- جهاد الكلمة والحجة([1]) إن الحرب الإعلامية على أشدها ضد الإسلام، حرب مدججة بالأسلحة الشيطانية والأموال القارونية والوسائل الخبيثة. نقاوم كل هذه المخططات الماكرة، بجهاد إقامة الحجة وإثبات الحق.
وإن من مقاصد الشرعية الإسلامية حفظ العقل؛ ويندرج في هذا الحفظ جهاد الكلمة والحجة لحفظ عقول أبناء الأمة من الثقافة الغربية الجاهلية الوباء الفاشي والخضم المرج
الحلك القذر الذي غطى على عقولهم، ونهب ذاكرتهم، فيكون منطلق فهمنا من القرآن الكريم والسنة النبوية.
ونعني بجهاد الكلمة والحجة بذل الجهد باللسان وبالقلم ضد كل انحراف، وضد كل من يناوئ الإسلام من المخربين فكريا ومن الممسوخين عقائديا؛ أصحاب الفلسفات الكافرة والجدليات الملحدة.
قال الإمام علي رضي الله عنه كما جاء في نهج البلاغة:"اللهم بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة: إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تُبطل حُجَجُ الله وبيناته. وكم ذا وأين أولئك؟؟ أولئك –والله- الأقلون عددا، والأعظمون عند الله قدراً يحفظ الله بهم حُجَجَه وبيناته حتى يُودِعُوها نُظراءَهم، والدعاة إلى دينه"([2]).
إن جهاد الحجة والكلمة لا يستطيع القيام به إلا من تخلص من كل خشية من الناس على نفسه وما يملك، وتخلص من ضغط المجتمع وما يجري فيه...، هذا الباب من الجهاد يجب أن نؤديه على وجهه الأكمل، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قرآنيا مبينا.
إننا بحاجة إذن، إلى لغة وإلى خطاب يبلغ الأسماع، يخرق جُدُر الحصار الإعلامي ضد شريعة الإسلام، ويقارع شراذم الغزو الفكري والثقافي وأذنابهم من بني جلدتنا.
وبحاجة أيضا إلى علم وإعلام وتطبيق لإسلام العدل والكرامة والحرية، وتحرر من التبعية العمياء للجاهلية وللحضارة الغربية المادية الدوابية.
يجب أن يكون خطابنا قرآنيا قويا، نقول الحق ولا نخاف في الله لومة لائم. وأن تكون لنا " نظرة اجتهادية إسلامية شاملة شمولية تبين للمثقف والعامل والفلاح، والرجل والمرأة، والصديق والعدو، كيف يصبح القرآن، وهو طلبة المسلمين المستضعفين، قانونا عمليا يوجه الحياة اليومية، ويقسم الأرزاق، وينظم الاقتصاد، ويصنع البلاد، ويسلح العباد، وينصر دين الله في الأرض"([3]).
وخطاب الله تعالى في القرآن، علمنا كيف نحاج الناس ونخاطبهم، علمنا في محاجة المنافقين –مثلا- بقوله تبارك وتعالى:﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾([4])، وقوله جل ذكره: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾([5])، "والضمير في (به) يراد به القرآن"([6])، أي جاهدهم بالقرآن. وقوله تقدست أسماؤه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾([7])، أي "فجهاد الكافر المعلن بالسيف، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار، ونحو ذلك"([8])، وبتعبير آخر "جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهاد جميعا ولا تحابهم، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها"([9]).
نثبت هنا إذن، أن "الخطاب القرآني الموجه إلى الفطرة البشرية هو الخطاب الشامل، هو لغة الجهاد. إن أسلوبه الجامع المانع الإلهي المتموج المتلائي بين الإنذار والبشارة، بين الترغيب والترهيب، بين الاستنهاض والزجر، بين التحريض العاطفي والتنوير العقلي، لهو وحده القادر على تبليغ دعوة الإسلام والإيمان والجهاد إلى أعماق القلوب. وهو وحده الكفيل أن يجعل لخطابنا الهيبة والنور والفاعلية التي تحول الكلام عملا، والفكر إنجازا والشريعة الإلهية قانونا يحكم في الأرض، يعلو ولا يعلى عليه.
ابتليت أمتنا بالفكر المترجم بالفكر الفلسفي الإيديولوجي. فتقرأ وتسمع خطابا بألفاظ عربية، لكن بمعان تلعنها لغة القرآن.
لا حاجة بنا إلى حكاية لغة الإيديولوجيات والفلسفة لكي يفهمنا ممسوخو الفكر. (...)
إننا إن نزلنا بخطابنا ومحاجتنا من مستواهما الرفيع القرآني، وجردنا هما عن النذارة والبشارة، والتوجه المتعاقب إلى العاطفة والعقل معا، هبط إيماننا إلى مستوى المواجهة بين المعاني الأرضية تتقاتل.
وإن نحن قصرنا خطابنا وردنا على ما نحاجه في حيز التحركات الدنيوية، ولم نذكر الآخرة، ولم نصور لخصمنا ولمن ندعوه الموت وما بعدها، والآخرة وحسابها، والموقف وأهواله، والجنة والنار، لا يكون خطابنا إسلاميا لأنه لا يكون بذلك قرآنيا"([10]).
