السيد في دهشة و استولى عليه الذهول شأن أي شخص يسمع خبرا لم يتوقعه قط، فالأمور تسير من سيء إلى أسوأ و الوقت ليس في صالحه ثم قال على حين غرة و كأنه تذكر شيئا:
- قل لي ماذا قال الخبراء عن سبب نشاط هذا البركان هكذا فجأة؟
انتظر الخادم بضع لحظات بلع فيها ريقه بصعوبة ليبل حلقه الجاف قبل أن يجيب:
- تكتونية الصفائح.
- ماذا يعني ذلك؟ كيف؟ هل نحن في ابتعاد ام في اقتراب؟
- سيرا على هذا النهج فنحن نبتعد يا سيدي.
- اسمع، تابع الامر بنفسك واعرف من الخبراء مكان الفوهة الجديدة و ليكن تقريرك عن حوادث اليوم على مكتبي الليلة.
انحنى الخادم انحناءة الإحترام التي لم يكن بحاجة إليها لانحناء ظهره أصلا، وانصرف مطرقا يتأمل الأشكال الهندسية المزينة للسجاد التركي الفاخر الذي يكسو أرضية المكان.
* * *
الأخبار الجديدة كانت قاسية عليه، أملت للهم سبيلا إلى نفسه. واساه الأرق ليلته، كان سميرا رائعا لا يشعر بالفتور، رافقه طوال الليلة. الأحداث الغريبة جعلته يتمنى لو أغمض عينيه وفتحهما ليجد هذه المشاكل قد أصبحت في خبر كان. الأطفال يبكون، البكاء لا ينقطع، فوهة البركان القديمة متجاوزة، المنجم في خطر. مطارق كثيرة تنهال على رأسه من كل الجوانب دون رحمة أو هوادة.
جلس خلف مكتبه يحتسي القهوة السوداء التي تزيد من مرارة حلقه ينتظر الخادم المخلص و ما وراءه من جديد. دقات ثلاث، دفعة خفيفة على الباب ليطل بعدها وجه الخادم العجوز متأبطا ملفا كبيرا. تقدم بخطوات ثقيلة و كأنه يجر الدنيا من ورائه تمنعه من التقدم نحو مكتب سيده. ما كاد يصل المكتب حتى بادره السيد:
- هه، ما الأخبار؟
- وجدنا سبب بكاء الأطفال.
- خبر رائع و ماهو هذا السبب؟
- بعض الأطراف المتورمة أو التي تعرضت لأخماج تدفعهم للبكاء.
- هكذا؟ هل اتخذتم إجراءات الإستئصال؟
- في الحقيقة لدينا مشكلة بهذا الشأن، الرقعة المتأثرة كبيرة و غير قابلة للإستئصال.
- هذا سيء. ماذا عن البركان هل حدد الخبراء موقع الإنفجار؟
- نعم يا سيدي.
ظهرت اللهفة جلية في عيني السيد و استبد به الفضول أكثر و أكثر و هو يسأل:
- أين؟
تردد الخادم طويلا و كأنه يتحاشى الإجابة و تبدت على جبينه المتغضن قطرات من العرق حاول مسحها بكمه الأيسر، ثم ما لبث أن حسم أمره مجيبا:
- هنا يا سيدي، تحت أقدامنا مباشرة.
هنا ملأت الدهشة عيني السيد اتساعا، وأحس بقلبه يرتجف..
ابراهيم البوزنداكي