بينما كان من الأولى أن تكتفي هذه الجهة الإعلامية بالوقوف عند جماعة كانت قد أعربت عن نيتها من خلال تهديدات مسبقة لاستهداف الكنائس المصرية وكان هذا " حسب المصدر نفسه " قبل شهرين من وقوع الحادثة، وهي جماعة تنسب نفسها للقاعدة ..
وفي الواقع نحن أمام هذه الحادثة الإرهابية وغيرها الكثير المتكرر في عالمنا اليوم أمام مشكلة مركبة وبالغة التعقيد، فهي ذات محاور متعددة ومتشابكة : فمن محور وسائل الإعلام مروراً بمحور الجهات المستفيدة من هذا التخريب سواء كانت داخليةً أم خارجية، انتهاءً بالمحور الأهم وهو محور الخلل الموجود في بعض نواحي ثقافتنا الإسلامية ..
فعند الحديث عن وسائل الإعلام وعن كيفية تناولها البارد والهدّام لكل جريمة بشعة بحقنا كشعوب، بحق وحدتنا الوطنية المقدّسة وتعايشنا الإنساني الأخوي بغض النطر عن هوية الأيادي التي تقترف مثل هذه الجرائم، نراها تتناول الحدث بطريقة مريبة لا يحب وصفها إلا بالمشبوهة أو المغرضة على أقل تقدير، فما معنى أن يشار إلى الإخوان المسلمين منذ الساعات الأولى لحدوث الجريمة، بينما لو أردنا أن نطلق العنان للتحليلات السياسية " التي تحترفها وسائل الإعلام هذه " فإن بإمكاننا وضع جهات متعددة في قفص الاتهام، أقصد هنا الاتهام السياسي المعتمد على تحليل الوقائع بطريقة التحليل النظري البحت كالتي يمارسها الإعلام قبل أن تنكشف خيوط الجريمة، ولا أقصد الاتهام الجنائي المعتمد على الأدلة المحسوسة والقطعية، فمن هذه الجهات ربما من البديهي جداً أن توضع إسرائيل ومن يرتبط بها مصلحيّاً من الجهات الخارجية على رأس قائمة الاتهام السياسي، ولم لا وهل يستطيع أحد أن ينكر مصلحة إسرائيل في إشعال الفتنة الداخلية في مصر أو في غيرها من دول الجوار؟!
هل يمكن لعاقل أن يغفل عمل الأيادي الخارجية في الداخل العربي ككل، وهل يمكن لهذا العاقل أن يغرق في غيبوبته لدرجة أن يتناسى مصلحة الدول الكبرى من حالات الفتن الطائفية والمذهبية، ألا نستطيع ان نرى سير الأحداث من حولنا، هل يعقل أن يغيب عن مداركنا ما حققته أمريكا بعد عدة سنوات من تأجيجها الحرب الباردة السنية الشيعية في المنطقة، والتي يمكن لها أن تحرق أوطاناً بأكملها في أية لحظة، هل نسينا صفقة ال60 مليار دولار الأخيرة والتي ستؤمن ما يقارب 70 ألف وظيفة عمل في أمريكا !
وهل نستطيع أن نغفل دور ومصلحة دول الاستكبار العالمي في خلق هذه الفتن، فأمريكا التي وجدت مصلحتها في إعادة تأجيج التوتر المذهبي السني الشيعي، لا تخفي مصالحها في خلق توترات أخرى، وقد كشفت إحدى وثائق ويكيليكس عن امتعاض الولايات المتحدة من تراجع قدرات الجيش المصري وعن رغبتها بتطوير إمكاناته وتعزيز قدراته في وجه التهديدات الإقليمية الجديدة ومنها القرصنة والأمن على الحدود و (مكافحة الإرهاب)، إذن يجب أن لا يخفى على أحد أن المستفيد الأكبر من عولمة حالة الإسلاموفوبيا ونشر هاجس مكافحة الإرهاب هي دول الاستكبار وحدها، ولم تخفِ الوثيقة أيضاً انزعاج الإدارة الأمريكية من وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي باعتباره يقف عائقاً أمام هذا التطوير !
انظروا إلى شدة وطنية الإدارة الأمريكية وحرصها على مصلحة مصر .. إنها بحق مصرية أكثر من المصريين !
