تجديد القصد والكفاية المادية:
اعتنى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه على الاقتصاد([1])، أي إقامة الوجه لله تعالى وتجديد القصد إليه والكفاية المادية. عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال النبي : صلى الله عليه وسلم (أخسر الناس صفقة رجل أخلق يديه في آماله و لم تساعده الأيام على أمنيته، فخرج من الدنيا بغير زاد، و قدم على الله
تعالى بغير حجة) ([2]).
فالخسران في الأصل انتقاص رأس المال، وقد استعمله صلى الله عليه وسلم فيما هو أعم من ذلك كالإيمان والعبادة وهو بهذا يوجه الأنظار إلى اعتبار الخسارة فيما هو أغلى من المال وأعلى من الجاه.
والمعنى: أشد الناس خسارة رجل أتعب نفسه بالكد والجهد في السعي لبلوغ آماله، ولكن الأيام لم تساعده على حصول مطلوبه من المال والمناصب والجاه ونحوها، بل عاكسته وخذلته، فهو لا يزال يتشبث بالطمع الفارغ والرجاء الكاذب، ويتمنى على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته، فخرج من الدنيا بالموت بغير زاد يوصله إلى المعاد وينفعه يوم يقوم الأشهاد ويفصل بين العباد؛ لأن خير الزاد إلى الآخرة اتقاء القبائح، وهذا قد تلطخ بأقذارها القبيحة الخبيثة الروائح فهو مهلك لنفسه باسترسال الأمل، وهجرة العمل، حتى تتابعت على قلبه ظلمات الغفلة، وغلب عليه رين القسوة، ولم يسعفه المقدور بنيل مرامه من ذلك الحطام الفاني، فلم يزل مغمورا مقهورا مغموما إلى أن فرق ملك الموت بينه وبين آماله، وكل جارحة منه متعلقة بالدنيا فاتته، فهي تجذبه إلى الآخرة التي لا يريدها، وقدم على الله تعالى بغير حجة أو معذرة يعتذر بها، وبرهان يتمسك به على تفريطه بتضييعه عمره النفيس في طلب شيء خبيث خسيسي وإعراضه عن عبادة ربه التي إنما خلق لأجلها ([3]).
ولهذا كان السير القاصد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين منسجما. المؤمن يبغي الجنة ورضى ربه ووجهه، فيجد من يصبر معهم، ومن يساعدونه على زاد السفر، ومن يصحبونه إلى الله، في الحياة اليومية بتيسير الطعام والحاجيات وتبادل المصالح، وفي ساحة الجهاد بالتراص أمام العدو، والتحريض المتبادل على الوفاء لله بالعهد ([4]).
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على استجماع القوى نحو تجديد القصد إلى الله تعالى وللآخرة، وتصحيح الوجهة إليه، والإعراض عن غرور الدنيا ونعيمها الزائل، وشهواتها الفانية، فكان سيرهم حثيثا، وتوسطهم رفيقا، ملكوا الدنيا ولم تملكهم ولم تُزِغْهم عن الآخرة، اتخذوا أسباب الكسب الحلال، وأنفقوا في حلال.
هذا جانب، والجانب الآخر في الاقتصاد هو البعد عن تبذير الجاهلين، و الكفاية المادية، وذلك أن صحابة رسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا رجال كسل وخمول، بل تربوا على العمل الجاد، والاهتمام بالأعمال المادية من صناعة ومكاسب، حتى لا يكونوا عالة على غيرهم، ولنا نموذج واضح -على اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بالكفاية المادية-، في المهاجرين الأوائل إلى أرض الحبشة؛ فلم يكونوا عالة على غيرهم في ذلك المجتمع، بل كانوا يكسبون ويمارسون ما تعلموه من المهن، وخاصة أنه "كان من بينهم ذو النورين عثمان التقي الطاهر، وهو مع ذلك التاجر الماهر، وقد خرج ومعه بعض ماله، ولم يثبت في التاريخ أنهم كانوا في ضيافة النجاشي، لأنهم كانوا يتزايدون في الهجرة ولا ينقصون، وإذا كان لابد من فرض في هذا، فهو أننا نتصور أنه كان يعينهم ليتمكنوا من أعمالهم الكاسبة التي تدر عليهم ما يكفيهم بالمعروف من غير إسراف ولا تقتير.
ونتصور حينئذ أمرين نفرضهما فرضا:
أولهما-أن يكونوا قد قاموا بما يكسبهم القوت، ولا يعيشون كلاًّ على غيرهم فليس ذلك من مكارم الأخلاق في الإسلام.
ثانيهما- أن نفرض التعاون الكامل بينهم، يعين غنيهم فقيرهم والقادر منهم العاجز، وإذا كانت المؤاخاة قد نظمت العلاقات بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. فإن التعاون أو المؤاخاة الطبيعية فرضت نفسها في أرض الحبشة بحكم الاغتراب أولا، وبحكم الحاجة إليها ثانيا، وبحكم الخلق الإسلامي الذي يوجب التراحم والتعاطف ثالثا، وقد كان التعاطف امتدادا لما كان في مكة من حماية ضعفاء المسلمين من أقويائهم، كما كان يفعل أبو بكر من شراء العبيد المسلمين وإعتاقهم من غير مَنّ ولا أذى ([5]).
([1]) فالخوف من غرور الدنيا، والإنتاج، وحفظ المال، والزهد والتقلل، كل هذا من الاقتصاد.
([2]) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، ح1250. قال الألباني: ضعيف. صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، ص125.
([3]) محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل، محمد علوي المالكي، ص233.
([4]) المنهاج النبوي، الإمام عبد السلام ياسين، ص321.
([5]) خاتم النبيين r،أبو زهرة، 1/270.