زمان كنّا نسمع أنّ الماغوط ونهاد قلعي رحمهما الله هما اللذان صنعا نجوميّة دريد لحام .. ويؤيّد هذه المقولة نظرة سريعة على أعمال دريد سواء القديمة أو الحديثة منها، والتي لم يكن لهذين الرجلين أيّ إسهامٍ بها بالمقارنة مع الأعمال الأخرى، مع تشديد التركيز على أعماله الحديثة التي بدا فيها واضحاً هبوطُ السويّة الفنيّة حتى وصلت لحد الابتذال في كثير من الأحيان، مما جعل الكثيرين في حيرة بين أي المراحل والأعمال التي قُدّمت تمثل المستوى الحقيقي لهذا الفنان وأيّها هو الانتكاسة أو الشذوذ في مسيرته الفنية الطويلة !
وربما يأتي دور كتابات الماغوط كأحد أهم العوامل التي انتقلت بأعمال دريد من مستوى البيئة الشاميّة الضيّقة (والتي ساهم في نجاحها بشكل كبير الفنان نهاد) إلى مستوى أوسع وأشمل خرج بالتجربة من الحلقة الضيّقة إلى فضاءٍ أوسع حمل هموم الإنسان العربي .. فتحدّث فيها عن الاستعمار والتجزئة وهواجس الحرية والكرامة .. بل لامست تلك الأعمال أبعاداً إنسانيةً أكبر من حدود المنطقة العربية حين عالج قضايا الإنسان بتحررٍ من محدد الزمان والمكان ..
ولكن حتى لا نبخس دريد حقّه سنحاول تحرّي الدقة قليلاً .. فالماغوط لم يصنع دريد (المشخصاتي)، فقدراته كمشخصاتي كانت قبل الماغوط ولا تزال موجودة بعده ..
ولكننا حين نتحدّث عن علاقة جماهير الأمّة بفنانيها عموماً، فإننا نؤمن أن هذه الجماهير لا تكترث كثيراً لقدرة فنانها على تقمّص الأدوار .. بل إن علاقتها معه تتجاوز علاقة المتفرّج بمسرح الدمى إلى علاقةٍ ذات أبعادٍ إنسانيةٍ تحتاج من الفنان حفظها بأشد ما يستطيعه من درجات الشفافية واستحضار الضمير .. فهي تتعلق به كصاحب هدفٍ ورسالة .. خاصةً إذا كانت ذاكرتها تحمل مشاهدَ مؤثرة له وهو يبكي على جراحها المنكوبة تارة أو يقسم من على خشبة مسرحه تارة أخرى بأن يروي أرضها بدمه ليجعل منه نسغاً يسير في عروق شقائق النعمان ...
وهذا ما صنعته كلماتُ الماغوط المحمّلة بهموم وآلامٍ تعجز عن حملها أمّةٌ بأكملها حين جعلت هذه الكلمات من دريد إنساناً صاحب قضيّةٍ في وعي الجمهور وليس مجرد مشخصاتي على مسارح التهريج أو الاستجداء ..
ذهب الماغوط إلى جوار ربه .. وعاد دريد ذلك المشخصاتي العتيق الذي يجيد القفز على حبال الحياة .. بالضحك مرّة وبالبكاء على أطلال أمّةٍ كان هو أحد من قطّع أوردتها مرّاتٍ عديدة ..
إنّ أمةً كأمتنا يا سادتي (المشخصاتية) لن تعجز عن تضميد جراحها بيديها .. وربما أهون عليها أن تُترك هذه الجراح مفتوحةً على الموت من أن ترى تخاذل أبنائها عن نصرتها أو بيعهم قضاياها بأبخس الأثمان ...
تنهض الأمم العظيمة (بلا ريب) كالعنقاء من تحت رمادها .. ويبقى الأدب الملتزم مخلّداً لمسيرة الأمم كما يُخلّد الحقُّ بكلمات أصحاب الحق وحدهم .. و لكن (وبدون شكٍ أيضاً) يذهب ذكر المشخصاتية أدراج الرياح .. !