تمهيد
تحدثت في البحث الأول عن سورة هود وماتحمله من معانٍ وتوجيهاتٍ عظيمة للمصلحين في كل زمان، فكانت تلك السورة منارةً قرآنية لكل من حمل همّ الإصلاح والنهوض بالمجتمع من ركام الانحلال والفساد والظلم والإكراه، كيف لا وهي السورة التي قال فيها النبي عليه صلوات الله (شيبتني هود وأخواتها)، وأنا حقيقةً أذهلتني معانيها وأدركت ذلك الفضاء المعنوي من التوجيهات القرآنية التي تؤسس للمجتمع الرشيد، مجتمع اللاإكراه والحرية الفكرية، وهو الذي سعى لتحقيقه من ورد ذكرهم من الأنبياء في السورة نفسها، وكذلك يلاحظ أي قارئ للقرآن ذلك الطيف من المعاني المتفرقة في سور أخرى، والآيات الكثيرة التي تؤصل لهذه المنظومة بطريقة تثير الاستغراب من كمية هذه الآيات المهملة في واقعنا، ومايهمل معها من سلوك النبي خلال الدعوة
بمراحلها المكيّة والمدنية ..
وسأحاول الآن تسليط الضوء على الآية المحورية والتي تؤصل للاإكراه وهي الآية 256 من سورة البقرة (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ولنحاول أن نضع الآية ضمن سياقها في السورة ثم سنعمل على الخروج بها لوضعها ضمن السياق القرآني العام، ولابد من الإشارة إلى أن محوريتها لاتعني فردانيتها، فهناك الكثير من الآيات التي ترسخ هذا المفهوم وسأحاول المرور على بعضها أثناء الحديث ...
موقع الآية ضمن فضائها .. وما يحمله السياق من معانٍ عظيمة:
نجد من خلال تتبع مسار الآية أنها سُبقت بآية الكرسي وهي تنطق بتقديس الخالق في كل كلمة من كلماتها، فهو الحي القيّوم الذي لاتأخذه سنة ولا نوم، يعلم مابين أيدي عباده وما خلفهم، ولا يحيط أحدٌ بعلمه، وسع علمه كل شيء، وأحاط بكل شيء، وسع كرسيه السماوات والأرض ولايثقل عليه حفظهما، كما لا يعجز عن إحضار مَن في ملكوته طوعاً أو كرهاً فيأتونه مسلمين مؤمنين، فلا يَؤوده حفظهما ولا يؤوده أن يحضر من فيهما طائعين أو مكرهين لو شاء ذلك، ولكنه الحرص البشري عندما يوضع في غير مكانه ويأخذ منحىً لم يأمر به الله في التعامل مع المعاندين والمخالفين، وكذلك عندما يَغلب على بعض المخلصين دافع أسلمة المجتمعات فيتمّ حرق المراحل بشكل غير منظم نتيجة الحرص والإخلاص والرغبة بالتغيير السريع، ولكننا نذكر حين كان حرص الملائكة على أن لا يتولى خلافة الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فكان الجواب الإلهي المتعالي بأن الله يعلم مالم يكونوا يعلمون، ولا أظن أن أحداً من البشر مهما بلغ به الحرص سيبلغ مرتبة الملائكة، فاللخالق عز وجل حكمته في هذا التنوع والاختلاف بين البشر، وماعلى الرسل وأتباعهم إلا البلاغ والموعظة الحسنة، أما مايزيد على مبدأ الموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن فهو دخول في تيه الغي وابتعاد عن الرشد الذي أوصانا الله به كما سيمر معنا بعد قليل ..
الآية المحورية في هذه المنظومة .. هل تحتمل أكثر من قراءة ؟
ثم تأتي الآية (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) بعد هذا التقديس مباشرة، لتشكل مفصلاً أساسياً بين الحديث عن الذات الإلهية وقدرتها وهيمنتها على الكون بمن فيه، وبين الخطاب المختص باعتقاد الإنسان وإيمانه بالخالق وقدرته (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا)، والملاحظ من خلال هذا التسلسل أن كلمة اللا إكراه تشكل مايمكن أن نطلق عليه الجسر أو حلقة الوصل بين الذات الإلهية وبين إيمان الإنسان بها وكفره بالطواغيت، فهي تشكل الطريق للوصول إلى تقديس الخالق والتسليم بعظمته وهيمنته، وهذا المنهج ماتعتبره الآية رشداً وتميزه عن المناهج الأخرى التي قد تتراوح من حيث انغماسها في الغي بحسب بعدها عن منهج الرشد، والغي هو الابتعاد عن الصواب والحق الذي يمثل بحسب الآية هنا الابتعاد عن اللا إكراه واتباع الطواغيت ..
وإذا حاولنا قراءة الجزء من الآية (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ) على أنه كلام يخاطب المؤمنين كتوجيه لهم لتوضيح طريقة التبليغ "أو بالأحرى توضيح طريقة التعامل مع من لم يكفر بالطواغيت"، فإننا نجد من خلال هذه القراءة أن الخطاب منسجم مع نفس روح الآيات القرآنية الأخرى من حيث الأمر بالتبليغ والكف عن أي أسلوب آخر من وسائل الإجبار أو الضغط أو مايقابلها هنا "الإكراه"، حيث أنه ليس لنا من الأمر شيء وليس علينا إلا البلاغ ..
وبالنتيجة فإنه ومن خلال هذه القراءة الموجهة للمؤمنين بعد تأصيل اللا إكراه كخط أحمر لا مجال لتجاوزه، يبقى الحسابُ حساباً أخروياً لمن لا يلتزم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وليس من شأن المبلّغين اتخاذ أي إجراء دنيوي في حقه، فالذي يلتزم بذلك عن طواعية وحرية اختيار فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهل هنالك أعظم من هذا التشبيه كترغيب لمن تميل قلوبهم نحو الإيمان، وهل أعظم منه للمؤمنين أنفسهم حين تواسى أنفسهم بمثل هذا الكلام من الله عز وجل أمام معاندة الجاحدين، هل هنالك ماهو أحبّ إلى قلوبهم من وصفهم هم أنفسهم بالمستمسكين بالعروة الوثقى!
والجدير بالملاحظة هنا تداخل معاني اللا إكراه مع معاني الرشد والكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإذا أدركنا كيف أن اللا إكراه هو السبيل للرشد وأن هذه البيئة هي الوسط الوحيد الذي ينتج براءاً حقيقياً من كل الطواغيت ولجوءاً صادقاً إلى الله، تبين لنا عظمة وصف التمسك بالعروة الوثقى، وهل هنالك أجمل وأدق منه وصفاً للتمسك بمنهج (اللا إكراه والرشد وترك الطواغيت) كمن يتمسك بالعروة الوثقى المأمون انقطاعها المحكمة الربط، والذي قد يهوي في هوة سحيقة كل من يتخلى عن مثل هذا المنهج، فهو من هذا الدين بمثابة العروة من الحبل، ومن أراد تسلق الحبل أمسكه من عروته وتتبع خطوطه الأساسية التي لايمكن تحقيق متطلبات المعتقد بدونها .