خطابنا الإسلامي لابد أن يعط لكل سؤال مادي تثيره حالة العالم جوابا مستمدا من الهدي القرآني ومن مشكاة النبوة. ولن يكون الجواب إسلاميا إلا إذا ربط بين الدنيا والآخرة، وعالم الغيب وعالم الشهادة، والحياة والموت، وبين حاجات الإنسان المادية وحاجاته الروحية. حتى لا نتشبه بأعداء الإسلام وخصومه في خطابهم الخالي من ذكر الله U وذكر الآخرة. الدائر حول داء الطبقية والصراع، والهيمنة المشتركة بين عمالقة الأرض...
"يشيد أعداء الإسلام بشمولية فكرهم في زعمهم، ينظرون أنهم بلغوا قمة الذكاء والوعي التاريخي والسياسي حين يطرحون مشكل الإنسان، وسير التاريخ، وعلاج أمراض المجتمعات البشرية بواسطة الصراع الطبقي، ومراقبة التطور التاريخي وتطبيق الاشتراكية.
حقيقة الموت طويت في خطابهم. الإنسان الفرد ذاب في المجموع. في الصراع الطبقي لا وزن للفرد وهمومه، وشقائه وسعادته في الدنيا التي لا يؤمنون بغيرها فأحرى في الآخرة التي لا يرجونها.
شمولية الفكر الجدلي المزعومة ما هي إلا إدراك سطحي جدا ما دامت لا تتعرض للمصير الجماعي التاريخي إلا لتطوي وتذيب وتنسى مصير الإنسان بعد الموت. هذه الشمولية المزعومة يكفينا في فضحها تقويم نتائجها الأرضية من خلال ما يكشفه نزلاء جهنم الشيوعية من وجود "كولاك" وهو عبارة عن سجون الإبادة والتعذيب، ومن وجود" نومنكلاتوا" وهي عبارة عن طبقة الحكام المهيمنين على كل شيء"([11]).
وعليه، فبعد افتضاح الإيديولوجية بضآلة نتائجها، بل بوحشية نتائجها الفظيعة، يبقى لنا "أن نقدم على مستوى الخطاب والجدال والتفهيم الإسلام في إيجابيته. نتحدث عن الإنسان في شموليته. عن مصير المجتمعات التاريخي، وعن مصير الإنسان الفرد المدعو إلى الله. مصيران مشتبكان متعانقان. ونربط مصير المجاهد بمدى سعيه لتحقيق مصير العزة لأمته. فإن الله تعالى إنما وعد الشهيد بالحياة الخالدة في النعيم لأنه يسعى بجهاده وبذل حياته في إحياء أمته"([12]).
لكن! "إن كان جهاد الحجة مؤكدا لدحض الإيديولوجيات والفكر الجدلي فإن آكد منه التهيؤ لنزال الرأسمالية -وهي العدو الأول- في معاقلها. في الاقتصاد يهيمن عليه اليهود، في الإعلام، في الحرب، في تحرير الأرض، في ميدان المال-مالنا الذي يدفعه سفهاؤنا اليوم للترابي العالمي-، في ميدان العلم والتكنولوجيا، في ميدان التنظيم والسياسة والإدارة والتصنيع.
لا بد من تعبئة شاملة، فإن إبطال الباطل وإحقاق الحق لا يكفي فيه جهاد الحجة، إنما يكون هذا قد أدى مقصوده إن كان حافزا للتحرك، والزحف، والنزال، والصمود حتى النصر، وبعده إلى يوم القيامة"([13]).
ومما ينبغي ذكره في هذا المقام أن القيام بالحجة أنواع كثيرة، فالشاب المجاهد الذي يجلس إلى ملحد أو لائكي من أساتذته أو من أقرانه يجادلهم في الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن بالتي هي أحسن، ويبرهن لهم على أن الله حق والنبي r والإسلام حق والدار الآخرة حق والحشر حق والجنة حق والنار حق، وأن لا عزة لهذه الأمة ولا كرامة لها إلا بالتمسك بالإسلام قرآنا وسنة، واتباع النبي r في كل صغيرة وكبيرة، وأن الإسلام دعوة ودولة، غيب وشهادة، روح وعقيدة، تربية وجهاد... ويدحض حجج الملحدين واللائيكيين المادية التي بها يوطدون فكر الإلحاد وفكر الغرب. هذا الشاب المجاهد قائم بحجته في ميدانه.
والقائم لله بحجته في ساحة السياسة العامة يجادل الأحزاب التي تدعوا إلى الحكم بالقوانين الوضعية المعاصرة والتخلي عن حكم الشريعة، ويدحض مزاعمهم الباطلة، وأفكارهم المستوردة الضالة، هذا قائم بالحجة.
والقائم بالحجة هو ذلك المؤمن المجاهد الذي يستجيب لربه عندما يخاطب الله U عباده المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} ([14]). وهناك أشكال كثيرة لجهاد الكلمة والحجة اكتفينا ببعض الأمثلة المذكورة.
([1]) وفي هذا الباب يمكن أن ندرج الجهاد بالقلم؛ أي بالكتب والمقالات والدوريات وغيرها، لرد بضاعة أهل الزيغ والضلال إليهم، ثم لنشر دعوة الإسلام وبيان حقيقة الشريعة الإسلامية الغراء...عبر هذه الوسيلة التي لها أهميتها الفعالة.
([2]) نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، جمعه ونسق أبوابه: الشريف الرضى، شرحه وضبط نصوصه: محمد عبده، ص717.
([6]) المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، 3/213.