قصة الصراع الفلسطيني لإقامة دولة لمؤلفه الدكتور رشيد الخالدي
تلخيص وتعليق الدكتور محمد الجاغوب
وُضِعَ الكتاب بالإنجليزية، وصَدَرَت الطبعة الأولى منه عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 2008، وترجمه إلى العربية هشام عبد الله، يقع الكتاب في ثلاثمئة وخمسٍ وعشرين صفحة من القطع الكبير، وهو كتاب تاريخي يبحث في القضية الفلسطينية، وبالتحديد في العقبات التي حالت دون قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على التراب الفلسطيني، تصدّرت الكتاب مقدّمة من ثلاثٍ وثلاثين صفحة، طرَح فيها المؤلف مشكلة الكتاب المتمثلة في عدم تمكن الشعب العربي الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة على أرض فلسطين قبل عام 1948 وبعده.
والمؤلف يتدرج في عَرْض مادة الكتاب إلى أن يدخل في المحاولات الفلسطينية الحديثة لإقامة الدولة، واستعدادات الفلسطينيين لإيجاد نواة تلك الدولة بأجهزتها ومؤسساتها أثناء فترة الحكم الذاتي التي أفرزتها اتفاقات أوسلو، والعقبات التي أطلـّتْ برأسها بعد الانتخابات الفلسطينية لعام 2006 والتي مكـّنت حركة حماس من تشكيل الحكومة الفلسطينية، وتداعيات ذلك الحدث محليا وعالميا، حيث حوصرت تلك الحكومة اقتصاديا، وجرى تصعيد إسرائيلي في عمليات الاغتيال، وشن الهجمات العسكرية على قطاع غزة، والرد الحمساوي بأسر الجندي جلعاد شاليط، ورد حزب الله المتثمل بخطف جنود إسرائيليين، واستدراج الجيش الإسرائيلي لحرب شاملة على لبنان صيف 2006، تلك الحرب التي أوقعت في صفوف الإسرائيليين خسائر لم يعهدوها في تاريخ حروبهم مع العرب، وقلــّلتْ من هيبة الجيش الإسرائيلي.
يُنوّهُ المؤلفُ إلى أنه لم يتطرق لكافة أطراف الصراع، وأنه اقتصر على دَور الطرف الفلسطيني فيه، وجهود هذا الطرف في الحصول على الاستقلال وإقامة الدولة، وتداخلات تلك الجهود مع جهود أطراف إقليمية أخرى لعرقلة ذلك الهدف، وتأثير التأخير في تحقيقه عبر عقود على تفاقم مشكلات المنطقة ككـُل، ويتساءل عما إذا كان يوجد ارتباط بين فشل محاولتي إقامة الدولة الفلسطينية قبل قيام إسرائيل وبعده. ومِن الواضح أنّ المؤلف يُدرك أنه ألقى بتبعات ذلك الفشل على الفلسطينيين أنفسهم رغم أنهم الطرف الأضعف في المعادلة السياسية، ورغم وجود أطراف دولية قوية، ودول عربية غير جادة في حلّ القضية. لم يُرد المؤلف التحاملَ على الطرف الفلسطيني واتهامه بالتقصير بقدر ما أراد أنْ يضَع القيادات الفلسطينية أمام مسؤولياتها، وتحميلها مسؤولية بعض القرارات غير الموفقة في إدارة الصراع، ولماذا لم تتخذ تلك القيادات من فشل المحاولة الأولى سببا لنجاح المحاولات الحديثة في إقامة الدولة؟ (الكتاب،ص:7)
وعن الدَور الأمريكي في الصراع يُحاول المؤلف الفصل بين دور الشعب الأمريكي والأدوار التي لعبتها حكوماته المتعاقبة لحل الصراع أو لتأزيمه، ويرى أنّ الأمريكيين غالبا ما يدخلون في مناقشة كثير من القضايا الدولية دون معرفة كافية بحيثيّاتها، ودون إدراك حجم الدور الملقى على عاتق بلدهم. ولكنّ أحداث أيلول 2001 هيّجت الخواطر لدى الشعب الأمريكي؛ فصبّوا غضبهم على منفذي تلك الجرائم بحق أمريكيين أبرياء، مُتناسين ومتجاهلين أنّ بلدهم أمريكا وعلى مدى عقود من الزمن هو الذي تحالفَ مع الحركات والجماعات الإسلامية المختلفة، ومع القوى الظلامية التي أوجدت منفذي أحداث سبتمبر أيلول الأمريكية، وأنّ أولئك المُنفذين ومُرشديهم الروحيين كانوا على الدوام جُندًا مُتحمسين أو عملاء مأجورين لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية ضد الاتحاد السوفييتي، وضد القومية العربية ورموزها، وضد الثورة الفلسطينية وقادتها الوطنيين، ثم صاروا ينظرون إلى الولايات المتحدة وحلفائها على أنهم أعداء لهم!(ص: 10- 13).