قراءة أخرى .. مكمّلة :
ولكن عادة مايغيب عن بالنا أن الخطاب القرآني قد يقرأ أكثر من قراءة دون أن يحدث التعارض بين القراءات بل يمكننا أن نقول أنها عادة تكون متكاملة، فحين يأتي القرآن على ذكر كلمات من قبيل الرشد والغي والكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإن الكلام موجه لجميع البشر وليس مختصاً بفئة دون الأخرى، فالتصنيفات القرآنية تصنيفات مبنية على صفات تتصف بها النفس البشرية أو المجتمعات الإنسانية، وليست تصنيفات ذات علاقة بالولاء لمجموعة معينة أو الموالاة بمعنى اتباع المجموع بتصرفات تحكمها الظروف والبيئة فقط، وهذا ماقد ينطبق أيضاً وبشكل أوضح على كل الآيات التي تخاطب بني إسرائيل مثلاً، إذ لو اعتبرنا أن المعنيّ بالكلام هم فقط بنو إسرائيل لعطلنا جزءاً كبيراً من القرآن، ولوقعنا في نفس أخطائهم ولاتبعناهم حذو القذة بالقذة، دون الاستفادة من عبر التاريخ، فالآيات الموجهة للكافرين مثلاً، قد يقرؤها العقل المؤمن مستحضراً في مخيّلته نماذجَ معينةٍ للكافرين، وكذلك قد يقرؤها هذا العقل على أنها موجهة له من باب التوجيه والتحذير أو للفت الانتباه إلى ماقد يقع به المؤمن نفسه من تجاوزات وسلوكيات تنتمي للتوجه الآخر دون أن يعطيها حقها من التقييم وهكذا ..
والمقصود هنا أنه يمكن قراءة الخطاب المتضمن في الآية نفسها قراءةً موجهةً للمسلمين أنفسهم، فالطاغوت هو كل ذي طغيان علـى الله فعبد من دونه، سواء كان المتعلق به إنساناً أو شيطاناً أو وثناً أو أي شيء آخر .. والمؤمن بطبيعة الحال ليس معزولاً عن تأثير الطواغيت، إن لم يكن في كثير من الأحيان عرضةً لها أكثر من غيره كنوع من الابتلاء، وبالتالي فالحديث عن هذه المعاني المتصلة "من إكراه وغيّ وطواغيت" حديثٌ يرتبط بالنفس المؤمنة كما يرتبط بغيرها، لأن النفس البشرية ذات طبيعة واحدة وأمراضها متشابهة، فالنفس المؤمنة معرضةٌ بعد دخولها في الإسلام للمؤثرات المختلفة وبالتالي فالإيمان يزيد وينقص هنا بناءً على موقفها مما يعترضها من ابتلاءات وطواغيت، وبالتالي فإن الخطاب في الآية يبقى نفسه دون أن يطرأ عليه أي تغيير، فلا إكراه مع النفس المؤمنة أيضاً في حال عجزت وسائل الإقناع، فلربما لم يكن الخلل في هذه النفس وإنما في البيئة والتربية والعادات وربما في وسائل الإقناع المطروحة نفسها، وبالطبع لايعتبر هذا الأمر تبريراً لتلك النفس ولا تثبيطاً لهمة العاملين على الإقناع، وإنما أعتبره رأياً أسجله أمام كل من يترك وسائل الإقناع المتاحة لجوءاً إلى الوسائل الإكراهية المحرّمة، أما مايخص تلك الأنفس التي تستعصي على الإقناع بتفاصيل الدين وتشريعاته التي تلي شهادة التوحيد، فلابد أن نحاول ونصبر ونترك أمرها إلى خالقها...
وإذا تتبعنا الآية التي تلي الاستمساك بالعروة الوثقى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة 257، نجد أن القسم الأول يتحدث عن حالة المؤمنين الذين يتولاهم الله برحمته فيخرجهم من الظلمات إلى النور وهم يدخلون بطبيعة الحال تحت منهج اللا إكراه الذي نتحدث عنه فهؤلاء من المفترض أن التبليغ وصلهم بالطريقة النبوية السليمة فكان إيمانهم راسخاً، أما بالنسبة للقسم الآخر من الآية فيمكن قراءته على وجهين أيضاً:
الأول: ويمثل حال الذين كانوا في الأساس كفاراً وعاندوا واتبعوا طواغيتهم فاستحكمت ظلمات نفوسهم وكانوا من أصحاب الجحيم .. ويبقى اللا إكراه هو الطريق !
الثاني: هم الذين آمنوا ثم بدلوا، فأصبحوا من الخاسرين، والذي يدعم هذه القراءة هو التعبير المستخدم (يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) أي أنهم جربوا النور ولكنهم مالوا عنه وقد يكون لذلك الأمر مسببات كثيرة، وبما أن الآيات تدور في حضرة الكلام عن اللاإكراه، فقد تكون الأساليب الإكراهية التي ذكرناها في البداية مسؤولةً بشكل أو بآخر عن عدم رسوخ الإيمان في قلوب هؤلاء، وبالطبع فإن هذا الأسباب غير محصورة في هذه المسألة فقط، وهذا الكلام هنا يدعم ما استنتجته قبل قليل من أن هذه الآية لاتخص الكافرين وحدهم، وإنما تطال المؤمنين الذين لم يكتمل إيمانهم، وكذلك أولئك الذين دخل الشك قلوبهم فمالوا عن الطريق، ويبقى اللا إكراه هو الطريق ...
هذا بالإضافة إلى توافق المعنى المعتمد في القراءة الثانية مع آيات أخرى وردت في سياق مختلف، أعني تلك الآيات التي تتحدث عن حركة العقل والروح من النور إلى الظلمات ومنها:
"مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النحل 106)،
"إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا" (النساء 137)
"وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 127)
إذن فالآية في سورة البقرة والتي تلت آية اللا إكراه تنسجم في معانيها مع آيات أخرى لا تتحدث فقط عن حرية الاختيار والمعتقد بالنسبة لشخص يدعى للإسلام لأول مرة، وإنما هي تتحدث عن أشخاصٍ انتقلوا إلى الظلمات .. أو شرحوا بالكفر صدراً .. أو آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً ....
وهذا لايعني بأي حال من الأحوال أنني أحاول التخفيف من حدة اللهجة والوعيد في الآيات، بل على العكس جميع الآيات التي تتحدث في هذا السياق تنتهي بكلام تخرّ له الجبال: أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.. لهم عذاب عظيم .. لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً ..
