يبدو الأمر وكأنه سوء تفاهم هائل بين الخارج العربي والداخل المصري الثائر: بينما يحتفل العرب بعودة مصر إلى الحضن العربي وانهيار تظام التبعية الذليلة الوقحة لأمريكا والتحالف الوثيق مع الصهيونية والعداء المرير للفلسطينيين يصر الداخل الثوري على أن المسألة مسألة داخلية بحتة، بل قد يصل الأمر ببعض المتصلين بقناة "الجزيرة مباشر" من المصريين إلى حد إبداء الانزعاج من هذا الربط مع المسائل الخارجية "فالمسألة داخلية بحتة.." يقول متصل مصري مغترب في الخليج"السياسة الخارجية للنظام كانت ممتازة" ويضرب على ذلك
مثلاً لا يتصوره عربي وعلى الأقل فلسطيني: أن النظام فتح في وقت معين معبر رفح!
من المثير للانتباه الاختلاف بين منظور العرب خارج مصر للثورة المصرية ومنظور كثير جداً ممن شارك في الثورة المصرية أو عبر عنها في داخل مصر لهذه الثورة.
ثمة أقلية "لبرالية جديدة" (مثلاً مثقفو 14 آذار في لبنان) حاولت تأويل الثورة المصرية بأنها ثورة "لبرالية جديدة" من نمط "ثورة الأرز" (بل هي على حد زعم بعض هؤلاء مستلهمة منها!)، ولكن الغالبية الشعبية التي رأيناها تتحمس للثورة المصرية على القنوات الفضائية وفي الجرائد والإنترنيت كانت تراها ثورة من منظور الدور السياسي الذي تأمله الغالبية العربية من مصر والذي كان النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه يقوم بعكسه تماماً: كانت الثورة في منظور الأغلبية العربية هي التي ستحرر مصر من اتفاقية كامب ديفيد أولاً وتنهي العلاقات مع الكيان الصهيوني، وستفتح المعابر المغلقة مع غزة، وستنهي العلاقة السياسية والاقتصادية التبعية مع الولايات المتحدة، وستكون بداية لعهد من الكرامة العربية بعد عهد من الذل أوصله نظام مبارك إلى أسوأ حالاته. باختصار بحسب المناضل معن بشور: "الثورة الشعبية تعيد للعروبة ألقها" (السفير 22/2/2011).
في أوروبا كانت هناك التوقعات نفسها ولكنها عند العرب آمال أما في الغرب فهي مخاوف!.
يرى آلان تورين في مقال "المثقفون الفرنسيون في مواجهة الثورات العربية" في اللوموند 18/2/2011 (انظر الترجمة العربية في النهار 27 /2/2011) بأن "التجربة الإيرانية وضعت غمامة على عيون كثيرة" مما أثار الارتياب في أوروبا عند الرأي العام والحكومات "التي تنجرف كثيراً وراء تشاؤم موروث من الحرب الباردة"من التحركات الشعبية العربية. وعند تورين نصيحة (و"النصح" هو الطابع العام للمقال ففيه نصائح للمفكرين الغربيين وللحكومات الغربية وثمة نصيحة موجهة إلى"إسرائيل" أيضاً) يقول فيها: "إعطاء الحكومات الغربية الأولوية في علاقتها مع البلاد العربية للمشكلات الاجتماعية الداخلية أكثر مؤاتاة في المبدأ للديمقراطية من إعطاء الأولوية للمواجهات الدولية التي سمحت لأنظمة سلطوية عديدة، مناوئة للغرب أو موالية له، بأن تزدهر". وفي اعتقاده أن على الحكومات الغربية سلوك هذا الطريق مع أن "خطر ظهور دول سلطوية جديدة أكثر قمعية من مبارك أو بن علي حقيقي".
