الصبر وتحمل الأذى:
الصبر وتحمل الأذى([1])، أو أستعمل مصطلحا نبويا جامعا؛التُّؤدة. التؤدة هي خَصلة امتلاك النفس وطولُ النفَس، والصبر على طول الطريق ومشاقه، وتحمّل الأذى في سبيل الله، وهي الرزانة والتريث حتى تنضج الثمار، وتتحقق الأهداف والغايات.
وبكلام آخر فإن التؤدة معناها في حق الفرد أخلاق تملك النفس والصبر
والمصابرة والمثابرة والتثبت والمسؤولية، وهي أخلاق تعوزنا تماما. أما في حق الجماعة المؤمنة فالتؤدة هي البناء الرصين على أسس ثابتة ودعائم متينة، وعلى وعي تام بالمبادئ والأهداف والمقاصد والغايات. بعيدا عن الارتجالات العنترية، والأماني المعسولة، والفشل الدائم.
والتؤدة أساساً وبالمعنى الأوسع هي الرفق في مقابل العنف.وتتضح تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الصبر وتحمل الأذى في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن سيدنا خباب رضي الله عنه قال:" « أَتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَة، وَهْوَ في ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ: أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ؟ فَقَعَدَ وَهْوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: ( لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ ») ([2]).
وعليه، فرُغم كل الأذى الذي كان ينزله كفار قريش بالمؤمنين لم ينهنه من عزمهم، ولم يضعف أنفسهم، فهذا عبد الله بن مسعود يضربونه، فيستمر في قراءته، وهم يستمرون في ضربه حتى يبلغ ما شاء الله تعالى أن يبلغه غير ملق اهتماما إلى ضربهم ([3]).
أما آل ياسر وهو البيت الذي أسلم كل أفراده، وآمن بالله تعالى وفيه ضعف من المال والجاه وناله ضعف الرق، فرأس الأسرة ياسر، وهو أبو عمار عُذِّب، وأمه سمية عُذِّبت، وذهب الفجور بأبي جهل أن يضربها برمح في بطنها فماتت، فكانت أول شهيد في الإسلام مات فداء لدينه ([4]).
وتحمل سيدنا عمار رضي الله عنه أشد الأذى والعذاب، فما وهن وما استسلم لجحافل الشرك، بل رضي وقلبه مطمئن بقضاء الله وقدره، وإن نطق بكلمة لما بالغوا في تعذيبه وإيذائه، لكن قلبه مطمئن بالإيمان.
وتحمل سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي كان يكتم إسلامه، فلما علم به قومه حبسوه فلم يزل محبوسا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم خرج في الهجرة الثانية. وكان من أنعم الناس عيشا قبل إسلامه، فلما أسلم زهد في الدنيا فتحسف([5]) جلده تحسف الحية ([6]).
كان رضي الله عنه قبل أن يدخل الإسلام من أنعم قريش عيشا، وأعطرهم، وكانت أمه شديدة الكلف به وكان يبيت وقعب([7]) الحيس ([8])عند رأسه يستيقظ فيأكل، فلما أسلم أصابه من الشدة ما غير لونه، وأذهب لحمه، ونهك جسمه، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وعليه فروة قد رفعها، فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشيا عليها، وكان بنوها يحشون فاها بشجار وهو عود فيصبون فيه الحساء([9]) لئلا تموت ([10]).
قال ابن سيد الناس –رحمه الله-:ولقي المسلمون من كفار قريش وحلفائهم من الأذى والبلاء عظيما، ورزقهم الله من الصبر على ذلك عظيما، ليدخر لهم ذلك في الآخرة، ويرفع به درجاتهم في الجنة. والإسلام في كل ذلك يفشو ويظهر في الرجال والنساء ([11]).