في بداية الثمانيات من القرن العشرين لعب الإخوان المسلمون الفلسطينيون دَورا كبيرا في توجيه الشباب الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية للقتال في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، وقد رحّبتْ إسرائيل بتلك التوجُّهات، وسهّلت خروج أولئك الشباب لإبعادهم عن ساحة الصراع الحقيقية معها، ولإضعاف التأييد لمنظمة التحرير الفلسطينية في صفوف الشعب الفلسطيني، وقد لقيتْ هذه الحملة الإسلامية تمويلا غيرَ محدود من دول عربية وإسلامية، وتسليحا وتدريبا من الولايات المتحدة الأمريكية (ص:21).
لم يَدم زواج المصلحة بين الحركات الإسلامية المُتطرفة وداعميها مِن عرب ومسلمين وأمريكيين، فالجيوش الأمريكية والباكستانية منذ عام 2001 تطارد حلفاء الأمس. والدكتور رشيد الخالدي موفق في هذا التحليل والتشخيص غاية التوفيق، فقد أخطأتْ بوصلة الحركات الإسلامية خطأين جسيمين: الأول في تحالفها مع الولايات المتحدة الداعمة والراعية لإسرائيل، والثاني في توجيه طاقات الشباب العرب إلى الجهاد في المكان الخطأ، وقد أثبتتْ أحداث السنوات الماضية صحة هذا الرأي، فقد تناحَر الأفغان فيما بينهم، ثمّ تنكّروا هم والباكستانيون للمجاهدين العرب وعذّبوهم ونكـّلوا بهم وبعائلاتهم، وسهّلوا اعتقالهم وإرسالهم لسجن غوانتانامو، وبذلك ذهبتْ جهود أولئك الشباب أدراج الرياح.
بعد أحداث سبتمبر أيلول وبعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية - يقول المؤلف- ازدادت المقاومة لمنتقدي السياسة الاسرائيلية داخل الولايات المتحدة، وواكبت تلك المقاومة تغطية ضئيلة لأخبار الشرق الأوسط في محطات التلفزة الأمريكية أدّت إلى تعتيم إعلامي أمريكي على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وقد أدرك مؤلف الكتاب وجود علاقة من نوع ما بين قضايا الإرهاب والحرب على العراق وسياسات الولايات المتحدة من ناحية وفشل محاولات الاستقلال الفلسطينية من ناحية أخرى، فالولايات المتحدة آثرتْ انتهاجَ سياسات بريطانيا العظمى في المنطقة العربية والأخذ بوجهة النظر الإسرائيلية التي تقول إنّ فلسطين أرض بلا شعب لشعب يهودي بلا أرض، وكانت غولدا مئير تنكر بشدة وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني، إلى أن جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 واكتسبتْ تعاطفا أمريكيا ودوليا لم تكن تحظى به من قبل.
وقبل أن تـُقدم الولايات المتحدة على غزو العراق فيما سُمّي بعاصفة الصحراء عام 1991 أرادت أن تأخذ دعمًا عربيا؛ فلوّحت للعرب برغبتها في حل القضية الفلسطينية حلا جذريا، فكان مؤتمر مدريد 1991، ثم اتفاقات أوسلو التي أدّتْ إلى اعتراف إسرائيلي بالشعب الفلسطيني، وفق ما ورد في رسالة إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.