ولكن الذي أعنيه بوضوح أيضاً أن العقاب المنصوص عليه هو عقاب أخروي وليس هنالك ذكر لعقاب دنيوي يتولاه جمع من المؤمنين الغيورين على مصلحة الدين، والذين كثيراً ما يكون حرصهم يعبر عن فهم غير مجمع عليه، أو نتيجة بيئة معينة أو تقليد !
والذي يجب أن أوضحه أيضاً أن الآية التي تلت اللاإكراه والتي تحمل إشارة تخصّ الذين كفروا بعد إيمانهم، وكذلك الآيات التي تنسجم مع هذا المعنى تخضع لنفس أحكام اللا إكراه في التعامل والتبليغ طالما أنه لم يذكر ما ينص على أية عقوبة خارج نطاق الوعيد في الآخرة ..
آيات كثيرة "متورطة" أيضاً بتأصيل اللاإكراه !
وهنا لابد من القول أيضاً أن مفهوم اللا إكراه أو مايعادله من حرية اختيار المعتقد، ذكر في مواضع كثيرة من القرآن إما بشكل مباشر أو من خلال التلميح له بسلوكيات وعبارات تصبّ في نفس بوتقة اللا إكراه وسأورد هنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 29)
وقال في سورة أخرى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"؟ (يونس 99)
"وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46)
"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل 125). وسورة النحل هذه سورة مكية
"وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ" الأنعام 107
"فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ" (الشورى 48)
"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ" (الغاشية 22- 26).
"إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان 3).
ولا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ". (فصلت: 34)
والملاحظ أن هذه الآيات التي تتمحور حول نفس المعاني هي من التنوع بحيث لا ينفع معها تخصيصها بفئة دون أخرى، فهي تارة توجه للنبي في حواره مع المشركين (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (أفأنت تكره الناس)، (فذكر إنما أنت مذكر) وغيرها من الأيات الكثير ..
وتارة أخرى تكون موجهةً إلى أهل الكتاب بالتحديد حسب مقتضيات وظروف التنزيل (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
ولكن المعنى الجوهري الذي تتمحور حوله الآيات هو محور الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وهي المعاني الملازمة لمفهوم اللا إكراه، فدعوة اللا إكراه قائمة على الأدلة العلمية والحوار الحسن، وما تحمله هذه الحالة من أجواء التسامح والمغفرة وتهيئة الظروف المناسبة للعقل والقلب مما يهيئ لحالة إيمانية راسخة، بعيدة عن الإجبار والحصار المجتمعي، وهي أمور لابد من استحضارها في كل حوار وكل موقف، فإذا كنا حملة رسالة وفكر، فهذا لايبيح لنا اللجوء إلى وسائل خارجة عن القيم القرآنية العامة، ولايبرر حرصنا إكراه الناس على التزام أي فكر كائناً ماكان (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ..
إذن لامجال لحصر مفهوم اللا إكراه بأهل الكتاب دون غيرهم، بحيث يصبح مضمون الآية عند البعض متعلقاً بالتعامل مع أهل الكتاب حصراً ووضع خصوصية لهم تقتضي وجود أجواء مختلفة من الحوار والتبليغ مختلفةً عما قد ننتهجه مع غيرهم من المنكرين، والأمر الذي أشكل على البعض في مفهوم اللا إكراه والذي جعلهم يأخذون المفهوم بهذه الخصوصية، هو ما بدر من النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المشركين، حيث فرق في التعامل بينهم وبين أهل الكتاب .. وهو ما سأحاول تسليط الضوء عليه بعد قليل ..
في سياق الآية تتجلى أجمل المعاني من جديد :
وبعد محاولة قراءة وفهم مفردات الآية، بالإضافة إلى ما حاولنا إيضاحه من خلال قراءة سورة هود وما تحمله من معانٍ عظيمة لا يمكن فصلها عن هذا المفهوم، أعود مرة أخرى إلى السياق ضمن السورة نفسها والذي سيساهم بتوضيح أبعاد أخرى مهمة لاستكمال المعنى، فبعد الحديث عن عظمة الله عز وجل ثم تأصيل الطريق المناسبة لدعوة الناس إليه سواء كانوا من المنكرين الذين لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم أم كانوا من الذين آمنوا ثم ضلوا، يأتي المنهج القرآني كعادته على ذكر بعض الأمثلة من قصص الأولين بما يرسخ المعنى المطلوب ويضعه ضمن نطاق التطبيق، ففي نفس الوقت الذي يخاطب فيه النبي لتقديم الحلول والأجوبة لما يعترضه من عقبات على أرض الواقع، تضرب الآيات أروع الأمثلة من عمق التاريخ، وليس من قبيل المصادفة هنا أن يأتي ذكر إبراهيم عليه السلام، كيف لا وهو مؤسس هذا المنهج الحنيف ككل، وهو الذي دعا قومه ملتزماً بمبادئ الحكمة والموعظة الحسنة والاستدلال العقلي بكل ما أوتي من علوم عصره، ولم يقف متشنجاً بعاطفته الإيمانية أمام ما واجهه من تحديات عقلية فكان الحوار العقلاني التالي بينه وبين الذي حاجّه في ربه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) البقرة 258، وليست مصادفةً أيضاً أن يأت القرآن على ذكر الحوار بين إبراهيم وربه في هذه اللحظات بالذات (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:260]، وهنا يتجلى لنا مشهد من مشاهد العظمة الإلهية في تقبل حوار إبراهيم واستفساراته، والمشهد من الوضوح بحيث يصعب تعمية العيون عنه، وإبراهيم كان قد شرح بالإيمان صدراً وأسلم وجهه لرب العالمين قبل ذلك، ولكن إبراهيم جدّ المسلمين هو من يعرف الإسلام حق المعرفة، ويدرك ماهي حقيقة التسليم أكثر مما نفهمها نحن المسلمون، ولا أظن أن حواراً من هذا المستوى قد يقبله الكثيرون من أشخاص مثلهم، ولكن الله يضرب لنا الأمثال ويقرب لنا المشاهد بما يتصادم مع بديهياتنا الفكرية، ليشكل لنا تلك الصدمة المعرفية التي لابد منها لعلنا نعود إلى " الرشد " ونذر " الغيّ " .
والجدير بالذكر أيضاً أن الهدف من حوار إبراهيم كان الوصول إلى الإطمئنان، هذا الإطمئنان الذي يرفع من درجات الإيمان والمعرفة بالله وقدرته، فإذا كان الإيمان في أضعف درجاته حالة توجه إلى الله وشعور بقدرته، فإن الإنسان مطالب بالعمل على رفع هذه الدرجات، وهو الأمر الذي يعيشه الجميع حين يتواجد لديهم هذا التوجه الأساسي وكذلك تعترضهم التحديات والأسئلة التي تحوم حول هذا الأساس، والتي من المفترض أن يبحث لها عن إجابات تفاعلية تطور تلك الحالة الأساسية تيمناً بإبراهيم عليه السلام.