كان يزيدهم رضوان الله عليهم الإيلام المستمر إيمانا ويقينا، واستمساكا قويا بدينهم، فتحملوا وصبروا وصدقوا، لأنهم تربوا في حضن الصحبة النبوية، وفي مدرسة التربية في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يربيهم على التؤدة، ويثبتهم عند الشدائد، ويواسيهم ويوصيهم بالصبر والتحمل، ويبشرهم بالدرجات العلى وجنات النعيم، ويلقي في قلوبهم ببيان أن الإيمان يوجب تحمل المشاق، وأن ثواب الآخرة ثمنه من تحمل ما يقتضيه الحق في الدنيا، وببيان أن الله تعالى ناصر عباده المؤمنين بعد أن يبلو إيمانهم ويظهر صبرهم ([12])، كما كان يقول لآل ياسر: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
هذا، والقرآن ينزل ويحضهم على الصبر ويذكرهم بقصص السابقين الذين تحملوا الأذى وصبروا، حتى أتاهم نصره، فنزلت سورة الكهف التي تقص عليهم قصة أهل الكهف([13]) أولئك الفتية الذين ثبتوا على دينهم وصبروا على الإيذاء والابتلاء، وأووا إلى الكهف فرارا بدينهم، ولكأن القرآن الكريم يجيء بهذه القصة، وتتنزل آياتها على جماعة المسلمين، وهم في مكة يلقوْن ما يلقوْن من عَنَتٍ وكيد وبلاء في سبيل عقيدتهم –لكأن القرآن إنما يجيء بهذه القصة في هذا الوقت ليربط على قلوب تلك الجماعة القليلة المستضعفة من المؤمنين، وليريَهم مثلا طيبًا للمؤمنين الذين يسكن الإيمان قلوبَهم، ويملأ مشاعرهم، استجابة لدعوة الفطرة من غير نبيّ ولا كتاب.. ثم لكأن فيما اتجه إليه أصحاب الكهف من الهجرة بدينهم، إشارة واضحة إلى منافذ الفَرَج والخلاص، من مواطن الكيد والبلاء، بالتحول من دار إلى دار، والانتقال من بلد إلى بلد!! ([14]).
ونزلت كذلك سورة البروج التي تقص عليهم قصة أصحاب الأخدود([15]) الذين ابتلوا ابتلاء عظيما وأحرقوا في أخاديد...ونزلت آيات كثيرة تواسيهم وتحضهم على الصبر، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وحتى تتحقق سنة الله في الكافرين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم، نحو قوله جل ذكره:(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)([16])، هذا توعد من الله تعالى لأهل الكفر والضلال، الذين فتنوا المؤمنين في دينهم، وآذوهم، وصدوهم عن دينهم، بالعذاب الشديد.
ونحو قوله جل وعلا:(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)([17])، وفي هذا إشارة -كما يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب في تفسيره-"إشارة إلى أن المشركين هم فتنة للنبي وللمؤمنين، وابتلاء من الله لهم بهم، وبما يسوقون إليهم، من مكر، وما يرمونهم به من أذًى...
(أتصبرون؟). وهو دعوة للنبي وللمؤمنين إلى الصبر على هذه الفتن التي يرميهم بها المشركون.. وهذا الاستفهام مراد به الأمر ,أي: اصبروا على ما تكرهونه، مما يهبّ عليكم من ريح الفتن من أهل الضلال والشرك..
(وكان ربك بصيرا) وفيه تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين، وربط على قلوبهم، حتى يصبروا على أذى المشركين، فالله سبحانه وتعالى بصير، عالم بما يحتملون من مكروه في سبيل الحق، وفي الثبات على الإيمان، وسيجزيهم عليه، كما أنه سبحانه بصير عالم بما يعمل المشركون، وسيلقون جزاء ما يعملون"([18]).
وهكذا مضت الآيات القرآنية تذكرهم بسنة الله في الدعوات وفي الرسل وأتباعهم، وأنهم ليسوا وحدهم من تعرض للابتلاء، بل كل من قال ربي الله ونبيي رسول الله ابتلي وامتحن، حتى يتبين صدق إيمانه.
