لا تزال الإدارة الأمريكية المحافظة تخط كل يوم خطا ينبيء بنهايتها, فهي تتخبط بعد فوز الديمقراطيين بأغلبية مجلسي الشيوخ والنواب نتيجة الفشل السياسي والهزيمة العسكرية في العراق، وإجبار بوش على كسر رأس مثلث الإرهاب المحافظ باستبعاد وزير دفاعه المغرور رامسفيلد لامتصاص غضب الناخب الأمريكي، وأغلب الظن – حسب التقارير الأمريكية- أن الولايات المتحدة الأمريكية بين خيارين لا ثالث لهما: ([1])
الأول: الالتفاف على فكرة الاحتلال وإعادة الانتشار في مناطق خارج الكتل السكنية شمالا وجنوبا بإغراءات
لسوريا وإيران أو لأحد هما دون الآخر.
والثاني : حزم الأمتعة الأمريكية من العراق والعودة بها إلى حيث أتت مع إعداد الساحة لتولي إسرائيل بصورة كاملة مقاليد الوكالة الكاملة في المنطقة، وهو خيار قد يبدو مستبعدا مؤقتا ولكنه أحد الاحتمالات المتاحة أمام الديمقراطيين بعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولكن مازال هناك مسألتان معلقتان وهما: ([2])
1) قلق الحكومة الإسرائيلية ( الوكيل المعتمد للاستعمار ) في هذا الوقت بالذات من تراجع المد الاستعماري الأمريكي في ظل صحوة المقاومة الإسلامية بعد هزيمة الجيش الإسرائيلي على يد المقاومة اللبنانية، فلم يكن التراجع أو الانسحاب الأمريكي متوقعا أو مطروحا قبل تحقيق الأجندة الإسرائيلية كاملة في المنطقة من تصفية الملف النووي الإيراني والقضية الفلسطينية والاندماج والهيمنة الاقتصادية على السوق العربية، ولكن ها قد جاءت الانتخابات بما لا تشتهي إسرائيل (ولا يعني هذا أن الديمقراطيين أقل دعما لإسرائيل من المحافظين الجدد).
2) المستنقع العراقي بكل ما يحمل من ارهاصات ,حيث توقع كل من ريتشارد هاس رئيس المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية وبرجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بأن مصير أمريكا في العراق والآثار المترتبة على إخفاقها هناك وعدم وجود حل شامل له وللمنطقة مؤكدين على ان نتائجه ستكون مثل آثار حرب السويس على الإمبراطورية البريطانية وزوالها ولكن
الفارق الوحيد بين الحالتين هو عدم وجود بديل يملأ الفراغ الأمريكي في المنطقة في حين وجد البديل الأمريكي لبريطانيا وفرنسا بعد حرب السويس فورثت أمريكا التركة الاستعمارية في الشرق الأوسط والعالم أيضا.
ويظهر حاليا على السطح ثلاث قوى إقليمية ستتنازع النفوذ مستقبلا وفق تحليل معظم مراكز البحث الأمريكية، منهما دولتان حسم أمرهما أما القوة الثالثة فما زالت قيد التكوين، ويمكن تسميتها "بكتلة المقاومة" في المفهوم العربي (والراديكالية من المنظور الأمريكي الصهيوني).
والقوتان الإقليميتان المقصودتان هما : "إسرائيل وإيران"، فإسرائيل كانت إلى وقت قريب تحاول بمساعدة المحافظين الجدد تفريغ الساحة والاستئثار بالهيمنة المطلقة من خلال نزع المعادل التكنولوجي النووي من إيران، ولكن العوامل الداخلية والظروف المحيطة تتحرك في اتجاه آخر.
لذلك سيتفرغ المحافظين الجدد (فيما تبقى من ولاية بوش) وإسرائيل وحلفائهما الغربيين ضرب المشروع المقاوم بشتى الوسائل والإمكانيات خلال الفترة اللاحقة بتبني استراتيجيات ناعمة لتفتيت المنطقة وشفط مواردها المالية ومقوماتها الاقتصادية بعدد من التكتيكات المرحلية مثل:
1) شق صف سوريا إيران:
لأرجح أن تصريح وزيرة الخارجية البريطانية بضرورة إدخال سوريا وإيران ضمن العملية السياسية في العراق هو طعم أمريكي بمذاق بريطاني لجر سوريا نحو تسوية محتملة طويلة المدى مقابل تقديم إجراءات على الأرض تستثمرها أمريكا في تثبيت احتلالها للعراق مقابل وعود إسرائيلية أمريكية باستعادة الجولان إلا قليلا.
2) محور الشيعة والسنة:
اللعب على الجانب النفسي لخلق وتعظيم الاستقطاب الديني من خلال عدد من الأقلام والساسة العرب لإضعاف الجانبين، وأظن أن تصريح أولمرت للصحافة الأمريكية بوجود أرضية مشتركة بين إسرائيل وبعض الدول العربية المعتدلة، يصب في نفس اتجاه ضرب الصف الإسلامي في الصميم.
ستحاول أمريكا وإسرائيل استنفاذ موارد المنطقة المادية والمعنوية من خلال استنبات محاور نووية متهافتة لاستنفاد موارد المنطقة في نشر محطات نووية سلمية ومتخلفة تتصور أنها ستضرب بها أكثر من عصفور في وقت واحد، وهم: تنويم الشعوب العربية بخديعة المشاريع النووية، وامتصاص الفائض البترولية وأقوات الشعوب العربية في برامج خاسرة، وإضعاف نفوذ إيران في المنطقة.
وتكاد آراء المحللين السياسيين تجمع على أن المنطقة العربية مقبلة على تغيرات دراماتيكية خلال العقد الحالي، وستكون الفوضي أحد ملامح المستقبل القريب، وأرجح أن يكون أكبر الضحايا المنتظرين لنهاية الإمبراطورية نظم الحكم العربية الأكثر خضوعا والتصاقا بالحبل السري لماما أمريكا.
([1]) المركز الاستراتيجي للدراسات الدولية: http://www.csis.org
([2]) سمير أمين، ما بعد الرأسمالية المتهالكة، ط1، ار الفارابي، 2003.