وبالعودة إلى الآية نجد أن الرد الإلهي كان متناسباً مع عظمة الاستفسار، فظهر لنا الأمر وكأنه مشهد من علم استدلالي تجريبي يتمثل في كلمات واضحة (فصرهن إليك)، (اجعل)، (ادعهن)، (يأتينك سعياً) لتكون النتيجة (اعلم) وهو علم اليقين، فلقد كان حواراً مع الله حول قدرة الله، ولا أظننا نستطيع قبول وتحمل تداول مثل هذا الحوار فيما بيننا في أمور وضعت لتنظيم المجتمعات من شرائع وقوانين وحدود، ولكن الله عز وجل قبلها من إبراهيم عليه السلام في الأمور الإيمانية الكبرى، ولم يكن جوابه له أنك يا إبراهيم بمجرد إعلانك الدخول في الإسلام فإن عليك الاستسلام بدون قيد أو شرط أو استفسار أو شك، وأن ذروة سنام العبودية أن تغالب ما يطرحه عليك العقل من أسئلة، فحوارك هذا قد يكون تشكيكاً في قدرة خالقك وتقليلاً من تنزيهه وتقديسه!
إنه درس كامل تقدمه آية مكونة من سطرين، درس في لا إكراه الخالق لخلقه، فكيف بنا ونحن نناقش إكراه الخلق بعضهم لبعض!
إنها رحلة الشك واليقين التي عاشها إبراهيم، ونعيشها نحن يومياً في كل مسألة تعترضنا، في كل آية تعرض علينا، في كل حكم نريد فهم المقصد منه، وليست الرحلة إلى اليقين نقلةً نوعيةً واحدة من صف الكفر إلى خندق الإيمان وبعدها فلتسكت الألسنة عن طرح الأسئلة ..
ولا تقف المعاني المستوحاة عند هذا الحد فقط ، فللموضوع علاقة مباشرة ببنية منظومة اللا إكراه المدعّمة بأسس الحكمة والموعظة الحسنة ، فلم يكن لإبراهيم أن يجادل قومه ويدحض أدلتهم بذلك المستوى العالي من العقلانية والحكمة واللا إكراه ، لو لم يكن يعايش تلك الحالة مع نفسه ، وهو مادفعه إلى البحث عن الإطمئنان بعد الإيمان دون أن يعيقه إيمانه عن طرح الأسئلة المصيرية ، إنها حالة متكاملة من السلام والوعي الداخليين اللذين لابد لهما من الانتقال من نطاق النفس الداخلية ليعمّ الأسرة أولاً ثم المجتمع المحيط ، وهذه هي حالة الرشد التي تقابل الاستمساك بالعروة الوثقى ..
وبنظرة معاكسة نجد أنه لايمكن لمن يعيش حالة الإكراه والشعور الداخلي بأن كل مافي الدين واجب فرض عليه بنتيجة ثقافة إكراهية سائدة في بيئته المنزلية ثم في المجتمع ككل ، أقول أنه لايمكن لمن يعيش تلك الحالة أن يصدّر جواً من الوعي والانفتاح وممارسة حرية الفكر مع الآخرين ، ولن يستطيع أن يكون وهو يحمل هذه المنظومة إلا ممثلاً حياً لحالة "اللا رشد والغي والإكراه "، بكل ماتجسده هذه المصطلحات من ممارسات يُقهر بها المخالفون ويضيّق عليهم للخضوع عنوة كما خَضَع أو أُخضع هو أول مرّة ربما في مراحل مبكرة من الطفولة ...
وكذلك يأتي السياق على ذكر الرجل الذي مرّ على قرية وهي خاويةٌ على عروشها في الآية 259 من سورة البقرة ، فيُظهر لنا السياق مرّة أخرى بعداً آخر ومفاهيم متجددة ، فهذا الرجل أرسله الله إلى تلك القرية ، فقد كان مؤمناً بوجود الله ابتداءً ، ولكن كما هو معروف ومشاهد في الواقع فإن إيمان العقل البشري بوجود الخالق وتسليمه بوجوده وهيمنته ، قد لايمنع الأسئلة المتعددة التي كثيراً ماتبدو للوهلة الأولى مناقضة لحقيقة الإيمان نفسها ، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن الإيمان فيه مايعتبر حداً أدنى ويبقى على الإنسان السعي والبحث والعمل لترقية درجات الإيمان ، وهنا تأتي هذه القصة لتعلمنا كيف أن هذا الرجل المؤمن وهو المرسل من قبل الله لتلك القرية مع إيمانه بقدرة الله على ابتداء الخلق إلا أنه لم يكن ليصل إلى مرتبة العلم أو اليقين بقدرة الله على بعث الحياة في أجسادٍ بعد موتها (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ، فنقل لنا القرآن ذلك المشهد الذي يجسد تعامل الذات الإلهية مع المحاكمات العقلية عند الإنسان ، كيف لا وهو الله اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق ، ويتجسد من خلال ذلك المشهد اللا إكراه بوضوح ، وهو مرّة أخرى " لا إكراه" الخالق لخلقه متمثلاً هنا بأدلة علمية يشهد نتائجها العقل الذي يتأرجح بين الشك واليقين ، ولا يفرض عليه الفهم بأي شكل من الأشكال ( فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) ، وأمام عظمة الأدلة لابد للعقل المؤمن أن يتبين الحق من الباطل وصولاً إلى الإيمان الحقيقي (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، أما بالنسبة لمن لم يستطع التمييز فعاند في وجه الأدلة فأمره إلى الله ، ولا نلتزم إلا ما أمر به الله في التعامل مع من لم يقتنع بما ندعو إليه ، وفي الحقيقة إن مايمكن أن نستوحيه من القصة أكثر من عبرة فهي وإن كانت تعتبر آيةً ومعجزةً لبني إسرائيل في ذلك الزمان تعبّر عن قدرة الله عز وجل من خلال إحيائه لذلك الرجل ، فأرى أن الآية الأعظم والعبرة الأعمق في توجيه عقولنا نحو منحىً آخر في التعامل مع الخصوم الفكريين ، وهو الأمر الذي يخص منهجياتنا العلمية في كيفية إثبات أمر أو نفيه بطرق الاستدلال العلمي التي تنسجم وآليات الفهم العقلية ، والتي ستسير بالعقل نحو تبين الحق ليرتقي لدرجة علم اليقين ، وهذا ماتمثله هذه القصة هنا وماتعبر عنه أيضاً حوارية إبراهيم التي ذكرناها قبل قليل ..
