بعد أن تخرج مصطفى من مدرسة المعلمين، عين مدرسا في مدرسة قريتنا الإبتدائية.. فاستقبلناه إستقبال الضيوف والمصلحين في المجتمع، وشعر هو بعظم المسؤولية والأمانة، هاهم هاؤولاء الريفيين يعطونه فلذات الأكباد بين يديه.. وهم الذين لايثقون في الغريب. سأل نفسه : إن الأب لا يسلم إبنه لأحد بطوعه واختياره إلا للمعلم في المدرسة.. إنه يقضي به ست ساعات دون أن يفكر الأب في مصير إبنه.. وماذا يتلقى؟
لا إله إلا الله.. ما أعظمها من مسؤولية!! كان يفكر دائما في دعوة الناشئة إلى الخير فيجد منهم قبولا كبيرا عكس ما يسمعه من زملائه من أنهم صغارا لايفقهون مايقول. لقد وجدهم يبادرون إلى الصدقة إن حدثهم عن فضلها.. والمسارعة إلى لبس الحجاب عند البنات إن رغبهن في ذلك.. المواضبة على الصلاة وحلقات تحفيظ القرآن من الأبناء الصغار إن هو حرص على الصلاة في المسجد معهم.. بل وحتى صلاة الفجر التي هجرها أكثر المسلمين في قريتنا إلا من رحم ربك.. قائلين: لقد حدثنا سيدي مصطفى عن فضلها!! وكانت سيدي تطلق منا نحن الصغار وقتها على من هم أكبر منا سنا، من عرفنا ومن لم نعرف، فما بالك بالمربي والمعلم.. لقد استطاع أن يجعل جلهم يلتحقون بحلقات تحفيظ القرآن الكريم في المسجد الوحيد في القرية.. كان يشرف بنفسه غالبا عليهم ويحمل الهدايا..
كان همه أن ينال أجرهم.. أحبه الصغار والكبار.. واحترمه زملائه حتى صاروا ينادونه "سي مصطفى" وخاصة أن زوجته الوحيدة التي كانت ترتدي الحجاب وقتئذ، إذ كان حجاب المرأة الريفية وقتها عبارة عن قطعة قماش سوداء أو ذات ألوان أخرى وفوقها غطاء من الصوف، تسمى الأولى ملحفة أو "حرام"، وغطاء الصوف "عجار".. ودخل بسلاسة في الحياة العامة في القرية هو وعائلته دون صعوبة تذكر، يجلس معنا على التراب، يأكل معنا كسرة الشعير مغموسة في زيت الزيتون مع قليل من الزيتون المملح.. هذا إذا نظرنا إليه أنه من أهل المدينة.. لم يكن يتردد عن الدعوات التي تقدم إليه من طرف العائلات القروية رغم بساطتها، بل يبادر هو إلى استدعاء كثير منهم وخاصة تلك العائلات التي يراها لاتحافظ على العبادات.. كان فهمه أكبر من زملائه الآخرين.. فلم تكن ثقلا كما يعتبرها غيره.. سأل التلاميذ في بداية قدومه: من يرغب منكم أن يصبح مسلما مستقيما، بل داعية إلى الله؟ أجابوا جميعا: كلنـــــا ياسيدي! إذن فلنبدأ على بركة الله... ليحضر كل واحد منكم كتيبا، أو قصاصة من مجلة نافعا قرأه. وبعد أن أحضر التلاميذ المطلوب.. اختار هو مارآه مناسبا لتلك البيئة، وجعلهم يتبادلون ذلك بينهم بحيث يدور الكتيب على كل التلامبذ وأوصاهم أن يقرأوا ذلك لأهلهم !! واستمر المشروع الدعوي المبارك بعد أن جعل تلميذا مسؤولا عن الإعارة.. وذات يوم.. حمل إليه أحد التلاميذ رسالة خاصة..
فتحها فقرأ بعد البسملة والثناء على الله تعالى وعلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه: "أيها المعلم الطيب الفاضل: هذه رسالة شكر وعتاب.. فلا تتصور كم كان أثر الكلمات التي قرأها علينا إبننا يحيى من الكتيب الذي رجع به إلى البيت وعنوانه تربيتنا الروحية لصاحبه سعيد حوى.. نعم لقد قلب هذا الكتيب حياة أسرتنا بأكملها.. فأنا لاأعرف من العربية إلا إسمي، ولا هم لي إلا إعالة العائلة.. وزوجتي لم تدخل مدرسة قط، فهي لا تعرف عن دينها شيئا.. فكانت حياتنا بعيدة عن منهج الله.. الصلاة هي آخر ما نفكر فيه.. فلم تكن يوما موضوعا يطرح في بيتنا.. فلم نؤمر بها فضلا عن أن نضرب على تركها!! هذه حياتنا..