ويمضي الدكتور الخالدي في تحليله للموقف فيقول: كانت هناك قيادات فلسطينية لم تفهم خطورة التحدي الاستراتيجي الذي يواجه شعبَها، فلم تـُقدّر ميزان القوة الحقيقي في الميدان حقّ قدره؛ فأقحمتْ نفسها في الخلاف العراقي الكويتي، ثم التفـّتْ على الوفد الفلسطيني المفاوض في مدريد وواشنطن بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي بأنْ أدارتْ مفاوضات سِرّية في أوسلو على يد فريق من المفاوضين غير المؤهلين؛ فكان خطؤهم الفادح بتأجيل القضايا الهامة كالقدس واللاجئين والحدود والمياه لمفاوضات الحل النهائي، وهو ما لم يتحقق بعد مرور خمسة عشر عاما على توقيع اتفاقات أوسلو.
لقد دأبَتْ كلٌ من بريطانيا والولايات المتحدة على محاولة استرضاء عناصر الرفض في فلسطين والمنطقة العربية في كل مرة تكونان بحاجة فيها لتأييد العرب؛ فكان الكتاب البريطاني الأبيض غداة الحرب العالمية الثانية عام 1939 والذي وعد بمنح فلسطين الاستقلال بعد عشر سنوات، والحد من هجرة اليهود إليها، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية وظهور حكاية الهولوكوست قلبَ الأوضاع رأسا على عقب. وبالمِثل تظاهرتْ إدارة جورج بوش الابن بدعم فكرة قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل غداة إقدامها على غزو العراق عام 2003.
وأعتقدُ أنّ مؤلفَ هذا الكتاب يُدرك تماما أنّ أوراق حلّ القضية الفلسطينية ليست في يد أي إدارة أمريكية - مهما بلغتْ رغبتـُها في الحل - بقدر ما هي في أيدي مؤسسات الحكم الأمريكية الأخرى، فقد أشار إلى وجود عوامل بنيوية عميقة من الدعم للصهيونية، تحول دون ظهور ضغط حقيقي وذي مغزى على إسرائيل، الأمر الذي يُلقي بالمسؤولية على العرب شعوبا وحكومات، بأنْ يعرفوا مصلحتهم جيّدا، ويوظفوا طاقاتهم في الضغط على المصالح الأمريكية، من أجل التأثير في الرأي العام الأمريكي، وإجباره على الإقرار بعدالة القضية الفلسطينية، وبفداحة الظلم الذي لحِق بشعب فلسطين.
لقد سَعَتْ هذه الدراسة إلى الكشف عن أسباب فشل الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، لأنّ التاريخ الفلسطيني المعاصر جرى التعتيم عليه في الغرب في مقابل الحديث عن التاريخ المأساوي للشعب اليهودي، وإذا كانت فلسطينُ بلدا صغيرا لا يزيد شعبها عن عشرة ملايين نسمة فإنها وشعبَها كبارٌ في أحداث العالم، والاعتراف بالضرر الذي وقع على الفلسطينيين يُشكل تحدّيا أخلاقيا كبيرا للمجتمع الدولي، وعلى الرغم من أنّ الفلسطينيين لديهم الكثير من المزايا والمناقب وأمامهم الكثير من الخيارات إلا أنّهم كانوا منقسمين على أنفسهم بسبب كثرة الفئات المتنافسة، مما وفـّر للقوى المعادية الكثير من الثغرات لاستغلالها ضدهم، فبعض المؤرخين الإسرائيليين من أمثال: آفي شلايم و إيلان بابيه و توم سجيف و بني موريس يكتبون في إطار الأساطير القومية لدولة إسرائيل، ومن تلك الأساطير أنّ ما بين خمسة وعشرة جيوش عربية غزتْ إسرائيلَ بعد تأسيسها، وهذه الأسطورة الإسرائيلية عن غزو كاسح للجيوش العربية تحولتْ إلى أسطورة عالمية، في حين لم يقابلها رواية رسمية فلسطينية موثوقة يمكن الاعتماد عليها، ولكن توجد لدى الفلسطينيين رواية قومية غير معروفة خارج حدود الوطن العربي، ومختلف عليها داخله وتقوم على تبرير هروب اللاجئين، والتواطؤ المشترك بين إسرائيل وبريطانيا والحكومات العربية ضد الشعب الفلسطيني، والتفوق المطلق للصهاينة، ولم تكن هناك دولة فلسطينية تحفظ هذا الأرشيف وتحافظ عليه، وفوق ذلك طغتْ على هذه الرواية الأسطورة ُ الملحمية الإسرائيلية التي استولت على عقول الغربيين، ومن غير المحبذ قراءة تاريخ المهزومين من خلال سجلات المنتصرين (ص:29-30).
