هذا ما نحن بحاجة إليه
د فريد العمري
ذات يوم وجدت نفسي ملقى على قارعة السرير، لا أعرفُ هل كنتُ وقتَها نائما أم لا، المهم، أنني وجدتني أنظرُ إلى أسفل رجلي - موضع القَدَمِ مِنِّي - بحسب تقديري، كانت أبعدَ نقطة في جسدي من تحت، كانت هناك دابَّةٌ - ليست ككلِّ الدوابِّ – ترفعُ عقيرتَها في تلك النقطة من هذا الجسدِ المنهكِ المُمْتَدِّ كأنه سنديانةٌ على قارعة السرير، لم تكن تلك الدابَّةُ عقربا، ولا صرصارا من ذوات الشَّنَبِ الطويلِ التي عادةً ما تخافُها النسوة إذا ظهرت عليهن في المطابخ، كذلك لم تكن ذبابة، أو (ناموسة) مِمَّا يتكاثرُ عادةً حولَ المستنقعات، وتُسَبِّبُ أحيانا أمراضا مستعصية كذلك المرضِ الذي ينتشرُ في دلتا النيل، واسمُهُ (البلهارسيا)،
كانت الدابَّةُ أحقرَ من كلِّ أؤلئك الدوابِّ السامَّةِ المسمومة، رأيتها وهي تربض على قدمي ترمقني بأطراف عيونها الكثيرة، وتذكرت ذلك الغريبَ القادمَ من بلاد فارس عندما وقف على رأس خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مخاطبا إيَّاه، يوم التقاه في سفره إلى بلاد الدين الجديد متبطِّحا على ذات قارعة في صحراء العرب الكبرى، تحت شجرة يبدو حجمُها أصغرَ من ظِلِّها، متوسدا خُفَّهُ الذي لا يتعدى سُمْكُهُ مجموعةَ أوراق لا يزيدُ عددُها عن أصابعِ اليدِ الواحدةِ مِمَّا نكتُبُهُ نفاقا وتزلُّفا، ولا مانعَ أنْ أبالغَ فأقول: لا يتجاوزُ سُمْكُ خُفِّهِ قدرَ شفرتين مِمَّا نستعملُه لحلاقة ذقوننا المضحوك عليها دائما، قالها ذلك الرجل، وقد كان ينتظر منه استقبال سفراء الملوك مما تعوَّد عليه عند ملكه، أوالملوك، والأمراء، والسلاطين، والأباطرة الذين كان يذهب إليهم، فلم يجد أقَـلَّه: "حَكَمْتَ، فَعَدَلْتَ، فَأَمِنْتَ، فَنِمْتَ"، وذهبت مقولتُه مثلا يتناقلُه أُجَراءُ الخير، ونَقَلةُ الأخبار، ولا أدري كيف سمعوه يقولها، ولم يكن عنده، أو معه من أحد، وهل قالها بلغته أم بلغة العربان من بني قومي!!!.
أمَّا الدابَّةُ الحقيرةُ التي تربض عند أبعد نقطة من جسدي من تحت، فقد قالت لي على حالها الموصوفةِ غيرَ ما قاله ذاك الرجلُ المنصفُ اللَّبِقُ على الرُّغم من أنه لم يجد ما كان يتوقعه من استقبال الوفود الرئاسية، وحملة الرسائل الملوكية: "وُلِدْتَ، فَطَعِمْتَ، فَكَبِرْتَ، فَتَرَهَّلْتَ؛ فَجَسَدُكَ اليومَ طَوْعُ أمْرِي". قالت ذلك، وغرست خرطومَها في جسدي، عند أبعد نقطة، كما قلت أكثر من مرة. حاولت أنْ أبعدَها، أنْ أردَّ عليها، وأنا المعروف عَنِّي بالردود القوية البليغة؛ فأنا أبو الفصاحة والخطابة والبيان، لا يخرج الشعرُ إلا من كُمِّي، ولا يَعْذُبُ إلا من ذَوْبِ لساني، تذكرتُ: هل تستطيع آذانُها الصغيرةُ أنْ تسمعَ كلامي؟ هل بمقدوري أنْ أوصلَ لهذه الدابَّةِ الحقيرةِ ما أريدُ قولَه؟ تحولت رغبتي إلى اندهاش، بَدَأَتْ أصابعُ قدمي تتفطَّرُ أَلَمًا، ولونُها بالتغيُّر، يصعدُ الألمُ إلى أعلى، بَدَأَتْ ساقي بالانتفاخ، والتورُّم، حاولتُ أنْ أتحرَّكَ، أنْ أنهضَ، أنْ أجلسَ لم أتمكَّن، ما زلتُ ملقى على قارعةِ سريري، لا أستطيعُ الحراكَ، ساقايَ تغلُظان، تتورَّمان، يرتفعُ الألمُ بهما، تغيَّرَ لونُ لحمِ جسدي، وبدأ يهترئ قليلا قليلا، صار الألمُ والتغيُّر أقربَ إلى عَيْنَيَّ، وصلَ الفخذين، وما بينهما، انتقل إلى أسفل البطن، وهنا بَدَأَتِ الأفكارُ تحومُ برأسي: كيف سأعودُ لممارسة عملي؟ ماذا سيقولُ رئيسي في العمل عني؟ هل سيصدقُ أني عجزتُ عن القدوم للعمل؟ أم هل سَيَعُدُّ هذا التغيُّبَ كالعادة نوعا من التملص والتحايل؟ زوجتي، وأولادي هل سيقبلون البقاء مع عاجز وصل به العجز أن يبقى ممددا على قارعة السرير من غير قدرة على الحراك؟ كيف ستكون ردة فعلهم؟ هل سيقبلون البقاء معي وقد غدوت غير قادر على النفع، والعطاء، والعمل؟ والمرأة العفيفة التي لا يعلم عنها أحدٌ كم تحملت، هل سترضى بي زوجا عاجزا، وهي تعرفني قويا، متماسكا، رجلا ولا كل الرجال؟ أين من أحلم بهم أولادا أقمارا رجالا للمستقبل؟ كل ذلك تحطم بلحظة، ولن يتحقق منه شيء.
بَدَأَتْ دائرة الألم تتسع، وتقترب من المناطق الأكثر حساسية، الكبد، الحمد لله أنني أزلت الزائدة الدودية من قبل وإلا انفجرت، كيف سأتناول الأطعمة التي ضاقت بها الثلاجة مما تَعُجُّ به الأسواق، معدتي تحترق، وأمعائي تتقطع، بدأت أنفاسي تتهدج، الحمد لله دائما فمازال القلب ينبض، ومازالت كمية علاجه كافية، حاولت أن أنظر ناحية العلاج لأتأكد؛ فلم أتمكن من الالتفات، المهم أنه موجود، قلبي ينضح بالشوقيات، والعقل يجاذب الذكريات؛ فلم أنسَ ماضِيَّ الجميل، وكلَّ عذابات السنين، أتذكر يوم كنت أقبض الراتب في كل آخر شهر، لم يكن يزيد عن السبعين دينارا، أُسَدِّدُ أغلبَها للدكاكين، وعندما أصلُ إلى البيت كانت تنظر إليَّ سيدةُ البيت؛ فتقول: ماذا تبقَّى كمصروف، أقول: سأذهب بعد يومين إلى (أبو فلان) سيقرضني مبلغا نتصرف به خلال الشهر، وهكذا ...، فتقبلُ الأمرَ مرتاحة؛ لأنها مُوقِنةٌ أنَّ الله لن يضيعَنا، لم أنْسَ شيئا مِمَّا عمِلْتُهُ لتحقيق مبتغاي، ولن أنسى طموحاتي، فقط تحمل مسؤولية الناس هو الشيء الذي لمَّا يتحقق لي، كلُّ ما تحقق كان على أفضل ما يكون، لن ألومَ نفسي؛ فما أريدُه هو نبذُ كلِّ تبعات الجسد المتهالك الذي أتعبته كثرةُ المشاغل، لا يليقُ بي أنْ أبقى هكذا على قارعة السرير عاجزا، لا أريد أن ألبس الذهب والحرير، أريد أنْ أحلمَ بكرسي إمارة، وأنْ أحكمَ كأمير؛ لأحقِّقَ العدالةَ بين الكبير والصغير، أريد أنْ أشرحَ لكم يا سادة أنَّ للحقير مكانَة، وأنَّ له نفسا ينبغي أن لا تكون مُهانة، كيف سأحقق هذه النبوءة وهذا المرضُ العضالُ يتغلغلُ فيَّ من أبعدِ نقطة في جسدي إلى أقربِ نقطة من عيني بسبب تلك الدابة الخبيثة؟
