تعد اللغة - أي لغة- وعاء الفكر والثقافة وحاملة المخزون المعرفي والروحي لكل من يتحدث بها ، فاللغة لم تكن مجرد وسيلة تخاطب بين الناطقين بها ، بل هي في كل عصر الجامع والهوية والسمة المميزة ، وتقف جنبا إلى جنب في هذا الأمر مع الدين الذي يحمل المعتقدات والتشريعات بهذه اللغة ؛ فلذا قد تأخذ اللغة بعدا مقدسا لارتباطها بالنواحي الروحية ، وهذا الأمر ليس خاصا بلغة دون لغة ، بل يشبه القانون المستقر في وعي كل جماعة لغوية وثقافية تمارس طقوس حياتهم من خلال لغتها ، ولكنها مع اللغة العربية أشد وضوحا ، وذلك لاعتبارات كثيرة.
لقد تشكلت اللغة العربية عبر أجيال كثيرة ، وأخذ منها وزيد عليها ، وعدل في قوالبها ومفرداتها وهذبت ألفاظها واتسعت معانيها فيما يشبه القانون الداخلي الذي يحكمها ، وهي في هذا تشترك مع كل اللغات الأخرى على اعتبار أن اللغة كائن حي يواكب مسيرة البشر الحضارية ويتطور معها ليستطيع حمل ما
أنتجه العقل البشري من أفكار، وما ولدته القريحة من أفاويق الخيال.
فالعربية ،وهي لغة العرب ، قد مرت في مراحل يسردها من يتحدث عن فقهها وتاريخيتها ، ولكن الذي يعنينا في هذا المقال ذلك القانون التطوري الداخلي الإنشائي الارتقائي الذي يستكنّ فيها، ولعل من أهم مظاهر وضوحه كثرةَ المعاجم اللغوية العربية وتشعب موادها اللغوية ، وتكاثر صيغها الصرفية ،واعتماد قانون الزيادة الذي يحمل في تبعاته المعاني المختلفة التي قد تصل إلى حد النقيض مع المادة الأصلية ، ومن هنا يمكن أن نفهم قول أحد أئمة اللغة العربية وهو ابن جني في كتابه " الخصائص" معلقا على التغيرات التي تصيب معنى اللفظ بما يصيبه من تغير صوتي بعبارة : "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني" ، معبرا كذلك عن هذه الظاهرة بقوله:"هذا غَوْر من العربية لا يُنتصَف منه ولا يكاد يُحاط به . وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غُفْلا مسهوّا عنه"(1)، وأكد هذا القانون اللغوي بعض المعاصرين بقولهم : كل زيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى ، ومن جهة أخرى نمو التراكيب السياقية النحوية كل ذلك متضافرا أنتج موسوعة لغوية ضخمة تشكل دائرة معارف لغوية تاريخية ، ومع كل ذلك ستجد أن هناك نقصا في كل معجم الذي لن يعوضه اجتماع كل المعاجم ، وذلك لأن المجهود البشري مهما عظم لن يستطيع أن يستوعب اللغة كل اللغة وقد كشف عن بعض هذا النقص بعض المحققين للمخطوطات القديمة في العصر الحاضر ، فقد أشاروا إلى أن كثيرا من ألفاظ لغوية واردة في هذه المخطوطات لا يوجد في أي من المعاجم المؤلفة(2)، فيضطرون إلى إلحاق الكتاب المحقق بمسرد الألفاظ الجديدة مع معانيها التي يفهمها من سياق الكلام ، وهذا من شأنه أن يجعل المعاني نسبية ، ومن هنا جاء قولقال بعض الفقهاء : "كلامُ العرب لا يحيطُ به إلاّ نبيٌّ" ، وينسب السيوطي في كتابه المزهر لابن فارس قوله حول هذه العبارة : وهذا كلام حَريٌّ أن يكوَن صحيحاً وما بَلَغَنا أن أحداً ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلّها(3).