ولكني أعرف من نفسي أن هناك طمأنينة ربانية تنقصني.. هناك عبء وضبابية أعيشها.. وكنت قد استمعت لإبني من باب معرفة مفهوم المتدينين أو ما يسمونكم في هذا الوقت الخوانجيّة.. فشعرت بأن صاحب تلك الكلمات يناديني بقوة: هلم إلى طريق السعادة الحقيقية الذي افتقدته، شعرت وكأنه يهزني بعنف..
نعم.. لقد كان النداء الأول الذي أيقظني من رقدة طالت مدتها.. لقد أمضيت أيامي وراء دابتي والمحراث أفكر في مانقله لي إبني من ذلك الكتيب.. وأنتظر كتابا آخر من إبني.. وقد أوصيته بذلك.. إني بدأت أركع لرب العزة، أدعو لي الله أن يغفر لي ما أسلفت.. واسمح لي في توجيه رسالة عتاب عن طريقك إلى زملائك، فاعذرني إن قلت لهم: لقد قصرتم كثيرا كثيرا.. وخاصة أن معظمكم أبناء هاته القرية.. وتعرفوننا جميعا، فأبنائنا بين أيديكم أمانة.. وهم رسل خير إلى أهليهم.. فاتقوا الله وأدوا الأمانة كما ينبغي. فكم هم الحيارى أمثالي الذين يفتقدون الكلمة الطيبة.. رغم قلة ثمنها كما علمت.. أيها المعلم الفاضل: نعم لقد تغيرت أسرة كاملة أو هي على وشك.. بكتيب قليل الثمن، فهل أنتم مشمرون مواصلون..!!"
كم كنا نشعر بالعزة والكرامة، والفرح، والسعادة، والحبور، والسرور، والإشتياق، والإمتنان، ونحن نتجول في شكل دعاة مع المعلم مصطفى بين أبناء القرية، الذي صار يحبذ فيما بعد بأن ننعته بالأخ.. رغم أننا نحن الثلاثة الذين كنا نصطحبه دائما في بداية مشواره القروي لم ندرس عنده بل كنا في الأقسام النهائية أين ننتقل بعدها إلى المعاهد الثانوية.. كان ذاك الشعور يختلط فيه الضحك بالبكاء في بعض المناسبات أو السهرات أو الولائم، ليفضي إلى الرغبة في العطاء.. كان شعورا تعجز الكلمات عن تصويره، لكنه يُبث من رجال أمثاله أهل عزّة عبر الأثير، ليصل إلى أبعد مدى فتلتقطه أجهزة استقبال التوّاقين للتوبة ومعرفة الله، ليغنموا من التجاذب الكوني بين المرسل والمستقبل المؤتلفين المتوافقين في الذبذبات الروحية والإنسانية مهما تباعدت درجات فهمهم..
بعض المشاعر لا نعلم مدى حاجتنا إليها إلاّ بعد أن نعيشها، والشعور بعزّة الله وحب رسوله أحد هذه المشاعر، التي إذا ذقتها مرّة تتساءل كيف مضت حياتك السابقة بدونها، فلا تتمنى أن تعود إلى ما قبل تلك الحالة، لأن هذا يعني بالنسبة لك السقوط من شاهق.
اليوم بعد مايقارب ثلاث عقود أهداني الأخ مصطفى زوجة خطت الخطوات الأولى في معرفة التدين على يديه.. فينبغي علي أن لا أنسى ولا أفرط في تلك الذكريات والأيام التي صار أهل القرية بعد ترحيله منها يقولون: " الله يرحم أيام مصطفى، كانت أيام زينة".
لم يكفيه أن ساهم في إخراج جيل من الرجال أرخى وهرّأ الحبس فيما بعد عظامهم.. بل أخرج نساء في مثل الخنساء والرميساء.. حيث كنّا يهنأن وهن في السجون بشعور العزّة والكرامة التي انتشر أريجها في تلك الأيام في كل مكان، بل أذقن أبناءهن فيما بعد حلاوته.. درّب كثير من أبناء قريتنا على أخلاق النبل والشرف والمطالبة بالحقوق ولو كلّفتهم أعمارهم.. لقد نشط في تلك الفترة في قريتنا الحراك الثقافي، والوازع الديني، فكنت ترى الفقه مارا بجانبك، أو السنة تخطو حذوك، كما كانت تلقب مجموعة من القرية بعض الأفراد منا، الذين حاولوا التفقه في دينهم..
لقد كانت تلك الأيام كافية بأن رسّخت فينا الثقة بالنفس، وتجعلنا الآن نعيش ذاك الماضي وكأنه بين أيدينا..