هذا هو الجو الذي تتحرك ضمنه الآيات ولا يمكن سلخها من سياقها ، والآية كما لاحظنا ليست آية مفردة معزولة يسهل اجتثاثها من المنظومة القرآنية ، فهي مدعمة بالكثير من الآيات الأخرى ، وما قصص الأنبياء مع أقوامهم إلا تجسيد واقعي تاريخي مثبت للمبادئ التي تقوم عليها هذه الآيات ، بما فيها طبعاً تجربة النبي الكريم ..
عوائق في طريق اللاإكراه :
بعد هذا التفصيل في معاني الآية ضمن سياقها، لابد من ذكر بعض ما يعترض هذا المفهوم من معيقات، قد يعود سببها صعوبة التطبيق أو الموروثات التاريخية أو وجود آيات ومبادئ قرآنية أخرى قد يبدو للوهلة الأولى تعارضها مع هذه المفاهيم، كما لاننسى تأثير الثقافة الاستبدادية التي تعمّ الكثير من المجتمعات انطلاقاً من انعدام أجواء الحوار داخل الأسرة ثم لتشمل كل أركان المجتمع، مما يخلق صعوبةً أمام فهم هذا المفهوم من قبل أشخاص تربّوا على هذه الثقافة وحملوا موروثاتها وفهموا الحياة من خلالها، وقرأوا التاريخ بأعينها ..
إذن فالبنية الفكرية التي تتعامل مع القرآن وكأنه كتاب شعاره "إكراه الآخر على الإسلام"، بنيةٌ لها مبرراتها وظروفها التاريخية والواقعية، وإذا أردنا أن نكون منصفين في تشخيص هذه الحالة فعلينا أن لا نحمل هذه البنية الاستبدادية مسؤولية حملها لواء الإكراه بقدر مايجب أن نساعدها في التحرر من مشاكلها البنيوية، فبنظرة سريعة للتاريخ نرى أنه غَلَبَ عليه الاستبداد عبر عصور طويلة وساد فيه منطق السيف على منطق الحوار العقلاني، الأمر الذي بدأت بوادره بالظهور في مرحلة مبكرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حذر المسلمين ألا يرجعوا بعده إلى عادتهم القديمة بضرب رقاب بعض، أي بمعنى تعطل لغة الحوار وغياب أجواء الحرية الفكرية، وهو ماحدث حقيقةً بعد وفاته بفترة قصيرة، وكذلك ماحدث في تاريخ هذه الأمة من تداخل الاستيلاء على السلطة مع القيم الإسلامية التي كثيراً ما استخدمت بطريقة استغلالية لا أخلاقية لتثبيت حكم استبدادي، مما أدى إلى ترسيخ الفكر الاستبدادي في فكر الأمة والالتفاف الدائم فيما بعد حول منطق القوة لاستعادة الأمجاد المفقودة، ثم انتقلت موروثات هذا الإرث التاريخي لترخي بظلالها على الواقع المعاصر المظلم، والذي زاد من ظلمته الانحدار التاريخي والخمود الحضاري واشتداد قبضة الاستبداد والنزاع على السلطة في كل أرجاء العالم الإسلامي، يضاف إليها التهديد القيمي من الحضارات الأخرى ودخول ذاتنا الحضارية في أزمة عميقة من الشعور بانعدام الأثر على أرض الواقع مع عبء الماضي أمام حاضر يصنعه الآخرون، فحتى الحكمة والموعظة الحسنة والاستدلال العلمي لم يعد متاحاً لهذه الذات من حيث الإمكانيات العلمية التي أصبحت بيد الآخرين، فباتت تلك الذات المأزومة تشكو من الإفلاس الحواري على أسس علمية إلى الدرجة التي أصبحت معها لا تقرأ القرآن إلا قراءة حربية لحروف مكتوبة بالدم، والمفارقة المحزنة والمخزية في نفس الوقت أن النبي وأصحابه الكرام فعلاً كتبوا القرآن بالدم، ولكن بدمائهم هم وليس بدماء الآخرين !
ووقفوا في وجه إكراه الآخرين لهم بتسامح وصبر، وفي نفس الوقت لم يكرهوا الآخرين على اعتناق دينهم ...
والأمر المحزن الآخر أن الجهاد الذي كانت إحدى مبرراته رفع الإكراه والظلم عن الآخرين، تقزّم في مخيلتنا ليأخذ شكل الحالة القتالية الموجهة لإكراه الآخرين على مانحن عليه !
ولاننسى ماقامت به بعض الجماعات الجهادية من تسليط الضوء على المفهوم القتالي للجهاد، في محاولة لإحكام القبضة على المجتمع وأسلمته، بعد قراءة تاريخية مقلوبة لتاريخ نشوء الدولة الإسلامية، فرسّخوا بذلك مفهوم الإكراه في الدعوة مما شوش على المفاهيم الأساسية...
طبعاً هذه كلها محاولة مختصرة لدراسة الأسباب التاريخية والنفسية لنشوء واستحكام مفهوم الإكراه والاستبداد في اللاوعي الإسلامي، وبالتأكيد فإن الموضوع لايزال متشعباً وبحاجة لكثير من البحث والتفنيد ....
آراء المفسرين في الآية .. وإشكالية فهم آيات القتال وظروف حروب الردة :
لابد لنا بعد هذه المقاربة من محاولة تفنيد الأقوال والآراء التي تحوم حول هذا المفهوم، لمعرفة كل الجزئيات والروايات المتعلقة به مع الاستنتاجات التي قدمها القدماء، ولذلك سنحاول المرور على ماورد في تفسير الآية من أفكار تهمنّا لتأسيس خلفية نظرية عن الطريقة التي تم من خلالها التعامل مع الآية تاريخياً، وعن مدى الاختلاف حولها، فقد تراوحت آراء المفسرين (وقد تتبعت هنا روايات الطبري وابن كثير والرازي والقرطبي والزمخشري) بين الأقوال التالية وسأوردها باختصار شديد "وذلك لتكرار الروايات" حيث سألخص الفكرة التي أراد كل مفسر استخلاصها من الروايات التي تم جمعها في معرض الحديث عن الآية :
وردت روايات كثيرة ذكرت أن الآية نزلت في شخصٍ من الأنصار ذكر في روايات أنه رجل وفي روايات أخرى إمرأة، أراد أن يجبر أولاده على الإسلام فسأل النبي فنزلت فيه هذه الآية
وتذهب روايات أخرى إلى أن الآية نزلت في أهل الكتاب خاصة
وأخرى تقول أنها نزلت في الأنصار خاصة
ومنهم من قال أنها منسوخة بآيات القتال
ورواية تذكر أن عمر بن الخطاب طلب من عجوز نصرانية أن تسلم فامتنعت، فقال عمر اللهم اشهد وتلا آية اللا إكراه في الدين ..