ثم لماذا لا تشير وسائل الإعلام إلى احتمال تورط الأجهزة الأمنية الداخلية في هذا العمل كما حدث في الجزائر وغيرها، أليس النظام المصري هو أحد المستفيدين من هذه الأحداث، ألم تأتي هذه الأحداث في لحظة يحتاجها نظام مبارك لتأكيد أنه القائد الضرورة في هذه المرحلة الحرجة وليثبت بذلك أنه صمَّام الأمان والضامن الوحيد لوحدة المجتمع المصري في وجه الإرهاب الإسلامي المحتمل في حال ازداد النفوذ السياسي للإخوان المسلمين، ألا يأتي الحدث متزامناً مع رغبة هذا النظام في إضعاف شعبية الإخوان ورداً على تظلُّمهم من نتائج الانتخابات الأخيرة .. أليست كلها أسئلة مشروعة ولو من باب التحليل السياسي للأحداث على أقل تقدير؟!
أما عند وصولنا إلى المحطة الأخيرة المتعلقة بثقافتنا، فلا بد أولاً من التبرؤ من مثل هذه الجرائم وبمواقف واضحة نعلن من خلالها جبن هذه الفئات المخربة وانحرافها، حتى وإن أثبتت التحقيقات تورط بعض الإسلاميين مهما كانت انتماءاتهم ودوافعهم، فالظلام لاين له .. لا عقل له ..
هل أستطيع أن أنكر وجود الفكر المشوَّه عند كثيرٍ من الإسلاميين نتيجة القراءة المغلوطة للنص المقدس، والواقع يعطينا أدلةً على استمرار وجود أصحاب هذه القراءات، والتي ابتدأت مبكراً مع نشأة الإسلام في ذلك العصر الذهبي المجيد، فخوارج ذلك العصر ومن خلال رؤيةٍ ضيقةٍ وشديدة الخصوصية خرجوا على الجيل الذي لا يختلف أحد في أنه الجيل الذي رفع راية التوحيد وحمل الرسالة للإنسانية جمعاء، فحققوا بانحرافهم سبقاً لم يسبقهم إليه أحد تكفيراً وحرابةً في أقرب الأزمنة لزمن النبوة ..
ذهب الخوارج ولكن فكرهم لا يزال موجوداً عند فئة من الإسلاميين غاب عنها الرشد وانطلقت تريد إكراه المجتمعات على أفكارها ونظرتها الضيقة حتى وإن اقتضى ذلك إحداث التغيير بكافة أشكال العنف المتاحة، فوقعت في قبضة أجهزة الاستكبار التي استطاعت تسخير فكر الإلغاء لمصلحتها، وكان هذا حال القاعدة حين سُخِّرت أفكاراً وأجساداً في خدمة مشروع أمريكي جديد للهيمنة على العالم، وابتكر لخدمة المشروع هذا قاموسٌ جديدٌ للرعب الإسلامي وتمت عولمته في أرجاء الأرض فأضحت حالة الإسلاموفوبيا حالةً يعيد بها الأخطبوط الأمريكي تجديد قوته مالياً واستراتيجياً والنتيجة إعادة تشكيل هذا العالم بالشكل الذي يناسب رؤى وتصورات الهيمنة ..
وحتى حين كان يغيب أصحاب هذا الفكر عن الساحة فعلياً، فإن أجهزة الاستكبار استطاعت تسخير الفكر نفسه بعد أن عمَّمت من خلال أجهزة الإعلام التابعة لها النفسية المهيئة لاستقبال أي خبر جديد عن إرهاب "إسلامي" محتمل، وهذا ما حدث في بعض حوادث الجزائر وما فعلته الأجهزة البريطانية من خلال ضلوعها في تفخيخ السيارات في العراق ..
سيقول البعض إنها مشكلة هذه الفئات التي تضع نفسها وفكرها موضع التسخير في أيدي هؤلاء، وسأقول بأني أنا أيضاً أقول ذلك، بل إنني سأضيف عليه أن الإسلام عند بعض هذه الجماعات مات منه إسلام الدعوة والإصلاح ولم يبقَ سوى إسلام الجهاد والفتوحات، وليتهم قرأوا الجهاد قراءة سليمة لعرفوا أنه في أبسط جوانبه مجاهدةٌ للنفس ودعوة وإصلاح وفي أشدها وأعقدها هو حالة مجتمعية عامة تقوم بها أجهزة ومؤسسات المجتمع العادل القائم بالقسط ليرد الظلم والعدوان عن نفسه "نفسه المكونة من مسلمين وغير مسلمين" وليرفع الظلم والعدوان عن الآخرين "أيضاً مسلمين وغير مسلمين" ..