ازدادت نبضات قلبي، هل بدأ العدُّ العكسي؟ مازال لساني صحيحا، وساعداي قويتين، مازال لي عينان تنظران، وتحدقان بدقة، فكري يتخيل المستقبل مرسوما كأنه نجم في الفضاء، قمر نحيل يعانق الشفق، يطل على الأرض من كل الجهات صبحا ومساء، لا يهم، سيزول كلُّ هذا التورُّم، وستذهب المعاناة، لا يمكن لأحد أنْ يتخيل كيف ستصبح الأمم، والأكوان من دون قمرها، ارتفع الألم مكانيَّا قليلا، أصاب القلب، ارتعش بخفة، تجاوز الألمُ مكانَ القلب إلى الساعدين، اقترب من اللسان، هل أُصبت بالهذيان، لم تعد تتردد على لساني سوى كلمة واحدة: "يا حفيظ أعد لي كياني، فأنا على حق، ولست الجاني"، سكتُّ لم أعد قادرا على التكلم، ارتفع الألمُ مرة أخرى، لم تعد عيناي تريان بوضوح، لا يوجد ما أستطيع أنْ أختبر به عينَيَّ، أمامي صفحةٌ واحدةٌ: سوداء أو بيضاء لا فرق، أمَّا النقاطُ الصغيرةُ المتناثرةُ هنا وهناك فلا تكادُ تُرى، استمرَّ الألمُ بالتقدم إلى نقطة الارتكاز، وأخذ يقترب من العينين، بدأ بالوصول إلى الرأس وما حوى، لم أعد قادرا على التركيز بالأشياء من حولي، لا أدري كم كانت المدة التي انقضت على هذه الحال، الأولادُ، والبناتُ، والنسوةُ والرجالُ من حولي يتكوَّمون، ينظرون، ويبحلقون بي، هذا يبتسم فَرَقا ، وذاك يرفع كفيه إلى السماء تضرُّعا وخيفة، هذه تبكي، وتلك تنادي العليَّ العظيم، الناسُ من حولي يتكاثرون شيئا فشيئا، أشقائي وشقيقاتي، أهلي وأقاربي، جيراني وأصحابي، وأهل الحي من حولي: قريبهم وبعيدهم، أراهم وحدا واحدا، المكانُ مزدحم بالصور، حتى شجراتُ النخيل التي أحضرتها من السعودية بلاد الحرمين اتَّضَحَت في المشهد، لم يَعُد شيءٌ خافيا عليَّ، أسمع صوت الرئيس الماليزي يخطبُ في (موسكو)؛ ردّا على إسقاط الطائرة الماليزية، وأشباهُ رجال متخفِّين يستظلون شجرا لم يسبق لي أنْ رأيته من قبل، ربما قرأت عنه، وسمعت بعضهم يسميه (الغرقد)، خيول تسابق الريح تصهل صوب الغرب دونما انتظار، وهتافات، وترديد كأنه النشيج يطغى على الآذان، ومن خلال الديجور يظهر رجل من نور، له مَلامِحٌ كملامح كُلِّ مَنْ أعرفُهم من الرجال، أو مَنْ قرأتُ عنهم، ممتطيا جوادا، يحمل بيده شعاعا لا (أبيض) منه، ولا (ألمع)، كأنه السهم، لكنه ضوء صغير كرأس دبوس، ودوَّى في المكان صوتٌ مُجَلْجِلٌ طبَّقَ الآفاقَ، حارَ منه كُلُّ الموجودين، وأخذوا يرددون بصوت واحد كأنه صوتُ الكونِ يَنْبَعِثُ من كلِّ مكان، راياتٌ حولَه خوافقُ، لها حفيفٌ مثلُ أوراقِ الشجرِ يَمُرُّ في ثناياها النسيم، فتصْدَحُ أصواتُها كأشجى ما تكونُ عليه الأنغام؛ فَتَرِقُّ لها أعطافُ الأغصان متمايلةً كأنها الحريرُ تلبَسُهُ الغِيدُ، فيا لروعة الزمان والمكان! وبدأ ذاك الرجلُ ذو المهابة الذي يمتطى صهوةَ الجواد، وكان يحمل سهما صغيرا من نور، يمسح على جسدي، صار الضوءُ ينتقل عبر جسدي، من النقطة الأقرب إلى الرأس، وأخذ بالنزول إلى أطرافي، كلما ابتعد أضاء أكثر، وكلما مسَّ طرفا من جسدي، أو عضوا عادَ أحسنَ مما كان، حتى وصل إلى المكان الذي ربضت فيه تلكم الدابة الحقيرة، وهنا قال بصوت كأنه تراتيل المقرئين: "أنتَ لستَ في حاجة إلى شيء". وأردف: "أنتَ بِكَ حاجةٌ إلى- ووضع سهمه محل خرطوم الدابة الحقيرة- وقال: (غَـــزَّةَ)"!.
وأكَّدَها ثانية وثالثة بقوة واتزان، بصوت مِلْؤُهُ العِزَّةُ: "أنْتَ بِحَاجَةٍ إلى غَزَّةَ.
أنْتَ بِحَاجَةٍ إلى غَزَّةَ"!!!.
د فريد العمري