لقد كانت عصا الأذى تلهب ظهر الضعفاء، فكان لها أنين، وشكوى، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم أنينهم، فكان له ألما ممضا، وشكوا إليه فأشكاهم بالصبر وبشرهم بالجنة ([19]).
ولما هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصيب الكثير منهم ببلاء وسقم؛لأن المدينة كانت أوبأ أرض الله بالحمى، فصبروا وتحملوا حتى أجهدتهم الحمى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه فصرف عنهم ذلك([20]).
من هنا كانت التربية على الصبر هي الوسيلة الناجعة لتجاوز فترة الأزمات، وهي تحتاج إلى مدة من الزمن ينتقل الإنسان فيها من موقف إلى آخر أشد منه ودواليك ([21]).
إن الصبر هو ذلك النور الذي أضاء لجند الله الأوائل طريقهم، فحققوا العزة لأمتهم، ورفعوا راية الإسلام عالية مرفرفة على ربوع المعمورة، وصدق الله تعالى القائل في كتابه: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ)([22]). صبر على التربية وصبر على الأذى والابتلاء، فخَصلة الصدق العظمى أهلتهم للإمامة وقيادة العالم.
([1]) وهناك مجموعة من الأخلاق الإسلامية لها صلة وثيقة بالتؤدة: القيام في حدود الله، وحقن الدماء والعفو عن المسلمين، وحفظ اللسان والأسرار، والرفق والأناة والحلم ورحمة الخلق، والتواضع...
([2]) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة، ح3852.
([3]) خاتم النبيين، الإمام محمد أبو زهرة 1/445.
([5]) تَحَسَّفَ الجِلْدُ: تقشّر. لسان العرب، مادة: حسف.
([6]) صفة الصفوة لابن الجوزي، 1/151.
([7]) القَعْبُ: القَدَحُ الضَّخْمُ الجافي، أو إلى الصِّغَرِ، أو يُرْوي الرَّجُلَ، ج أقْعُبٌ وقِعابٌ وقِعَبَةٌ. القاموس المحيط، باب الباء، فصل العين، ص153.
([8]) الحَيْسِ: الخَلْطُ، وتَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وأقِطٍ، فَيُعْجَنُ شديداً، ثم يُنْدَرُ منه نَواهُ، ورُبَّما جُعِلَ فيه سَويقٌ، وقد حاسَهُ يَحيسُهُ، القاموس المحيط، باب السين، فصل الحاء، ص564.
([9]) الحَسَاءُ: مثل سَلام الطبيخ الرقيق يحسى. المصباح المنير، كتاب الحاء، مادة: حيس، ص85.
([10]) الروض الأنف للسهيلي، 2/252.
([11]) عيون الأثر في فنون المغازي والسير لابن سيد الناس، 1/203.
([13]) إن القصة هي أفضل وسيلة لتربية النفس البشرية، وتهذيبها، وتطهيرها مما علق على مشجبها من الآفات والعاهات والعلل، وإذا أحكمت صورتها وأحداثها كان لها تأثير قوي في التربية، ولهذا عني بها القرآن الكريم اعتناء كبيرا، لما فيها من العبر والعظات تنفع السالك إلى ربه المجاهد في سبيل الله، الحامل للواء الدعوة إلى الله.
([15]) قصة أصحاب الأخدود أوردها مسلم في صحيحه والترمذي في سننه من حديث سيدنا صهيب مطولة، ومجملها قصة ذلك الغلام الذي كان يتعلم من الساحر، فذات يوم مر براهب فتابعه على دينه، فأراد الملك قتل الغلام لمخالفته، فقال له الغلام لا تستطيع إلى ذلك سبيلا,pحَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ : تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ. فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.
فَأُتِيََ الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا: الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّi. انظر: صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقاق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر، ح75011 (3005)، سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البروج، ح3340.
([17]) سورة الفرقان: من الآية20.
([18]) التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، 3/1372-1373.
([20]) انظر مثلا: البداية والنهاية، 2/228-231.
([21]) منهج النبي r في الدعوة، ص78.