نعم! فمن غير المُحبذ قراءة تاريخ المهزومين من خلال سجلات المنتصرين. لرُبما تكون هذه مشكلة غالبية الكتاب العرب والإعلام العربي، فبعد مرور ستين عاما على ضياع فلسطين مازالوا وكأنهم يكتبون للرأي العام العربي، ويكتبون لشرح حيثيات القضية الفلسطينية لأصحابها ولجمهورها، ويُفصّلون في وصف الجرائم الإسرائيلية، وكأن الرأي العام العربي لا يعرف حقيقة الأمر، والأولى بكتاب الأعمدة العرب وبالإعلام العربي أن يسعَوا إلى مخاطبة الرأي العام الدولي والأمريكي على وجه الخصوص والتأثير فيه.
يتساءل الدكتور رشيد الخالدي مؤلف هذا الكتاب باستغراب: لماذا فشِلَ الفلسطينيون في تولي السيطرة على أجهزة دولة الانتداب؟، وفي إقامة هياكل بديلة للدولة على الرغم مِن أنّ لديهم شعور قوي بهويتهم الوطنية، مقارنة بدول عربية أخرى رزحتْ تحت نير الانتداب البريطاني، وكيف أسهمَ هذا الفشلُ في صنع هزيمة 1948، وكيف أثـّر على الفلسطينيين خلال العقود العديدة من انعدام الدولة التي تلتْ الهزيمة. وعندما أسّس الفلسطينيون منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية عمل هذان الكيانان في ظروف بالغة الصعوبة وفي أجواء من التحيز ضدهما، لكنّ فشلهم لا يمكن إرجاعُه فقط إلى التحيز ضدهم، بل إنّ قراراتهم لعبتْ دوْرا رئيسيا في ذلك الفشل، وإذا لم يتعلموا من أخطاء الماضي فإنّ معاناتهم ستطول (ص:38).
لقد وضَعَ الدكتور الخالدي يده على كثير من أسباب ذلك الفشل، عندما عزاه إلى الانقسام والتشرذم في الصف الفلسطيني، والتنافس بين عائلات ووجهاء الوطن، وتغليب المصالح الشخصية لكثير منهم على المصالح الوطنية، وتصديقهم لما يقوله المندوبون البريطانيون، وتأخر اندلاع الثورة الفلسطينية إلى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، وتعدّد الفصائل الفلسطينية وإقحام الفلسطينيين أنفسهم في خلافات مع الدول العربية.
في بداية عام 1948 كان العرب أغلبية في فلسطين، وكانوا يشكلون ما يقرب مِن المليون ونصف المليون من مجموع مليوني نسمة، ويملكون 90% من أراضيها، ومع تصاعد الحرب حدث تحول مُذهل حيث طـُرد نصف العرب، في حين غادرتْ بقيتهم أرض فلسطين بعد دخول الجيوش العربية إليها، وخسروا ممتلكاتهم في المدن والقرى الفلسطينية، وأصبحت تلك الممتلكات ضمن دائرة ممتلكات دولة إسرائيل. وإسرائيلُ تغسلُ يديها من تبعة طرد الفلسطينيين وخسارتهم لممتلكاتهم، وتلقي بتلك التبعات على الزعماء العرب، وتزعم أنهم طلبوا من الفلسطينيين الفرار وإخلاء مناطق القتال، لكنّ المؤرخين الإسرائيليين الجُدد نفـَوا تلك المزاعم، وذكروا أنّ القيادة الفلسطينية طلبتْ من السكان غير المقاتلين إخلاء منازلهم حرصا على سلامتهم، وأنّ البعضَ منهم فرّوا قبل أنْ يصلهم القتال، في حين فرّ كثيرون تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية (ص:41).