لا شك أن مجرد الاستماع لما قاله "مفجّرو الثورة" من الشباب لا يقدم لنا أكثر من تصور "محدود الأفق" إن نظرنا للأمر من منظور الآمال العربية المعلقة على الثورة لأهداف هذه الثورة التي هي من أعظم ثورات العصر من حيث سعة المشاركة الشعبية . فالعربي يضع في رأس قائمة الأهداف العربية الهدف التحرري من قوى القسر الخارجي، ويتمثل ذلك في مواجهة الموشاف الصهيوني في فلسطين و هيمنة حاميه الأمريكي على النظام الرسمي العربي. والبرهنة على هذا نجدها بشكل غير مباشر عند ملاحظة طبيعة الحكام العرب الذين لقي إسقاطهم أعظم الحماس وأولئك الذين لقي موتهم أعظم الحزن، فإسقاط مبارك وبن علي لم يجد عند الغالبية العرب إلا الفرحة الغامرة وعلى العكس من ذلك دخل العرب عند موت عبد الناصر في مأتم عربي شامل، وشيء من هذا حصل عند موت صدام الذي لقي حزناً شعبياً كبيراً مما أثار انزعاج كثرة من المثقفين العرب، ولم يلق سروراً إلا عند المعارضة العراقية والأقليات العربية المؤيدة من منظور طائفي لإيران وللأحزاب الطائفية الشيعية العراقية. ومما لا ريب فيه أن الجماهير إنما قدرت في هذين الرئيسين أولاً وآخراً مواجهتهما للسيطرة الأمريكية والصهيونية، وفي سبيل هذا الهدف الذي يقف فوق كل اعتبار عندها غفرت دكتاتوريتهما. ولست هنا في وارد تقييم مدى دقة الرؤية الجماهيرية لطبيعة هذه المواجهة وأبعادها الفعلية. هذان الهدفان العربيان الكبيران بالذات لم يظهرا (أو على أقل تقدير لم يظهرا بصراحة) في "ميدان التحرير" أو الميادين الأخرى. ما ظهر بوضوح وبقوة كان هدف "إسقاط النظام" وتمركز في البداية حول إسقاط رأس النظام والأقلية التي تحيط به، وهي أقلية تجمع السلطة والثروة على شكل جديد لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر منذ عام 1952. لا شك أن الجموع الهائلة من الناس التي أيدت الثورة ضد نظام مبارك كانت مدفوعة بالإملاق وانهيار كل أشكال الخدمات الأولية التي يجب أن تقدمها الدولة للمواطن (مثلاً الخدمات الصحية) من جهة والإذلال من جهة أخرى من قبل الأجهزة الأمنية المصرية التي كثرت جرائمها بلا رادع ولا محاسبة. ولكن النظرة التي وجهت الشعارات كانت تتمحور حول تغيير الوجوه السياسية الأساسية للنظام وإجراء تغيير شامل في البنية السياسية للنظام بأن يحل محله نظام ديمقراطي على النمط الغربي فيه برلمان ورئيس (قلّصت صلاحياته) منتخبان في انتخابات حرة.
لا شيء خارج المطالب الداخلية إذن، ولم تمس علاقات مصر الخارجية بأي شعار وإن جاء على الهامش الذكر المتكرر لاتفاقية تصدير الغاز إلى "إسرائيل"، ومن غير الواضح إن كان المحتجون عليها يرون فيها غبناً تجارياً أم أنهم يرون فيها جريمة قومية لأنها تمد العدو بالطاقة.
"سكتت" الثورة إذن سكوتاً مطبقاً عن التطرق إلى تحديد موقف من علاقات مصر الدولية واتفاقياتها مع "الجار" الصهيوني وعلاقاتها مع البنك الدولي، بل هي لم تحدد موقفاً من السياسة الاقتصادية للحكومة البديلة المطلوبة. وكل هذا إن نظرنا إليه نظرة أولى بدون تحليل أبعد من شأنه أن يحبط آمال الغالبية العربية ويرضي السيد ألان تورين كل الرضا الذي ساد مقاله من أوله إلى آخره السخط على إيلاء "المواجهات الدولية" أولوية على المشاكل الداخلية، وهو على ما يبدو ما تمت مراعاته (دون حاجة إلى نصيحته!) بدقة مذهلة وانضباط يثير الذهول بحق في "ميدان التحرير"، حيث لم يحرق علم أمريكي ولا حتى علم صهيوني واحد، وحيث ظهر وكأن النظام المصري الذي يطلب المتظاهرون إسقاطه يعيش لوحده بلا علاقات دولية وإقليمية قد تفسر جزءاً مهماً (إن لم تفسر الجزء الأهم) في سلوكه المستهجن الذي قاد المجتمع المصري إلى الكارثة.