ومن جملة آراء الزمخشري في الآية أن الله لم يُجرِ أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، كما ذكر الزمخشري أيضاً بعض الآراء التي وردت قبل قليل، وأيضاً أورد الرازي بالإضافة لما سبق رأياً قال فيه: إن في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان والدنيا هي دار الابتلاء..
وقد أورد ابن كثير الرأي التالي في الآية قبل أن يعيد ذكر الروايات السابقة، فقال: لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاماً ..
والمتتبع لكل هذه الآراء يرى أن الآية لايمكن تقييدها برؤية واحدة (وهذا يقتضي صحة هذه الروايات بطبيعة الحال)، فإن صحّت هذه الروايات ففي تنوعها دليل على أن دلالات هذه الآية لا يمكن حصرها في رواية من الروايات ولا يمكننا أن نغفل أيضاً أحد آراء الزمخشري في الموضوع والذي أعطى الآية معنى التمكين والاختيار على الإيمان إلا إذا كنا سندخل في انتقائية ضمن الانتقائية لتسخير التأويل المنتقى في خدمة فكر أيديولوجي محدد، ولكن النقطة التي لابد من التنبه لها هنا أنه يمكن القبول بأي رواية أو أي فهم لها بعد وضعه ضمن السياق الذي وردت فيه الآية، وبما ينسجم مع معاني ومقاصد الآيات الأخرى المنسجمة معها، وإذا أردنا أن نسأل عن ضوابط هذا الفهم، فلابد من القول بأن الضوابط موجودة بالتأكيد، ولكنها حتماً ضوابط يفرضها السياق (بما فيه الأمثلة والشواهد التي ذكرت ضمنه كموضحات للآية) وكذلك المعاني اللغوية بالإضافة إلى فهم سياق الآيات الأخرى التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها متعارضة معها.
وبالعودة إلى ماورد من أفكار عند المفسرين، أرى أنه محاولة حصر الآية في فئة معينة أو محاولة نسخها، يمكن أن تفهم أسبابه من حيث تداخل أيات القتال مع آيات الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة عن طريق اللا إكراه، فقد شكل هذا التداخل تحدياً معرفياً على مستوى الفهم والذي زاد من وعورة طريق الفهم السليم ذلك الإرث التاريخي الذي اختلطت فيه مفاهيم الإذن بالقتال التي أُصلت في طور تشكل الدولة الإسلامية الأولى أمام ما كان يعترضها من اعتداءات ومحاولات التصفية لاقتلاعها من جذورها، مع ما تلى فترة الخلافة الراشدة من فتن واقتتال وبغي، فالإذن بالقتال الذي كان في البداية إذناً للدفاع عن المجتمع الإسلامي في وجه محاولات الاستئصال ثم كان بعد تشكل كيان الدولة أيضاً وسيلة لرفع الظلم عن الآخرين ليمارسوا حرية اختيار المعتقد ورفعاً للإكراه الممارس عليهم، أصبح في وقت متأخر فيما بعد وسيلة لتحقيق أغراض قتالية من نوع آخر ووسيلة استخدمت في كثير من الأحيان في غير مكانها، فتسخّر لقتال الخصوم تارةً، ولتوسيع رقعة الدولة أو تثبيت أركان الحكم تارة أخرى..
ولاننسى أن نذكر هنا أيضاً مسألة حروب الردة وما أثير حولها من جدل، فالمعالجة التي كانت سائدة وربما لاتزال بعض أثارها موجودة إلى الآن لمسألة حروب الردة، شكلت عوائق مفصلية أمام فهم اللا إكراه، فإذا فهمنا أن الصديق قاتل الذين منعوا الزكاة على تمردهم وخروجهم على الدولة الإسلامية وتهديد استقرارها، فإن هذا الفهم لا يعتبر ما قام به الصديق إكراهاً للمخالفين على الدين، عندها لا وجود للتناقض مع سياق الفكرة اللاإكراهية، وعندها فقط يكون قتل المرتدين هنا بسبب إضرارهم المادي ومحاولة تفكيك الكيان العضوي للمجتمع، وليس للأمر علاقة بحرية اختيار المعتقد لا من قريب ولا من بعيد، فهذه الأموال التي كانت تفرض على المسلمين فرضت على غيرهم أيضاً وكانت تؤخذ من أهل الكتاب لقاء خدمات الدولة لهم أو لتمكينها من القيام بواجباتها، وهو أمر تجمع كل أعراف العالم عليه، ولا أظن أن من يمتنع عن دفع الضرائب في أي دولة سيقابل بالترحيب إلا في بعض بلادنا المسلمة التي تمنع حرية الفكر لكنها تفسح المجال للعبثية والتعدّي على حقوق الدولة !
أما القراءة التي تقول بأن حروب الردة هي حروب دينية لقتال المخالفين فكرياً، فهي قراءة مغلوطة ولا تنسجم مع الروح القرآنية العامة، ويبدو أن أصحاب هذا الرأي ممن اختلط عليهم الأمر سيحتاجون إلى نسخ العديد من الآيات القرآنية ونسخ جزء مهم من السيرة لتثبيت قراءتهم غير الدقيقة ..
فهذا التداخل والخلط سببا فيما بعد تشويشاً على مفهوم اللا إكراه، مما جعل هذا المفهوم ينسخ من العقول بالدرجة الأولى قبل أن تبحث هذه العقول عن آلية معينة لنسخه واستئصاله من سياقه، فالتناقض الظاهري الذي أدى إلى نشوء فكرة النسخ سببه عجز العقل عن فهم التوافق بين الآيات وليس بسبب التناقض فيها، كما أن مقولة النسخ تواجه إشكاليات متعددة، فهذه الآية هي من سورة البقرة التي نزلت في المدينة على مدى سنوات طويلة، وهي تنسجم وتحمل نفس معاني الآيات التي نزلت في مكة وتتكلم عن المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة وعدم ممارسة العنف والإكراه ومنها الآية في سورة النحل "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل 125)، فالذين يقولون بالنسخ مطالبون بنسخ ماتبقى من آيات موافقة للمعنى، أو بالأحرى مطالبون بنسخ الفترة المكية لكي يتسنى لهم تطبيق آيات القتال وفق فهمهم المغلوط لتلك الآيات !
وبالمناسبة أيضاً فإن الذين يريدون تحجيم الآية بحيث تنطبق على التعامل مع أهل الكتاب دون غيرهم مطالبون هم أيضاً بدليل آخر مختلف عن الروايات الموجودة في التفاسير والتي كما رأينا لم تجتمع على رأي موحد، وكملاحظة فإن آيات المجادلة بالتي هي أحسن نزل منها مايخص قتال أهل الكتاب كحالة استثنائية حين اقتضت الضرورة، ولم يعطل ذلك فكرة المجادلة أو ينسخها، كمثال الآية "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46)، وبقيت الآية في سورة النحل عامة تناسب جميع الأحوال وتنسجم مع طبيعة الدعوة السمحة، وكذلك بقيت آية اللا إكراه مطلقة في النواحي العقدية والحوارية الفكرية، وقيدت بطبيعة الحال عند ذكر القتال في حالة الاعتداء على الدولة ولم تقيد ضمن سياقها الحواري الفكري على الإطلاق، فبقيت صرخة مدوية تقض مضاجع العقول الاستبدادية أينما كانت ..