أمام هذه النتائج الكارثية للهزيمة يتحدث المؤرخون العرب عن الأسباب الخارجية بدلا من دراسة الديناميكية الداخلية للمجتمع الفلسطيني، حيث كان ذلك المجتمع يعاني من انقسامات عميقة في عقود ما قبل النكبة، وأنّ أشد هذه الانقسامات وضوحا كان التنافس بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي. وقد عانى المجتمع الفلسطيني قبل نهاية الانتداب من نقص في التعليم إذ كانتْ نسبة 22% من ذلك المجتمع تتقن القراءة والكتابة حسب إحصاءات 1931، في مقابل ما نسبته 86% من المتعلمين بين فئة (اليشوف)، وهم سكان فلسطين من اليهود، علاوة على التفاوت الكبير في الدخل القومي للفرد بين الفئتين، وتمركز اليهود في المُدن الحيوية كيافا وحيفا والقدس، وانحصار العرب في مجتمعات ريفية فقيرة (ص:46،52،53).
إنّ لجوء كثير من المؤرخين العرب إلى الكتابة عن الأسباب الخارجية للهزيمة أمْرٌ سهل نفسيّا وعلميا، فمن العسير على المرء أنْ يجلدَ ذاته، كما أنّ عزوَ الهزيمة لأسباب خارجية فيه تبريرٌ للهزيمة، ويتفق مع نظرية المؤامرة التي يُؤمن بها العقل العربي، ربّما تكون المؤامرة موجودة ولكنْ لماذا نحمّلها كامل النتائج؟! وأين يكون دَوْرُ المُتآمَر عليهم؟! ولماذا لا نُحاكمُ أنفسنا، طبقا لمقولة الشاعر العربي الحكم بن عبدل الأسدي:
وأقضي على نفسي إذا الأمرُ نابـَني وفي الناس مَن يُقضى عليه ولا يـَقضي.
كان الانتدابُ البريطاني على فلسطين عام 1922 وثيقة مُعترَفا بها دَوْليا، لكنه لم يعترف للفسطينيين بأنهم شعب له حق تقرير المصير، وكان الفلسطينيون يؤمنون بأنهم جزء من سورية الكبرى، ويعتزون بقوميتهم العربية، وكانوا يواجهون ذلك الانتداب البغيض و وعد بلفور المشؤوم، وهكذا كان الفلسطسنيون يعيشون وضعًا غير عادي مقارنة بغيرهم من الشعوب المجاورة التي حصلت على استقلالها بعد فترة وجيزة من الانتداب على بلدانها كالعراق ومصر وسوريا ولبنان وشرق الأردن.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو لماذا لم يتمكن الفلسطينيون من إقامة بنية مستقلة رغمًا عن كلّ المُعوقات، ورغمًا عن عدم الاعتراف البريطاني، فقد كان بوسع هذه البنية الوطنية لو أنشئت العمل كقطب بديل عن مشروعية بنية دولة الانتداب، فهكذا فعل المصريون والهنود عندما أنشؤوا بنىً بديلة للانتداب البريطاني عن طريق الحركات الوطنية في بلدانهم، ونجحوا في الحصول على تنازلات رئيسية وتعهد بتقرير المصير. قد يكون الجواب على هذا التساؤل هو أنّ النخبَ الفلسطينية التقليدية والوجهاءَ الفلسطينيين رفضوا بداية أنْ ينأوا بأنفسهم عن البريطانيين، ولمّا قرّروا ذلك كان الوقت متأخرا، ويُستدلّ على ذلك مِن مَحاضر اجتماعات الموفدين الفلسطينيين والمسؤولين البريطانيين التي كانت تطغى عليها لهجة الاستعطاف، ولم يكن في وسْع أولئك الوجهاء فكّ أنفسهم من القيود التي صاغها لهم البريطانيون، والخروج من القفص الحديدي للانتداب.
