ذكرى الوطن
تمدَ يدها لتلامس أرضها، لتداعب حبَات ترابها، لتعفر بها ثوبها. تمدَ يدها لتلامس حقلا أخضر لسنابل متموَجة، لتداعب زهرة، لتشمَ رائحة، لتقطف ذكرى...
تمدَ يدها و تمدَ و لكنَها لا تلامس سوى حلم بعيد متعب، تمدَ يدها وتمدَ و لكنَها لا تلامس سوى صور محفورة في ذاكرتها، تمدَ يدها و تمدَ و لكن سدى تمدَها فهي لا تلامس شيئاغير الحنين و الشَوق و الدَمع و الذكرى.
أيَها الوطن البعيد، أيَها الوطن القريب، أيَها السَاكن فيها أبدا، أيَها المحفور في الذاكرة أبدا.
أيَها الوطن الحبيب يهزَها الشوق هزَا، يهزَها الحنين هزَا و لكنَك البعيد السَاكن في الذاكرة و في الحلم أبدا.
اشتاقت إلى ذاك الرَبيع، اشتاقت إلى صوت الصَمت و عمقه، اشتاقت إلى لحظة تغمض فيها عينيها فتنصهر فيها مع الأرض، مع الشَجر، مع الزَهر،مع العشب، مع السَحر، مع الهمس و مع الأزل.
تقف الآن بين الحقول. تتأمَل لونا أخضر بديعا.تتأمَل سنابل متماوجة كبحر أخضر يلمع. تعبر بين الحقول. تشقَ طريقها بين أزهار البنفسج.تطير فراشة، تحط نحلة. تتأمَل السَحر. تتأمَل و تتأمَل، تحاول تخزين الصَور في ذاكرة لا تكل و لا تتعب.
و الآن هاهي الصَور تتوالى واحدة بعد الأخرى فإذا بها قريبة بعيدة، فإذا بها في وطنها رغم الوحدة القاتلة و رغم الغربة. تمتلئ المآقي بالدَمع. تتنهَد النَفس المرهقة المتعبة و الصَور وحدها لا تكفي. إنَه الحنين يقتلها. إنَه الشَوق يعتصرها. تهرب إلى الذاكرة، تنبش فيها بين كل الصَور وتخرج تلك التي طالما جاهدت لحفرها عميقا بأدقَ التفاصيل و أبدعها.
أيَها الوطن الحبيب، أيَها الوطن البعيد، إليك الدَمعة، إليك الآهة و إليك الكلمة. لن تزورك اليوم و لن تزورك غدا. يعتصرها الحزن فتنام على أمل أن يمحو الليل آهات النَفس المتعبة، و عندما تصحو ماذا تجد؟
لاشيء غير الألم الذي أغمضت عليه عينيها، لاشيءغير الحزن و الفراغ
و الحرقة تعتصرها. لاشيء غير الآهة و لاشيء غيرالدَمعة.
يا أيَتها النَفس المتعبة دوما متى تكفي؟ متى تريحي؟ متى تمنحي الهدوء؟ و متى تنمحي السَكينة؟
يغلبها النَوم، ينقطع شريط الذكريات ولكن لاينتهي الشَوق، لا تختفي الذكرى، تتخفى و لكن أبدا لا تختفي، تتخفى وراء فرحة بائدة زائفة، تتخفى وراء سكينة واهمة، تتخفى وراء نسق الحياة المسرع المتعب المرهق و لكن أبدا، أبدا لا تختفي.
هاهي النفس المتعبة تعود إلى الشَوق، هاهو الشَوق تعيده ذكرى، ذكرى دفنت عميقا، عميقا جدَا، ذكرى خالتها انمحت و لكن هيهات لهذه الذاكرة أن تمحو أو أن تتعب، قد يستغرق الأمر يوما أو ساعة.. قد يستغرق لحظة أو دهرا حتى تعود إلى سباتها و حتى تتخفى ولكن كلمة، رائحة، صورة، مصادفة، أجل مصادفة و تعود الذكرى يفجَرها الحزن و يفجَرها الألم.
بقلم: بثينة غمّام