لا شك أن هذا الحياد "الثوري" العجيب تجاه السياسة الخارجية يستلزم التفسير. من جهة ثمة فعلاً في مصر شرائح عليا من الطبقة الوسطى هي بنت عصر الانفتاح الساداتي تعودت على عد مصر بلداً "شرق أوسطياً" ليس له أي مشكلة مع الغرب، وعلاقاته مع العرب هي علاقة جوار ومصلحة اقتصادية فقط. ويسير هذا التيار بتصادم طبعاً مع تاريخ الحركة الوطنية المصرية وأعتقد أن المدائح الزائدة عن الحد لشباب الفيسبوك الذين هم أقرب إلى الثقافة الاستهلاكية المعولمة المبنية على أساس التعامل مع النموذج الثقافي والاجتماعي الأمريكي على أنه هو المثل الأعلى والهجاء الشديد ل"عجائز المعارضة الفاشلين" ليس بريئاً في كثير من الحالات بل هو توجيه للثورة في الاتجاه الملائم للعم سام وحليفه أو موجهه الصهيوني في المنطقة. بعض هؤلاء العجائز الفاشلين( للتذكير) كانوا يواجهون النظام بصدورهم وكانوا هم (وليس شباب الفيسبوك أو غيرهم) من كان لا يكاد يخرج من سجون مبارك حتى يعود إليها. ولكن هؤلاء أنفسهم الآن ينخرطون في تقريع مازوشي للذات لمجرد أنهم لم يستطيعوا دفع الجموع إلى الشوارع. إن هذا التقريع ليس في صالح الثورة لأنه مديح لجهلها وضيق أفقها، من جهة أخرى كان التفاهم الضمني بين المشاركين في الثورة على عدم رفع شعارات حزبية فيه أثر إيجابي مباشر على وحدة الشعب في هدفه العريض الذي هو إسقاط النظام، ومن جهة ثالثة كان لهذا الإحجام التام عن إدراج تغيير السياسة الخارجية للنظام في قائمة المطالب أثر في تحجيم (يجب عدم المبالغة به) لاستعداء القوى الخارجية على الثورة. ولكني أظن أن استبعاد الهجوم على السياسة الخارجية للنظام والدعوة لتغييرها كان معبراً بصدق عن الحد الأدنى الذي يمكن للقوى المشاركة في الثورة أن تقبل به. بتعبير سأشرح قصدي منه فوراً أقول: إن وعي "الثورة المصرية في ذاتها" كان يتطابق بالفعل مع هذه الحدود لمطالبها أما "الثورة لذاتها" فسريعاً ما ستثبت أنها شيء آخر وأنها لا يمكن أن تقف عند هذه الحدود.
في الأدبيات الماركسية القديمة كانوا يميزون بين مصطلحي "الطبقة في ذاتها" و "الطبقة لذاتها". يعني الأول (الطبقة في ذاتها) حالة الطبقة (العاملة بالتحديد) حين تكون موجودة بالفعل لكنها لا تعي طبيعة وظيفتها التاريخية وعلاقاتها مع الطبقات الأخرى، ويناسب هذا المستوى من الوعي السلوك النقابي العادي للطبقة العاملة حيث يدافع العمال بصورة غريزية عن مصالحهم الاقتصادية والحياتية اليومية المباشرة، أما الثاني (الطبقة لذاتها) فيعني حالة الطبقة حين تدخل الفعل ككيان اجتماعي مسيس واع لتميزه عن الطبقات الأخرى ولخصوصية دوره التاريخي. في اعتقادي أن هذين المصطلحين يمكن إطلاقهما على حالة المجتمع المصري والثورة المصرية، فإن نظرنا إلى "المجتمع المصري في ذاته" و "الثورة المصرية في ذاتها" فسنرى المطالب الشعبية الاجتماعية المصرية كما تبدت في "الثورة المصرية" منزوعة من أي نظرة أشمل لطبيعة الموقع الإقليمي والعالمي لمصر وطبيعة علاقاتها الدولية وخياراتها الاستراتيجية (وثبات وزير الخارجية أبو الغيط البغيض لأغلب العرب في منصبه يرمز إلى ذلك)، ولكن "مصر لذاتها" لا تستطيع أن تكون مصرية حقاً وبصورة شاملة إن لم تكن عربية وفقاً للجملة الصائبة لعبد الحليم قنديل التي سمعناها منه في مقابلته في 27/2/2011 مع عمرو ناصف في قناة "المنار".
"مصر لذاتها" هي "الذات الحقيقية" لمصر إن أحببت أن أستعير مصطلحاً من "نظرية الاستلاب". وهذه الذات الحقيقية لمصر يراها الآن الأصدقاء والأعداء خارج مصر بصورة أوضح من الجماهير الثورية المصرية نفسها التي انشغلت بالوقائع اليومية للصراع مع النظام وحاولت بأقصى جهدها تجنب ما يستحيل تجنبه على المدى الطويل: إن كل إصلاح داخلي جذري سيقود لا محالة إلى "مواجهات خارجية" يكرهها السيد آلان تورين، ومن حسن حظ الثورة المصرية أنها جاءت في وقت تظهر فيه علامات توازن للقوى الدولية في العالم وتراجع للقطب الواحد، وحالة التوازن هذه هي فرصة يجب اغتنامها لنهضة مصرية ستكون بطبيعتها كما قال عبد الحليم قنديل محقاً عربية.