لقد برز الحاج أمين الحسيني عندما اختاره هيربرت صمؤئيل زعيما دينيا للمجلس الإسلامي الأعلى رغم خلفيته العلمانية، وكان هذا الاختيار يتصف بالدهاء، إذْ استطاع البريطانيون من خلاله تشتيتَ الطرف الفلسطيني وإلهاءَه عن المطالبة بمؤسسات وطنية أو تمثيلية يمكن أن تقود إلى دولة مستقلة. كما أنّ البريطانيين بهذا الاختيار للحاج أمين الحسيني حجّموا الدور الوطني لابن عمه موسى كاظم الحسيني الذي انتخب رئيسا للمؤتمر العربي الفلسطيني، ذلك المؤتمر الذي لمَّ شملَ البلاد وطالبَ بالحقوق الوطنية للشعب، وقد ألزِمَت الشخصيات الفلسطينية التي أغريَت بتلك المناصب بالامتناع عن معارضة الانتداب علنا، وحافـَظ َأمين الحسيني من جانبه على هذا الالتزام، مقابل تحسين مركزه وموارده وامتيازاته، لقد كان الرجل عذبَ الكلام، مُسيطرا على المؤسسة الدينية التي يترأسّها، إلا أنه لم يكن من طبقة الزعماء الوطنيين العرب كسعد زغلول أو مصطفى النحاس أو شكري القوتللي، لقد ظل المفتي زعيما فلسطينيا دون منازع لمدة تزيد على عقد من الزمن، ورغم الدور الذي قام به كمانعة صواعق إلا أنّه لم يسلم من تهجمّات الصهاينة عليه، وتشويه صورته إلى أنْ فـرّ من فلسطين إلى ألما نيا عام 1937، وانتهى كحليف للنازيين في الحرب العالمية الثانية (ص:96،100،101).
وفي إطار التنافس العائلي بين آل الحسيني وآل النشاشيبي وردَ في الأرشيف الصهيوني تقرير لحاييم كالفاريسكي عام1923 يُفيدُ بأنّ فخري النشاشيبي طلبَ أموالا لتأسيس حزب سياسي يواجه به المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة المفتي الحسيني. ويمكن تفسير هذا الوضع بأنّ الوجهاءَ الفلسطينيين يعتبرون أنفسهم الورثة الشرعيين للحكم العثماني؛ كونهم تقلدوا مناصب مُهمّة في ذلك الحكم. ولم يرضَ عامة الفلسطينيين عن فشل حركتهم الوطنية في تحقيق أهدافها، فازدادت الأعمال الثورية المُوجَّهة ضد الانتداب وضد الصهاينة وضد بعض العرب المتعاونين، فبعد وفاة موسى كاظم الحسيني عام 1934 سار ابنه عبد القادر الحسيني على خطى الشيخ عز الدين القسام في رفع راية المقاومة، فكان استشهاده في معركة القسطل 1948.
لعبتْ الصحافة الوطنية الفلسطينية الدور الأبرز في مقاومة الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، ومنها صحيفة (فلسطين) التي أطلقها عيسى العيسى، لقد وازن العيسى بين ولائه للقومية العربية وحُبه لفيصل بن الحسين ولفلسطين من ناحية وبين عدائه للصهيونية، وأصبحت صحيفته مَصدرا يُعتمد عليه في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ويوثق به في أنحاء الوطن العربي، كان العيسى يشغل منصب رئيس الديوان في حكومة فيصل الأول مما سهّلَ عليه الحصول على وثائق مهمة وضرورية لعرض حيثيات وخفايا القضية في صحيفته (ص:136-137).
الإضراب الفلسطيني عام 1936 والمقاومة المسلحة التي أعقبته أقلق بريطانيا وأفقدها السيطرة على عدد من المدن والبلدات الفلسطينية، لكنّ جبروت برييطانيا ونقص المَدد الخارجي للثورة وضغط الحكام العرب على الفلسطينيين، وعدم وجود بنية سياسية وعسكرية فلسطينية وما رافق ذلك من انقسام فلسطيني، وفشل الثورة في تحديد أهداف قابلة للتحقيق أدّى كلّ ذلك إلى قمع الثورة، وكانت كلفة ذلك باهظة على الشعب الفلسطيني، خسائر مادية واغتيالات، واقتتال داخلي ونفي وتشرد، وفرار المفتي واعتقال أعضاء الهيئة العربية ونفيهم إلى جزيرة سيشل، ولو أنّ الفلسطينيين قاموا بثورتهم في وقت مبكر من الانتداب البريطاني على غرار ثورة المصريين 1919، وثورة العراقيين 1920، وثورة السوريين 1925 لجعل ذلك البريطانيين يُذعنون ويـُقرون بصعوبة تحقيق حلم اليهود في وطن قومي لهم في فلسطين، ولانعكسَ ذلك إيجابيا على مصالح الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال (ص:163).