هذا جانب من لغتنا يجب أن يدرك جيدا ، لأنه ذو دلالة بالغة الأهمية في حركة الفكر العربية الإسلامية ، ونستطيع إدراك بعض خفاياه من تتبع مصادر اللغة العربية ، الذي يقف الشعر العربي الجاهلي على رأسها ، وذلك لأنه كان يشكل ديوان العرب بحق ؛ فهذا الشعر عدا كونه حامل ألفاظ العرب ومعانيها ، حاملٌ أيضا فكرهم ونمط عيشهم وأساليب لغتهم وقوانينهم في التركيب اللغوي السياقي ، كل ذلك جعل الشعر العربي في الجاهلية مصدرا مهما من مصادر تفسير القرآن الكريم ، هذا التركيب اللغوي المعجز الذي نزل بلغة عهدها العرب وخبروها وكانوا جهابذتها ، يعرفون مداخل بلاغتها ومواطن حسنها ومساقط عيبها ، حيث أنه لا يوجد لفظ أو معنى في القرآن الكريم إلا وعرفه العرب أو بعض العرب ، فليس في القرآن جديد على لغة العرب سواء في ذلك الألفاظ والمعاني والتراكيب ، فكلها من جنس اللغة وتراكيبها ، ولو كان الأمر غير ذلك لبطُل الإعجاز وانعدم التحدي ، فمادام أن اللغة هي اللغة والأسلوب هو الأسلوب والمعاني هي المعاني ، فما الداعي للعجز عن الإتيان بمثل هذا القرآن، هنا يكمن الإعجاز اللغوي البياني ، والمتمثل كما يذكر البيانيون العرب بمجيء القرآن الكريم على نسق خاص يستوعب المعنى بلا زيادة ولا نقصان ، فتنزل الكلمات في أماكنها بحيث لا يستطيع استبدالها بأخرى ، وهذا سر ، وإن عرف ، من يستطيع إدراك اللفظ ومساويه تماما غير الذي أنزل القرآن بعلمه ؟؟!!
وهذا ما عبر عنه قديما الخطابي في معرض حديثه عن الإعجاز اللغوي للقرآن وعجز البشر عن الإتيان بمثله ، وذلك في قوله: " إنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور ثلاثة : أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها ، وما تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله"(4)
إذن ما زال الإعجاز قائما ويستظل قائما، وهذا جانب مهم من جوانب قوة اللغة العربية الذي لا يضمحل ولا يتلاشى مهما حدث.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن اللغة العربية لغة مقدسة أو أنها ذات هالة دينية بمعنى أنه لا إبداع أو ابتداع في صيغها وقوالبها اللفظية ، أو أنها جامدة على حال لا تستطيع معها أن تتطور لتساير كل تقدم وتعبر عن كل مستجدات العصور المتلاحقة ، ولو كان الأمر كذلك لأثر القرآن سلبيا على اللغة وبذر فيها بذور الموت من أول ما عبر بها عن أفكاره ومعانيه ، ولكن القرآن مد اللغة بروح متجدد دائم على اعتبار أن اللغة القرآنية بمعانيها الثرة القراءة لا تنتهي عند حد، ولا تخلق من كثرة الرد، ففي ألفاظ القرآن ما هو بعيد الأثر في مستقبل المعاني إلى ما بعد تفكيرك فيه في اللحظة التاريخية التي تقرأه فيها وستظل تكشف عن المعاني كلما تطور الزمن وترى عجبا ، فإنه الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه.
وتكتسب لغتنا العربية باعتبارها وعاء فكر الإسلام أهمية خاصة ، وهذه الأهمية أهمية سياسية بالدرجة الأولى على الصعيدين الداخلي والخارجي ، فقد كانت هذه اللغة منذ تشكل الكيان الإسلامي السياسي الأول في المدينة المنورة وحتى آخر دولة إسلامية – دولة العثمانيين اللغة الرسمية للدولة ولم تتراجع عن مكانتها تلك إلا في أواخر الحكم التركي لدعاوى قومية مشبوهة، عندما انتشرت بدعة التتريك بين العرب وحوربت العربية والعلماء العرب ، وقد شكل هذا الأمر بداية حرب لا تخمد وهجوم شرس على هذه اللغة ، ولم يحدث هذا لولا الحكام المنتمون إلى فكر غير فكر الأمة الذين جاءوا من رحم غير شريفة من بوتقة حزب تركيا الفتاة هذه الحركة العنصرية التي قسمت الأمة إلى شعوب متصارعة على قوميات ولغويات أدت إلى التشرذم والخواء والخراب في جسد الأمة فتقطعت أوصاله لغويا وجغرافيا .
ولم يكن هذا بطبيعة الحال أول الخلل ، ولكن ما عانته اللغة من إهمال كان قبل ذلك ، عندما حركة الاجتهاد اللغوي والفكري والتشريعي والفقهي في حياة الأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة وذلك منذ القرن الرابع الهجري ، وخسر المسلمون جراء ذلك خسارتين على أقل تقدير: الأولى في تجميد حركة اللغة والقضاء على تطورها ، وجعلها تحيا في سبات ، والثانية : الخسارة التشريعية والفقهية الجديدة التي تبث الحياة في الأمة وتجعلها تواكب مسيرتها الحضارية كما بدأتها بقوة.