إنه أداة لرفع الإكراه عن العقول والاستبداد عن الإنسان كي يختار "ما يقرر أن يختاره هو" بقناعة تامة وعقلٍ متحررٍ من أسر الاستبداد والعبودية، وسأزيد على ذلك بأنه ما زالت النصوص تقرأ عند البعض تحت تأثير مورثات العنف التي ما زالت كامنةً بين ثنايا الأفكار تنتهز أي فرصةٍ لتعيد تشكيل سلوكنا على هيئة أخرى غير إنسانية حذر منها سيد الإنسانية صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في الحديث المتفق عليه " وَيْلَكُمْ أَوْ وَيْحَكُمْ، لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ" ، وهو ما يفرض علينا بشكل ملحٍّ إعادة قراءة النص الديني وإعادة قراءة تاريخنا مجدداً، وهذا لن يتم إلا بنهضة فكرية وثقافية شاملة يتم من خلالها تحديد القطعي في موروثنا ورد المتشابه إليه، ولا بد عندها من الوقوف بحزم أمام الأفهام المختلفة التي تشكلت حول هذا النص عبر التاريخ بغض النظر عن مكانة صاحب الفهم في التراث الإسلامي، مع حفظ الاحترام للجميع، فالاحترام أو عدمه مسألة خارج إطار البحث العلمي عن الحق أثناء محاولة تنقية النص المقدس مما ران عليه عبر التاريخ، .. سأقول كل هذا وربما أزيد عليه الكثير فيما يخص الحديث عن إصلاح الفكر للنهوض بالأمة، أي عندما يكون حديثنا مقتصراً على تناول جانب محدد، بينما نحن الآن في مسألة الإرهاب الذي أصبح حالة عالمية أمام ظاهرة معقدة تتداخل الأطراف فيها ولا سبيل إلى فهمها إلا بالعمل على الإحاطة بها من كل جوانبها، وأخص بالذكر ما بدأت به عن دور الإعلام الذي نشر حالةً من الذعر تجاه الإسلام، وعممت الحالات الخاصة على فئات إسلامية أوسع، فالعنف لم يكن يوماً مأزقاً خاصاً بالتجربة الإسلامية عبر التاريخ، بل كان مأزقاً إنسانياً عاماً اعترض مسيرة البشرية منذ لحظاتها الأولى، واستمر مع مسيرة التاريخ، ولم تخلو أية تجربة من شذوذات وحالات تطرف عنفي سواءً التجارب الدينية السماوية كالمسيحية واليهودية وآخرها الإسلامية أو تجارب المعتقدات الوضعية المختلفة أو حتى عند أصحاب اللا معتقدات واللا إنتماءات إن صح التعبير ! ..
وهذه " مرة أخرى " ليست محاولة لتبريء أي مذنب وإنما هي محاولة لفتح الآفاق نحو قراءة أخرى خارج سرب قراءات الإعلام الموّجهة، الذي يسهم بقراءته بإعادة تغذية العنف المضاد من خلال نشر ثقافة كراهية متجددة.
وإنني إذ أدعو إلى القراءة المنصفة للأحداث فإنني أشعر بواجب التوجه مراراً وتكراراً إلى أولئك الذين يحلمون بفتح العالم بالإكراه لأقول لهم بأنه آن الأوان لأن نفتح قلوبنا وعقولنا، فالمستفيد الأول والأخير من هذه الأفهام المشوَّهة "والمبنية على نصوص ليست سوى أراء واجتهادات غير مقدسة" هم المنتفعون بكل أصنافهم وسماسرة السلاح وجميع المستكبرين.
ليت الإسكندرية كلها تتحول إلى مجلس عزاء هذه الأيام .. يفتحه المسلمون لأنفسهم أولاً ثم لإخوانهم المسيحيين ولنقدم جميعنا العزاء لأنفسنا .. فنحن وحدنا المقتولون .. جميعنا مقتولون ..
مسلمون ومسيحيون ... وليهنأ كل الجلادين .. ولكن إلى حين !
Facebook Social Comments