في عام 1948 لم يشارك في الحرب سوى أربعة جيوش عربية، هي: الجيش العربي الأردني والجيش العراقي، والجيش السوري والجيش المصري، وكان أكثر هذه الجيوش قوة هو الجيش الأردني الذي استطاع أن يُحافظ على الضفة الغربية ويُلحقها باتحاد أردني فلسطيني عُرف باسم المملكة الأردنية الهاشمية. أمّا قطاع غزة فلم يدخل في ذلك الاتحاد لأنّ المفتي الحسيني أقام فيه حكومة عُرفت بحكومة عموم فلسطين، وظلت فيه إلى أن انهزمت القوات المصرية وفرّت تلك الحكومة إلى القاهرة (ص:177).
بعد عام 1948 صار النشاط العسكري والسياسي للفلسطينيين مَحظورا على أرض فلسطين، فاضطرّ جيلٌ جديد من الشباب الوطنيين إلى ممارسته خارج الوطن، وفي ظروف صعبة من التشتت والرقابة والملاحقة، إلا أنهم استظلوا بحركة القوميين العرب، ووجدوا ملاذا آمِنا لهم في القاهرة وبيروت والكويت، ولمَع نجم ياسر عرفات، وارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية طوال أربعة عقود، واستطاع بحنكته أن يُعيد شعبا إلى مسرح الأحداث مرة أخرى بعد ابتعاده عنها ردحًا من الزمن. وكغيره من القادة فإنّ شخصية عرفات تختزن طموحات شخصية ووطنية، وحققتْ نجاحات لا يمكن إنكارها، إلا أنه يتحمل كثيرا مِن تبعات القرارات والمواقف الخطأ، ومنها على سبيل المثال مَيله لإقامة بنى مزدوجة في الأجهزة الأمنية، وزجّ منظمة التحرير في نزاعات مُسلحة مع حكومتي الأردن ولبنان. ومع ذلك ظلّ عرفات الرجل الأبرز في قائمة الزعامة الفلسطينية حتى بعد قيام السلطة الفلسطينية، رغما عن تراجع قدراته الجسدية والذهنية، فقد أحْبط َ محاولات أحمد قريع ومحمود عباس في فرْض نفسَيهما عليه كرئيسي وزراء للسلطة عام 2003، وسَحَقَ تحدّيا علنيا لسلطته في صيف 2004 قام به محمد دحلان (ص:191).
بدتْ اتفاقيّات أوسلو بادئ الأمر كما لو أنّها قرّبتْ حلم تحقيق الدولة الفلسطينية إلى أرض الواقع، ولكنْ بعد اثني عشر عاما من توقيع تلك الاتفاقيات ثبت أنّ شيئا من ذلك لم يتحقق، ولم تكن السلطة الفلسطينية تعيش حالة ازدهار داخل الوطن، فقد كانت تتعرض بين الفينة والأخرى لجبروت الجيش الإسرائيلي، وتتعرض لانتقادات خصومها إلى أن خسرتْ وابتليتْ بالنزاع بين الحرس القديم والحرس الجديد في فتح، وبين العائدين من الخارج وأهل الضفة الغربية، كما ابتليتْ بالمنافسات بين أمراء الحرب المكروهين من قادة الأجهزة الأمنية التي أنشأها ياسر عرفات، وممّا زاد الأمور تأزما الفساد المالي والإداري ومُحاباة الأقارب لدى قادة حركة فتح، هؤلاء القادة الذين أصبح الكثير منهم مَحط ّ كراهية سكان الضفة الغربية.