حتى أن الذين حاولوا حصرها في نطاق أهل الكتاب خوفاً من حدوث التعارض مع آيات القتال، لن يستطيعوا الالتزام بتطبيق ماورد في الروايات التي تحدث معظمها عن أشخاص منعهم النبي من إجبار أولادهم على تبديل دينهم، فالروايات تذكر منع النبي لهؤلاء الأشخاص الذين رغبوا في إكراه أولادهم على الدخول في الإسلام، بعد أن كانوا قد نصّروهم أو هوّدوهم لحظة الولادة، وفي رواية أخرى تقول أن أبا الحصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم، فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال:"لا إكراه في الدين"، فهل يستطيع أصحاب هذا الرأي ضمن منظومتهم التي تتبنى الإكراه "أو مايعادله من ألفاظ قد تتفاوت شدتها" السماح لأبنائهم اعتناق ديانة أخرى مثلاً، وهل بإمكانهم الاكتفاء بأخذ الجزية من"أولادهم" على سبيل المثال كتعويض عن تركهم للإسلام وهل ستسد هذه الجزية رغبة الوالد بدخول ابنه في الإسلام !...
وكذلك فقد يذهب الكثيرون إلى الرأي بنسخ الآية بالآيات التي تسمح بقتال أهل الكتاب، وهو أمر كما قلنا من الصعوبة بمكان، ولكنه قد يشكل مخرجاً مناسباً لمن يريد تخصيص الآية بأهل الكتاب ولكنه لايستطيع في نفس الوقت أن يلتزم بهذا المنهج في التعامل مع من يتنصر أو يتهوّد من أولاده، ولهذا كانت الأرضية الفكرية مناسبة للجهر بفكرة نسخ الآية بآيات قتال أهل الكتاب بعد أن تمّ استئصالها من منهج التعامل مع غير الكتابيين لاعتبارات نزول آيات خاصة بهم تلزم بقتالهم، وهي آراء لم تأخذ بعين الاعتبار الآيات الأخرى، ولم تتنبه لموقع الآية وسياقها والأمثلة التي ذكرت عليها، مما جعل آيات السيف مسلّطة بالدرجة الآولى على رقاب الآيات الأخرى ومهيمنة عليها في ظل مجتمعات لايزال يسيطر عليها الفكر الاستبداي...
وأظن أن مسألة خطيرة كمسألة النسخ لايجب استسهال نقل الكلام فيها مهما استوجب الصراع الفكري دحض آراء المخالفين، فإذا كان الكلام في النسخ هو إبطال وتعطيل آية فلابد أن تذكر آية أو حديث صريحين في أن هذه تنسخ الأخرى، أما إذا كان الأمر حواراً في المقاصد والبحث في أمور تناسب الظروف المرحلية وتغير الأحكام فذاك موضوع آخر ..
وبالنظر إلى حال الذين يقولون الآن بنسخ مفهوم اللا إكراه أو تحجيمه بحيث يصبح شبه معطل "وهم بطبيعة الحال سيقرؤون الجهاد قراءة مغلوطة بسبب تداخل القراءتين"، سنجد وضعهم مماثل لمن يقرأ آيات الحدود دون مراعاة مقاصدية الحكم أو الحد وموقعه ضمن السياق التاريخي الإسلامي العام، وكذلك دون إدراك الشروط الواجب توافرها في المجتمع قبل وضع مثل هذه القوانين المنظمة لسيره، وبالتالي فإن وجهة نظرهم تقوم على تقديس الآيات القرآنية وتعاليمها الواضحة، والرغبة في أسلمة المجتمعات دون التنبه حقيقةً إلى التسلسل التاريخي الذي مرّ به المجتمع المسلم في نشأته الأولى، فلو أتيح لهؤلاء تطبيق مفاهيمهم على أرض الواقع، لنا أن نتخيل حجم البطش والتنكيل والخلط الذي يمكن أن يسببه هذا الفهم للآيات "المقدسة"، إذن المشكلة ليست في قدسية الأحكام، والمسألة متعلقة بالمنهج والمقاصدية والفهم العقلاني، وبالتأكيد يستطيع أصحاب هذا المنهج اللجوء إلى التفاسير وسلخها من سياقها التاريخي ومحاولة تطبيقها مع كل مايوجد في هذه التفاسير من تداخل وتنوع وتعارض في الروايات أحياناً، وهو مايحدث عموماً وبطريقة مشابهة لآيات القتال، هذا مع العلم أنني لا أذكر أن أي أحد من المفسرين ورد عنه مايلزم قراءه بتفسيره للقرآن على أنه الرؤية الحق ..
وإذا أردنا الاستطراد قليلاً في هذا الموضوع أقول أن آيات القتال مع أهل الكتاب لم تنسخ مفهوم المجادلة معهم بل بالعكس بقيت المجادلة بالتي هي أحسن وأضيف شرط جديد (إلا الذين ظلموا منهم) وهي عبارة تشير إلى الظلم والاعتداء، فتوقف المجادلة لايعني نسخها من المنظومة ولكن الظلم يستوجب رفعه أولاً ثم تعود المجادلة وهكذا دواليك ...
وفي معرض الحديث عن القتال فإن البعض أشكل عليه ورود آيات الأمر بالقتال لبني إسرائيل وقصة طالوت وجالوت ومعها النبي داود، وبكل الأحوال فإن الأمر بالقتال هنا والذي ذكر قبل ذكر لا إكراه في الدين لايمكن أن ينسخ الآية أو يشوش عليها للسببين التاليين:
الأول: الأمر بالقتال ذكرت معه أسبابه على لسان بني إسرائيل (قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) البقرة 246، وهو ماينسجم مع آيات الإذن بالقتال بشكل عام، فالأمر لا علاقة له بدعوةٍ أو بحرية معتقد ..
الثاني: النسخ إن كان موجوداً فلا يكون بالمقلوب، فلا تنسخ الشرائع القديمة مانزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والمفترض أن تكون آخر الرسالات السماوية هي المهيمنة على ماقبلها وليس العكس !