وهذا الجانب يقودنا إلى جانب مهم سياسي وفقهي تشريعي أيضا وله أثره النافع في حياة الأمة والدولة ، مؤدى هذا الأمر أن الأمة التي أخذت تتلمس طريقها في النهوض والعودة السريعة إلى الإسلام لا بد من الاهتمام باللغة العربية وإحيائها ، وبث الوعي اللغوي بين الأفراد العاملين في الصحوة الإسلامية بجميع أحزابها وفرقها ، ومن هنا كانت وصية علماء الصحوة بالاهتمام باللغة العربية ذات مغزى كبير ومهم على طريق التقدم في تحقيق الأهداف الموضوعة، فاعتماد طريق النهضة لا بد من فهم النصوص التشريعية القرآنية والنبوية بوصفها مصدرا تشريعيا وكان لازما أن تفهم من جهة لغتها وأساليبها ومرامي معانيها والغوص في مكنوناتها حتى تتمكن من فهم صحيح تشريعي للإسلام في تطورات جديدة بحاجة ملحة إلى حل.
ويبدو أن الضعف في اللغة وفهمها وإدراك مرامي أحوالها أدى إلى عجز الحل التشريعي لأمور حدثت كثيرة ، مما أدى إلى حلها بطريقة أقرب إلى الارتجالية ؛ فولد إشاعة الفوضى والإحساس بعدم الاكتراث ، ومع شيوع هذا الأمر أدى إلى زعزعة داخلية بين صفوف الناس ، فكان له الآثار السلبية على الحكم المبني على الشريعة الإسلامية ، الذي وصل إلى أقصى مدى في اعتماد قوانين أجنبية ، وبذلك حدث الانكسار الفكري الداخلي ، الذي يعد الأساس المتين في انكسار الدول ، فإذا ما التقى انكسار داخلي وانكسار عسكري وسياسي انحطت الدولة وذهب سلطانها.
وهذا كان للأسف مكمن الداء في الدولة العثمانية ، فلم تكن هذه الدولة دولة فكرية تشريعية اجتهادية ، بل كانت دولة ذات توجهات صوفية لدى الحكام وعلية القوم يشيعونها في الداخل بمشاعر دينية وجدانية عامة ، وسيطرة عسكرية وجبروت سياسي في الخارج ، فعندما ضعفت الجيوش سرعان ما تراجعت الدولة وانحسر ظلها ، لتتقوقع في نهاية المطاف في دولة تركيا الحديثة .
وقد أدرك علماء الأصول هذه الأهمية للغة فجعلوا شرط إتقان اللغة العربية أحد أهم مرتكزات الاجتهاد التي لا يستغني عنها المجتهد مهما بلغ من معرفته بالنصوص ، لأنها لغة النص الديني ولغة الفكر والتاريخ المدون ، ومعروف أن الاختلافات اللغوية بين علماء اللغة حادة وجادة تغني وتثري وتقنع وتشفع في الاختلافات الفقهية والأفهام التشريعية محل الخلاف بين العلماء في كل زمان وفي كل مكان ، وهذا بدوره عامل قوة مستتر ومحرك قوي للغة العربية لا بد من الاستفادة منه على أكمل وجه.
وتبقى قضية مهمة في هذا الحديث وهو أن العلاقة بين اللغة وأصحابها تكاد تكون تبادلية وجدلية ؛ فاللغة الحية تحيا في ظل قوم أحياء ، فتعطيهم ما لديها من مكنونات وطاقات ، على أن يعطوها ما لديها من قوة وبأس في التفكير ، ولعله ليس غريبا أن نقول :إن أول تدهور في حال المسلمين كان نتيجة إهمال اللغة ، ولن يعود المسلمون أقوياء فكر ودولة إلا إذا أحيوا لغتهم واهتموا بها ، فهي العنوان الرئيس في حركتهم النهضوية الجادة ، وعلى الدولة أن تعد لهذا الأمر عدته من توفير علماء ومجتهدين لغويين في النحو والصرف والبلاغة وعلم الأسلوب وتستفيد من الفكر الغوي التركيبي والبنيوي الذي يفتح آفاقا لمعرفة العلاقات اللغوية بين الألفاظ وتراكيبها ومعانيها ، مما يسهل عملية الوصول إلى لب اللباب ومعرفة أدق الصواب في مسائل بالغة التعقيد وتحتاج إلى عمق نظرة في التسديد.
(1) الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني ، تحقيق : محمد علي النجار ، عالم الكتب - بيروت ، ج2، ص145.
(2) ينظر على سبيل المثال ، كتاب البيان والتبيين ، أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ ، تحقيق وشرح ،عبد السلام محمد هارون ،ج4 ، فهارس التحقيق ، فهرس اللغة ، يقول المحقق: " وهذا القسم الأخير قد تضمن كثيرا من الألفاظ التي لم تنص عليها معجمات اللغة المتداولة" . ص(193).
(3) المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، تحقيق : فؤاد علي منصور ، دار الكتب العلمية - بيروت ، الطبعة الأولى ، 1998، ج1 ، ص52
(4) بيان إعجاز القرآن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر ، تحقيق: محمد خلف الله ، ومحمد مندور وزغلول سلام ، القاهرة ، دار المعارف ، 1976، ص(26-27).