كما أنّ فتح فقدتْ الكثير مِن مصداقيتها في عملية التفاوض غير المجدية مع إسرائيل، فمنذ كانت المفاوضات تجري في واشنطن ومدريد بين وفد إسرائيلي ووفد فلسطيني أردني مشترك كان قادة المنظمة في تونس يمارسون ضغوطا على أعضاء الوفد المفاوض، ويتدخلون بشكل تعسفي في مجرى المفاوضات، وفوق ذلك عَهدَتْ تلك القيادة إلى وفد فلسطيني آخر غير مُدرّب ولا مُؤهل لمفاوضة إسرائيل سِرّا في أوسلو، فكانت الاتفاقيات المُجحفة بحق القضية الفلسطينية، كما أنّ استئثار بضعة آلاف من قادة فتح وعائلاتهم بالعَودة إلى أرض الوطن بموجب اتفاقيات أوسلو أشْعَرَ ملايين اللاجئين الفلسطينيين في المنافي أنّه قد جرى التخلـّي عنهم، كل ذلك عجّل في صقل صورة حماس، وفي نجاحها الكاسح في انتخابات 2006 (ص: 213،214).
كانت حماس قد طرَحتْ برنامجها الانتخابي في 2006 على أساس تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، ولقيَ هذا الطرح استحسان اللاجئين الفلسطينيين وشرائح كثيرة من الشعب الفلسطيني، وكانت فتح قد طرَحتْ برنامجا يقوم على أساس القبول بدولة فلسطينية في حدود 1967، ومن الواضح في البرنامجين عدم اتفاق الفلسطينيين على حدود العنف، فكل برنامج منهما يبيحُ لنفسه حدّا معينا من مُمارسة العنف، وهذا في حَد ذاته يعكس تفكـّكا استراتيجيا في الموقف الفلسطيني. وبعد أن دخلتْ حماس السلطة تحت مظلة أوسلو راحت تسعى إلى القفزعن برنامجها المُعلن، وتقول أنها تقبل بدولة فلسطينية في حدود 1967، أي على مساحة 22% من أرض فلسطين التاريخية.
وتناست حماس أنها كانت تأخذ على فتح تفريطها بما مساحته 78% من أرض فلسطين التاريخية، وراحت الآلة الإعلامية لحماس تـُسوِّغ تنازلاتها هذه مدّعية بأنّ قبولها بمساحة 22% لن يكون مقابل اعتراف بإسرائيل ولكنه مقابل هدنة طويلة الأمد قد تمتدّ عشرات السنين، يا الله لهذا الذكاء! وهل هذا الذكاء يُقابله غباء إسرائيلي يجعل الإسرائيليين يتنازلون دون ثمن باهض يتقاضونه؟! هذه البلبلة والتشظـّي وهذا التناقض في الطرح بين القيادات الفلسطينية يجعل مراقب الأحداث يتساءَل بإلحاح: إذا كانت المشكلة تتمثل في احتلال 1967 وليس في وجود إسرائيل ذاتها فلماذا لا يكون الاحتلال وحده هدفا لعمليات المقاومة الفلسطينية؟! وما المسوّغ لعمليات حماس ضد المدنيين الإسرائيليين داخل الخط الأخضر؟!(ص:222).
لقد وضَع مؤلف الكتاب يده على الجرح، بل على الجراح بطرحه لهذه التساؤلات، التي قد تكون الإجابة عليها مُوضحة لبعض أسباب الفشل الفلسطيني في تحقيق حلم الدولة حتى الآن. فمن منظور براجماتي يجدر بقادة الشعوب والأمم أنْ يُوحّدوا مَنهجَهم في العمل، وأنْ يُحددوا أهدافا عملية قابلة للتحقيق، وقابلة للملاحظة والقياس والتقويم، وأنْ ينتـقلوا في نهاية كل مرحلة للمرحلة التي تليها، لا أنْ ينقسموا على أنفسهم ويُضعِفوا مواقفهم، ويُضعِفوا قضايا شعوبهم. فالفصيلان الرئيسان في فلسطين ينسيان أو يتناسيان الآن أهدافهما في التحرّر والاستقلال، ويدخلان في خلاف بل في صراع مُسلح يستعصي على دهاة الدبلوماسية حلـّه، ولا يُخفي كلّ فريق منهما سَعيه الو اضح للوصول إلى كراسيّ الزعامة والسلطة، لدولة لم تولد بعد، ولشعب مثقلٍ بالنكبات، ويُجابـِهُه شعب إسرائيلي يزداد تطرفـّا وحكومات إسرائيلية تزداد تعنـُتا!..
الدكتور محمد الجاغوب