طبعاً النسخ ليس موجوداً، وسياق الآيتين مختلف تماماً، فاللا إكراه تشكل البيئة الطبيعية للدعوة، أما الجهاد فهو حالة مستمرة وأشمل من يُحصر بمنطق القتال والعنف فقط، فاللا إكراه ليس متعارضاً مع الجهاد، بل على العكس تماماً حين تكون قولة الحق أعظم درجة من درجات الجهاد، والتي يقولها إنسان أعزل من السلاح أمام ظالم جائر فيقتل دون أن يمارس الإكراه أو حمل السلاح على ذلك الظالم، فهذا أدعى أن نعتبر الجهاد واللا إكراه منظومة واحدة، ويخرجان من مشكاة واحدة، أما الجهاد بالسلاح "القتال" فهو جزء من هذه المنظومة ولا يمكن فصله عنها، ولكن لابد من معرفة ضوابطه ومن هي الجهة المسؤولة عنه حتى لايكون استخدامه عبثياً، وبإمكاننا أن نذكر هنا فكر الخوارج مع إخلاصهم للدين وكيف استخدموا منهجهم في تشتيت الصفوف وتفريق الأمة وقتل أشرف أبنائها، وهم لايتسلحون سوى بالآيات القرآنية ولكن وفق فهم ضيق جداً، وإذا فهمنا دقة تلك المرحلة وجزئياتها استطعنا أن ندرك كيف أن تسخير الآيات والفكر الإسلامي بشكل مغلوط كانت له بدايات مبكرة جداً من تاريخ الأمة، عندها لن نستغرب من وجود الفهم الشاذ والغريب في وقتنا الحالي بعد مرور القرون الطويلة !
ثم إن قتال أهل الكتاب لم يشرع لإجبارهم على اعتناق الإسلام وإلا لما توقف قتالهم عند دفع الجزية ولما كان مسموحاً لهم أصلاً ممارسة شعائرهم وبناء كنائسهم (النصارى على سبيل المثال) وحتى تحديثها عمرانياً ....
فالمجادلة بالحسنى ليست خطة مرحلية يتبعها تعديل حسب الظروف وإنما هي موجودة قبل دفعهم للجزية وبعدها وهي القاعدة الذهبية الأولى والأخيرة في حالة الدعوة للإسلام ومناقشة وتعديل الانحرافات الفكرية، حيث أنه إذا كان المقصود من هذا القتال تغير الدين والمعتقد فلا ينفع معه دفع جزية أو الافتداء المالي، ولكن الجزية ستكون بمثابة التزام بشروط وأنظمة المجتمع مع وجود بادرة حسن النوايا، دون أن يكون هنالك مساس بالأمور العقائدية ..
وبنفس هذا المنطق فإن قتال المشركين لم يكن لإدخالهم في الدين تحديداً، ولكنه كان بسبب نقضهم المتكرر للمواثيق والعهود مع النبي، وإصرارهم على القضاء على الإسلام ودولته الحديثة، مما استوجب وضع حد لهذا الأمر بعد أن أصبح يشكل تهديداً حقيقياً ولم تستطع حالة الهدنة والحوار خلق أجواء من التفاهم بين الطرفين وكان ذلك الأمر واضحاً ومفصلاً في سورة التوبة (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) التوبة 10، وقد كان دخول بعضهم في الدين أحد الفرص التي قدمت لهم للنجاة، بحيث تعتبر ذلك إذعاناً منهم أو بادرة حسن نية في أنهم لن يبادروا إلى التجمع مرة أخرى والعودة إلى سلوكهم القديم، والملاحظ هنا رحمة النبي بهم (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) التوبة 6
(فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) التوبة 11، فهو لم يشق عن صدورهم ويتهمهم بالكذب والنوايا الخبيثة، بل اكتفى منهم ببادرة وإعلان وهو يكون بذلك قد أدى الذي عليه تجاه أمته وكذلك وصل مع المشركين إلى نهاية الطريق، ألا إنه الرحمة لهذا العالم المهووس بالعنف والإكراه !
طبعاً الكلام في الجهاد وتفرعاته موضوع آخر أشبعه المختصون بحثاً وهو لايزال بحاجة إلى مزيد من التحليل، لتحقيق الفهم السليم وإزالة الالتباس الذي وقع في الفكر الإسلامي، لخطورة ودقة هذه المعاني التي يبدو أنه يختلط فيها وببساطة غريبة منطق الإسلام الدعوّي المبني على حرية العقيدة والفكر مع منطق الدولة وحقوقها وواجباتها تجاه رعاياها في درأ الخطر عنهم وفي رفع المعاناة عن الآخرين مسلمين كانوا أم غير مسلمين ...
إذن نحن بحاجة لإعادة فهم هذه المنظومة فهماً بعيداً عن فكرة النسخ، هذا النسخ الذي فيما لو فتح بابه بهذا الشكل، فسيؤدي إلى أن ينسخ القرآن بعضه بعضاً، عوضاً عن أن يفسر بعضه بعضاً.
وقفة مع النفس:
وبعد هذه المقاربة لمشاكل واقعنا وإرثنا التاريخي المثقل بالموروثات الاستبدادية، لابد لنا من وقفة مع النفس محاولين وضع الآيات القرآنية خارج نطاق المشكلات التي نعاني منها، سواءٌ كانت تسمى "المرض بحضارة الآخر" بحيث أصبح التماهي معه والتملق له أحد أوضح أعراضه ومعهما الإحساس بالدونية أمامه ..أم ما كان على عكس الأعراض السابقة متمثلاً بردة فعل عنيفة لمجرد ذكر الآخر أو ذكر أحد منتجاته القيمية حتى ولو كانت قيماً إيجابية لا يعارضها الإسلام بذاتها، وهو مايميز بعض جوانب مرض تضخم الذات الغارقة في الماضي مع إحساسها الدوني أمام رموزه التاريخية، هذه الذات التي لاتستطيع قراءة تراثها خارج نطاق القراءة التصنيفية للآخرين، مع مايرافق ذلك من مزاعم امتلاك الحق المطلق، وعادةً مايكون غياب الأدلة وحضور التهم الجاهزة أحد أوضح معالم البنية الفكرية لهذه الظاهرة ..
إذن آن لنا أن نعيد البحث والتنقيب عن القيم المغيبة دون أن تثنينا نظرة الآخرين أو موقفهم من استنتاجاتنا، لأن القراءة تحت تأثير "رهاب الآخر" ستجبرنا على تغييب المزيد من الأفكار المفعلة لحركة النهضة وسينطبق علينا مَثل القطة التي ابتلعت أولادها من شدة خوفها عليهم !
عندما نتحرر من هذه العقد من المؤكد أننا سننطلق نحو تفعيل المعطل من القيم القرآنية، كما أننا سنتوقف عن تكرار تجريب المجرب والسقوط في نفس الحفرة مرات ومرات ..
هذه رؤيتي للموضوع ولا ألزم بها أحداً فلاإكراه ولا تضييق ..
ويبقى النقد وحده سبيل التصويب إلى أن نهتدي للمنهج الرشيد ..
إن بقي في هذه الأمة رجل رشيد !